التكنولوجيا والإنترنت تسهلان تعاون الصحافيين في كل العالم

أوراق «فيسبوك» و«باندورا» وقبلها تطورات كثيرة غيرت ثقافة الصحافة الاستقصائية

زوكربيرغ
زوكربيرغ
TT

التكنولوجيا والإنترنت تسهلان تعاون الصحافيين في كل العالم

زوكربيرغ
زوكربيرغ

شكلت تسريبات الموظفة السابقة في «فيسبوك» فرانسيس هوغن، عن التجاوزات التي ترتكبها المنصة الأشهر على وسائل التواصل الاجتماعي، مادة سجال غنية. لكن ميدان هذا السجال لم يقتصر هذه المرة، على الحديث عن كيف تجاهلت «فيسبوك»، أو بالكاد تعاملت مع الممارسات الضارة التي وثقتها هوغن، بل طالت أيضاً كيفية تعامل وسائل الإعلام والمنصات الإخبارية الرئيسة مع «ثقافة الصحافة الاستقصائية».
في تقرير نشر أخيراً، بعدما أزيل الحظر الذي كان مفروضاً في ذلك الوقت، على وسائل الإعلام التي شارك ممثلون عنها في اجتماع افتراضي مع هوغن، نظمته شركة علاقات عامة بقيادة بيل بيرتون، الناشط السياسي السابق للرئيس باراك أوباما، كشف تسليمها آلاف الصفحات التي قامت بجمعها من أرشيف «فيسبوك». وأشار التقرير إلى أن تقاليد الصحافة الاستقصائية في طور التغير، بالنظر إلى التطورات التكنولوجية الهائلة، وحجم المعلومات الضخم الذي بات من المتعذر فيه على مؤسسة واحدة أو فرد واحد الإحاطة بها.
وغني عن القول إن الصحافة الأميركية، كانت ولا تزال تقود هذا النوع من التحقيقات الصحافية، نظراً لقربها من مراكز صنع القرار في واشنطن، الأمر الذي يمكنها من كشف العديد من الأسرار، التي تعكس في واقع الحال، موقع الولايات المتحدة ودورها العالمي، وامتلاكها أسراراً، ليست متاحة للجميع.
وبحسب التقرير، كان على المشاركين الذين بلغ عددهم 18 مؤسسة صحافية، من بينها «نيويورك تايمز» و«سي إن إن» و«أسوشييتدبرس»، في الاجتماع الافتراضي الذي عقد عبر دائرة «زووم»، أن يلتزموا بعدم نشر ما اطلعوا عليه من معلومات قبل 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. ومع أن المشاركين هم من الصحافيين المحترفين، الذين يتنافسون عادة في نشر تلك «الأسرار»، كان هناك التزام بالحظر، رغم «خروق»، برّرها أصحابها، بأنها حصيلة جهد المؤسسة وصحافييها بمعزل عن الوثائق الرسمية التي اطلعوا عليها في الاجتماع. واتُّهمت صحيفة «نيويورك تايمز» بأنها قامت بنشر بعض الوثائق، قبل 3 أيام من انتهاء الحظر، في خطوة مماثلة لحادثة سابقة تتعلق بنشر تقارير عن اضطهاد الصين للمسلمين الإيغور، سرّبها الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين ومقره واشنطن، العام الماضي. بيد أن الصحيفة ردت بلسان المتحدثة باسمها دانييل رودزها، بأن مراسليها اطلعوا من مصادرهم الخاصة على جوانب من الوثائق الخاصة بـ«فيسبوك»، وأبلغوا المعنيين عنها قبل نشرها، وهو «ما لا يتعارض مع الحظر الذي لا يسري على الوثائق الخاصة بالصحيفة».
واللافت في السجال الدائر أنه يكشف عن جهود مشتركة تتعاون فيها مؤسسات وأفراد عابرون للحدود، يتهم بعضها بأنها قد تكون مرتبطة بأجندات غير محايدة، بمعزل عن «الفائدة» العامة التي تكشفها تلك التسريبات. فالاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، كان قد كشف في سبتمبر (أيلول) الماضي، عن دعوته نحو 600 صحافي في 117 دولة، للاطلاع على ملايين الوثائق المسرّبة التي توضح بالتفصيل، نظاماً مالياً سرياً يستخدمه الأشخاص الأقوياء والأثرياء في جميع أنحاء العالم، سُميت «أوراق باندورا». وهي أكبر مشروع من نوعه، في أعقاب جهود تعاونية أخرى بقيادة المجموعة نفسها، التي كشفت عن الملاذات الضريبية الخارجية، والممارسات التجارية لصناعة التبغ العالمية، والمراقبة الجماعية وعمليات الاحتجاز التي تقوم بها الصين ضد الإيغور.
أهمية هذه التغييرات والجهود المبذولة فيها، أنها تعكس التغير الذي طرأ على صناعة الأخبار وطريقة نشرها وتعميمها، بعدما بات من الصعب على المنافذ الإخبارية، أن تجاري سرعة انتقال الخبر في العالم الرقمي المفتوح، والإحاطة بالكم الهائل من المعلومات التي تنتشر بسرعة كبيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت تحظى بشعبية هائلة.
ويضيف التقرير أنه، على عكس معظم المشاريع التي يقودها الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، لم تشارك المجموعة التي قادت «الكونسورتيوم» الخاص بـ«فيسبوك»، تقاريرها أو الأسئلة المتعلقة بها مع بعضها البعض. إذ كان الهدف هو إعطاء كل وسيلة إعلامية شاركت في الاجتماع الافتراضي الفرصة ذاتها لنشر التسريبات. لكنها أرادت أيضاً إحداث أكبر ضجة إعلامية ممكنة، عبر الإفراج عن تلك التسريبات دفعة واحدة من عشرات المواقع الإخبارية. وهو ما فاقم عملياً من الهجمات والمشكلات التي تواجهها شركة «فيسبوك» ورئيسها التنفيذي مارك زوكربيرغ، الذي وصف هذا التنسيق الإعلامي بأنه «جهد منسق للاستخدام الانتقائي للوثائق المسرّبة لرسم صورة خاطئة عن شركتنا».
ونتج عن تلك التسريبات سلسلة من القصص التي بدأت صحيفة «وول ستريت جورنال» أولاً بكشفها، في سبتمبر (أيلول) الماضي، بعد حصولها على أجزاء من تلك الملفات، سلّمتها لها هوغن أولا، وكشفت، من بين أمور أخرى، كيف أصبح «فيسبوك» منصة للتضليل بشأن اللقاحات، والاتجار بالبشر، والهجمات السياسية التي شنت على شرعية الانتخابات الأميركية التي أجريت عام 2020.
وفي كل حالة، أظهرت الوثائق أن الشركة كانت على علم بالمشكلة لكنها لم تفعل شيئاً يذكر لمعالجتها، وغالباً لأن الفائدة المادية والأرباح التي تحصّلها كانت تقتضي بألا تتدخل لإزالتها.
ورغم ذلك، وبمعزل عن الاتهامات التي وجهت إلى «فيسبوك»، كان كشف تسريبات هوغن مثيراً للاهتمام، لأنه منح المؤسسات الإخبارية إمكانية الوصول إلى مجموعة هائلة من المواد، لم يكن بإمكان وسيلة إعلامية واحدة أن تمتلكها بمفردها. فالصحافي الاستقصائي، عادة ما يكون فرداً منعزلاً يمارس عمله بسرية مطلقة، ويجري اتصالاته بعيداً عن الأعين والسمع. لكن الآن وفي ظل «المقايضة»، التي تتعارض مع تقاليد الصحافة الاستقصائية والتنافس الإعلامي، للانفراد بنشر الخبر، يقول البعض إن الفائدة العامة، كانت أكبر تأثيراً مما تحققه الوسيلة الإعلامية من سبق صحافي. وفي ظل التكنولوجيا الحديثة، والقدرة على مشاركة ملايين المستندات عبر الإنترنت، أصبح التعاون في جميع أنحاء العالم أسهل. فالقصص أصبحت «معقدة للغاية ومتعددة الطبقات وعالمية»، بحيث أصبح من المستحيل الإبلاغ عنها بالكامل من دون شبكة عالمية من الصحافيين.
في المقابل يناقش البعض، بأن ربط نشر الخبر بشركاء آخرين، قد يتعارض مع أجندة وزاوية ومصلحة كل موقع إخباري، وحريته في الاختيار أو التأكد من المعلومة، من مصادره الخاصة. وهذا بدوره قد يقود إلى تساؤلات عن ضمان الحيادية في تعميم الخبر، خصوصاً إذا تحولت تلك التجمعات الإخبارية المشتركة إلى مؤسسات كبرى ممولة، سواء من أفراد أو شركات أو حتى دول، قادرة على صناعة «رأي عام أممي» عابر للحدود.
وهذا ما يذكر بأحد أفلام شخصية «جيمس بوند» في تسعينيات القرن الماضي، عندما خاض معركة مع مليونير شرير، أراد السيطرة على العالم عبر سيطرته على وسائل الإعلام، بعدما استشرف كاتب سيناريو الفيلم بداية عصر الإعلام الرقمي.


