من نحن؟ سؤال يجب ألا نتأخر في البحث عن جواب له

عن معضلة زحام الهويات في عصرنا الحاضر

صموئيل هنتنغتون
صموئيل هنتنغتون
TT

من نحن؟ سؤال يجب ألا نتأخر في البحث عن جواب له

صموئيل هنتنغتون
صموئيل هنتنغتون

هناك أسئلة لا تخطر على البال ردحاً من الزمن، ثم إذا حضرت أثارت هلع الإنسان وجلبت له قلقاً وجودياً داخل ذاته وبيته ومجتمعه، وهذا النوع من أصعب وأخطر الأسئلة، ومنها سؤال: «من أنا ؟» أو عندما نفكّر بشكل جمعي «من نحن؟»، هذه التساؤلات الوجودية التي تبحث عن إجابة كي تفسّر معنى الكينونة لذواتنا في عالم شديد التغير والتشكل والسيولة، أصبحت أهم الأسئلة على طاولة الحكومات اليوم، وتبنى عليها طبيعة العلاقات المجتمعية والتحالفات السياسية وتتأسس عليها جملة من التصورات بالغة التعقيد. ولعلي أعلّق على هذه الظاهرة ببعض الرؤى على النحو الآتي:
أولاً: أي فرد في العالم هو جزء من عدة دوائر تحكم علاقته بالوجود الذي يعيشه، وأهمها من الناحية المادية؛ وطنه الذي يحمل جنسيته ويعيش على ترابه ويتبادل مع غيره جملة من المصالح الحاجية، والدائرة الثانية؛ قوميته التي تحدد نوعه وعنصره ولغته التي يتحدث بها، وثالثها؛ ديانته التي يتعبد بها، ومن خلالها تُصاغ رؤيته للعالم والكون والمعاد، هذه الهويات الثلاث التي ترسم هوية الكثير من البشر اليوم وتحدد أهم معالم شخصيتهم وسماتهم الفارقة عن غيرهم، تصنّف أيضاً أنها من الهويات الصلبة لوضوح التمايز والالتفاف حولها، كما أنها تحقق منافع عظيمة يجنيها الفرد أو المجتمع من هذا الانتماء.
وفي عصرنا الحاضر؛ إذا أخذنا الهوية الوطنية للشخصية العربية - على سبيل المثال - فإن أزماته الراهنة المتراكمة منذ عقود تتعمق في البحث عن وظيفة ومسكن ومشفى؛ ثم لا يجد ذلك إلا بصعوبة فائقة، بالإضافة إلى انعدام العدالة الاجتماعية وعدم المساواة في توزيع الثروة والفرص بين أبناء هويته الوطنية؛ مما يؤدي بهذا المواطن إلى مزيدٍ من الإحباط واليأس، فأي مواطنة يمكن أن يفخر بها ويعتز بالانتماء لها واحتياجاته الطبيعية ناقصة أو منعدمة، وكرامته في إهانة وإذلال مستمر، وأصبحت أعظم أحلام الشباب العربي هي في الهجرة أو اللجوء خارج الحدود، وفي إحصائية للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين أن عدد اللاجئين حتى 2021 بلغ 82.4 مليون شخص جلهم من دول عربية، هذه الحالة أدت مع الوقت إلى ذوبان الهويات الوطنية في الهويات القومية الصغيرة والطائفيات الضيقة، وهذا النزوع نحو هويات القبيلة والحزب وميليشيات الحرب؛ قد أدى إلى انقسام العراق والسودان والصومال وسوريا ولبنان وليبيا واليمن، وهو فشل كبير ومتفجر؛ يعود في أصله إلى فشل تلك الدول في ترسيخ هذه الهوية وحمايتها من الغرق في مستنقع الهويات المفخخة، ولا ننسى أيضاً أن حال الهويات القومية والدينية ليس حالاً يبعث بالفأل؛ بل هو غارق في وحل التمزق والشتات. ومن هنا ندرك حقاً أن أزمة فشل بناء الهويات الصلبة ليس أزمة عابرة؛ بل هو المهدد الوجودي لكل مجتمعاتنا العربية الراهنة.
ثانياً: إن سؤال: «من نحن ؟» رغم سذاجته عند الاقتصادي والأمني؛ هو السؤال الذي لا يجب أن نتأخر في البحث عن جواب له؛ حسب ما سبق من معطيات واقعية تمر بها بلادنا العربية على وجه الخصوص، كما يجب إثارته في كل وقت وتُفحَص نتائجه على مستوى الأفراد والمجتمع.
ففي عدد من الدول العظمى بات هذا السؤال (من نحن؟) يشكل أكبر تحدٍ لتوصيف الهوية الجامعة للمجتمع، ويتحرك هذا السؤال فوق رمال ساخنة تهب فوقها رياح عاتية من المتغيرات، فقد أثاره صامويل هنتغتون عام 2004 في كتابه المثير الذي يحمل عنوانه هذا السؤال: «من نحن؟» ليجادل عن الهوية القومية الأميركية، ويشدد أن الأثر البروتستانتي هو العامل الأقوى في الهوية، وهو من يحدد القيم الأميركية الكبرى، وليست القوميات المختلطة وأعراف المهاجرين، وفي الضفة الأخرى من الأطلسي لا يختلف الحال عنه في الاتحاد الأوروبي، فحسب إيريك هوبزباوم المؤرخ البريطاني المعروف؛ يؤكد أنه ليست هناك هوية أوروبية موحدة، وبتعبيره «ليس سوى رد فعل عابر على حروب القرن العشرين الكبرى»، والهوية التي يمكن أن تجمع الأوروبيين اليوم، هو وجودهم في نادٍ جغرافي مسيحي، وهذا بالطبع لم يعدّ رابطاً وجدانياً يوحد الأوروبيين؛ بل الملاحظ هو الغوص أكثر بحثاً عن هويات قومية وثقافية تزيد من تمايزهم في أطياف أوسع، هذا التأزم الهوياتي لم تنج منه اليوم أهم الدول الكبرى كالصين والهند وروسيا، والمفاجئ أن تلك الدول قد اختطت هوياتها بشكل عنيف وملزم، مما جعل الإبقاء عليها هو الطريق المعبّد نحو التلاشي والفناء، فتطلب الأمر تدخلاً جراحياً في بناء هويات جديدة تحقق قدراً من القوة أكثر من القبول، ومن السيطرة أكثر من الاندماج، ولو كان على حساب الأقليات المتعددة فيها، ففي روسيا هناك أزمة هوية كبرى في وجود 70 في المائة من السكان متحدرين من أوروبا، و70 في المائة من مساحتها في آسيا، في ظل اختلال داخلي كبير تقوده نخب ليبرالية وتشوهات رأسمالية؛ كانت نتيجة ذلك التزاحم؛ البحث عن هوية جديدة بملامح قومية قيصرية أرثوذكسية أقرب إلى القرون الوسطى، هذا المعطى بحدّ ذاته قد يفجّر صراعا هوياتياً كبيراً في هذا الجزء من العالم، في داخله ومع جيرانه.
ما أردت التأكيد عليه في هذه المسألة؛ هو أن مسألة الهوية اليوم ليست مجالاً للتأجيل أو اللامبالاة؛ بل إن اللعب غير المدروس في هندستها هو لعب بالنار.
ثالثاً: يمكن أن نخص خليجنا العربي؛ تلك الواحة الوادعة في عالمنا العربي؛ بحديث حول هوياته الصلبة والناعمة، فالشعوب الخليجية تشعر بهويتها الوطنية بوضوح، والاعتزاز بها ظاهر في صور من التعبير التلقائي وغير المتكلف، وهذه الفضيلة الواقعية أسهمت فيها عوامل عدة؛ من أهمها الاستقرار الأمني والعيش الكريم وقدر كبير من الاحترام والتوافق بين السلطة والشعب، كما أن الهوية العربية والإسلامية لم تتذبذب كثيراً في نفوس الأفراد، ولكن هناك مؤشرات مقلقة تدعو تلك المجتمعات الخليجية لليقظة والتحوط من مآلاتها على هوياتهم الصلبة، وهي تلك الهويات السائلة والعابرة نحو مجتمعاتهم، أقصد أن الخليجيين بدأوا يشعرون بأن الهوية الإسلامية السنية الغالبة بينهم تهددها أقلية شيعية ذات ميول إيرانية واستقطاب آيديولوجي شديد، وهي أقلية حزبية لا تمثل مجموع الطائفة الشيعية ذات الولاء الوطني لمجتمعها الخليجي، ومع هذا لا ينبغي التساهل بهذه الجيوب التي قد تسمم المناخ الوطني كما حصل في اليمن ولبنان وسوريا، كما أن تهوين الهوية الدينية بتمرير العقائد السائلة والعابرة لا يخدم حاجة المجتمع لهوية راسخة هي امتداده الروحي والقيمي، ولا ينبغي المراهنة على إضعاف هذا الرسوخ الذي بات احتياجاً عالمياً وإنسانياً، ومن المغالطة العقلية إنكاره.
كما أن سيولة الهويات الاستهلاكية والجندرية من موضات وعادات أجنبية متقلبة وممسوخة من ثقافات مختلفة جداً عن الطبيعة الخليجية قد أثر بشكل كبير في أنماط الانتماء للهوية العربية والدينية، فالمجتمعات الخليجية لم تعد تحفل باستعمال اللغة العربية في تعليمها واقتصادها، وباتت اللغات الأجنبية المختلطة لغات ثالثة ورابعة للتفاهم داخل الدول الخليجية، كما أن حجم العمالة الأجنبية حسب بيانات رسمية في 2018 تقدّر بـ17 مليون عامل، أكثر من ثلثي هؤلاء العمال بنسبة 69.3 في المائة هم عمالة أجنبية وافدة.
أختم بعد هذا العرض بالتأكيد أن مسألة الهوية لم تعد موضة ثقافية باردة، أو ظاهرة جدلية تتمحور في أطروحات المفكرين؛ بل أعتقد أنها جوهر المستقبل الذي نسعى لنعيشه في أوطاننا بعيداً عن الفوضى والفتن، ومن المغامرة أن يُحصر هذا الموضوع المركب من عناصر مؤثرة (الدين واللغة والقومية والقبيلة والأرض...) في لجنة اقتصادية أو خبراء أجانب لتقديمه للمسؤولين في ملفات فاخرة وعروض أنيقة، فاختزال قضايا الهوية بتمييعها وتفريق دمها بين اللجان، أشبه بتعاطي مخدّر يصيب صاحبه في مقتل وهو في قمة الانتشاء.
* باحث وأكاديمي سعودي



«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو
TT

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

في روايتها «عشبة ومطر» دار «العين» للنشر بالقاهرة - تختار الكاتبة الإماراتية وداد خليفة الثقافة العربية سؤالاً مركزياً حائراً بين واقع مشوّش ومستقبل مجهول، حيث تبدو اللغة والتاريخ وكأنهما ينازعان أنفاسهما الأخيرة للصمود داخل قِلاعها العربية نفسها.

وتعتمد الروائية على تقنية الأصوات المتعددة لتعميق صراعات أبطالها مع عالمهم الخارجي، حيث تتشارك كل من بطلة الرواية «عشبة» وابنها «مطر» في نزعة تراثية جمالية يتفاعلان من خلالها مع دوائرهما التي يبدو أنها تتنصّل من تلك النزعة في مقابل الانسحاق في مدّ «الثقافة العالمية» المُعلبّة، ولغة التواصل «الرقمية»، فتبدو بطلة الرواية التي تنتمي إلى دولة الإمارات وكأنها تُنازِع منذ أول مشاهد الرواية من أجل التواصل مع محيطها الأسري بأجياله المتعاقبة، حيث تُقاوم النزعة «السائدة» في ذلك المجتمع العربي الذي بات أفراده يتحدثون الإنجليزية داخل بيوتهم، ولا سيما أجيال الأحفاد وسط «لوثة من التعالي»، «فهؤلاء الأبناء لا يعرفون من العربية سوى أسمائهم التي يلفظونها بشكل ركيك»، في حين تبدو محاولات «عشبة» استدراك تلك التحوّلات التي طرأت على المجتمع الإماراتي أقرب لمحاربة طواحين الهواء، فتأتيها الردود من محيطها العائلي مُثبِطة؛ على شاكلة: «لا تكبّري المواضيع!».

صناديق مفتوحة

يتسلل هذا الصوت النقدي عبر شِعاب الرواية، فتبدو «عشبة» مهمومة بتوثيق العلاقة مع الماضي بذاكرته الجمعية التي تتقاطع مع سيرتها الشخصية منذ تخرجها في معهد المعلمات بإمارة الشارقة وحتى تقاعدها، لتعيد تذكّر تفاعل جيلها مع كبريات التغيّرات السياسية سواء المحلية، وعلى رأسها المخاض الطويل لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، وحتى سياقات الحروب والنكبات العربية منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وصولاً لمجازر «صبرا وشاتيلا» الدامية في لبنان 1982 والنزف الفلسطيني المُستمر، في محطات تجترها البطلة بعودتها إلى قصاصات الأخبار التي ظلّت تجمعها وتحتفظ بها من مجلات وصحف عربية لتؤرشفها وتُراكمها عبر السنوات داخل صناديق، ليصبح فعل تقليبها في هذا الأرشيف بمثابة مواجهة شاقّة مع الماضي، بينما تبدو الصناديق والقصاصات الورقية مُعادلاً للحفظ الإلكتروني والملفات الرقمية التي قد تتفوق في آلياتها وبياناتها، وإن كانت تفتقر إلى حميمية الذكرى، وملمس المُتعلقات الشخصية التي تنكأ لديها جراح الفقد مع كل صندوق تقوم بفتحه: «أعدت غطاء الصندوق الذي يحتاج مني إلى جرأة أكبر لنبشه، ففي الصندوق ثوب فلسطيني طرَّزته أمٌ ثكلى من بئر السبع... أم صديقتي سميرة أخت الشهيد، ودفتر قصائد نازقة دوّنته صديقتي مها من غزة... صورٌ لزميلاتي بالعمل من جنين ونابلس ورام الله... رسائل من صديقتي ابتسام المقدسية... ومن حيفا مفارش مطرزة من صديقة العائلة أم رمزي».

بالتوازي مع تنقّل السرد من حكايات صندوق إلى آخر، يتصاعد الصراع الدرامي لبطل الرواية «مطر» الخبير في تقييم التُحف، الذي يقوده شغفه بمجال «الأنتيك» والآثار القديمة لتتبع مساراتها في مزادات أوروبية تقترب به من عالم عصابات مافيا القطع الأثرية، كما تقوده إلى الاقتراب من حكايات أصحاب القطع الأثرية التي تُباع بالملايين في صالات الأثرياء، كحكاية «مرآة دمشقية» ظلّ صاحبها يتتبعها حتى وصلت لقاعة مزادات «كريستيز» حاملاً معه ذكرى حكاية جدته وأسرته وتشريدهم، وتصنيعهم تلك المرآة بأُبهتها الزخرفية والفنية في غضون ظروف تاريخية استثنائية خلال فترة سيطرة الحكم العثماني في دمشق.

نهب ممنهج

تبدو الرواية التي تقع في 350 صفحة، وكأنها تمنح حضوراً سردياً للقطع الأثرية المفقودة، والمنهوبة، بصفتها شواهد تاريخية تتعقب «تُجار الممتلكات الثقافية»، ودور المزادات، وأمناء المتاحف، وسط متاهات تزوير الوثائق الخاصة بالقِطع وشهادات المنشأ، وتهريب القطع من بلادها، ولا سيما بعد الربيع العربي والحروب الأهلية التي أعقبته، لتفتح ساحات السرقة الممنهجة للآثار في المواقع الأثرية العربية، كما في تونس ومصر وسوريا والعراق، في حين تبدو قصص القطع المفقودة أُحجيات تتبعها الرواية وتحيكها بخيوط نوستالجية تمدّها الكاتبة على امتداد السرد.

تعتني لغة الرواية بالوصف الدقيق للتفاصيل الجمالية التي تبدو في صراع متواتر مع تيار محو أعنف، كقطع السجاد الأصيل وأنواله التقليدية، والزخارف الغرناطية العتيقة على الأسطح، في مقابل ثقافة «الماركات» الاستهلاكية التي تُميّع الذوق العام، والحروف اللاتينية التي تُناظر الحروف العربية وتُغيّبها في لغة الحياة اليومية.

وقد حازت رواية «عشبة ومطر» أخيراً جائزة «العويس للإبداع»، ومن أجواء الرواية نقرأ:

«كنتُ قصيراً، أقفز كي تلمس أطراف أصابعي مطرقة الباب، وبعد أن كبرت قليلاً، وأصبحت أمسكها بيدي، استوقفني شكلها الذي صُنع على هيئة يد بشرية، ثم أدركت أن هناك مطرقتين فوق بعضهما، تعجبت، وسألت أمي عن السبب فقالت: (كانت لدروازتنا مطرقة واحدة، لكن والدك أبهرته فنون بغداد، فجلب منها مطرقتين، مثبتاً المطرقة الأكبر في الأعلى للرجال والمطرقة الأصغر أسفل منها للنساء، ليختصر بذلك السؤال عن هُوية الطارق، فكنا نُميّز الطارق رجلاً أم امرأة من صوت المطرقة)... بِتُ أنصت للطَرق، كنت أعرف طرقات أمي الثلاث، وتعرف أمي طرقاتي المتسارعة، كان هناك طَرقٌ مُبشر، وطرقٌ يخلع القلب، طرق هامس مُدلل، وطرق يُشبه كركرة الأطفال».