مقالات ذات صلة

السعودية: تطوير حوكمة الإعلام بدليل شامل للمهن

إعلام الدليل يحدد متطلبات ومسؤوليات ومهام جميع المهن الإعلامية (واس)

السعودية: تطوير حوكمة الإعلام بدليل شامل للمهن

أطلقت «هيئة تنظيم الإعلام» السعودية «دليل المهن الإعلامية» الذي تهدف من خلاله إلى تطوير حوكمة القطاع، والارتقاء به لمستويات جديدة من الجودة والمهنية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق مبنى التلفزيون المصري «ماسبيرو» (تصوير: عبد الفتاح فرج)

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

أثار إعلان «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي تساؤلات بشأن دوافع هذا القرار.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
شمال افريقيا الكاتب أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام (موقع الهيئة)

مصر: «الوطنية للإعلام» تحظر استضافة «العرّافين»

بعد تكرار ظهور بعض «العرّافين» على شاشات مصرية خلال الآونة الأخيرة، حظرت «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر استضافتهم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» أثارت جدلاً (تصوير: عبد الفتاح فرج)

​مصر: ضوابط جديدة للبرامج الدينية تثير جدلاً

أثارت قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بمصر المتعلقة بالبرامج الدينية جدلاً في الأوساط الإعلامية

محمد الكفراوي (القاهرة )
الولايات المتحدة​ ديبورا والدة تايس وبجانبها صورة لابنها الصحافي المختفي في سوريا منذ عام 2012 (رويترز)

فقد أثره في سوريا عام 2012... تقارير تفيد بأن الصحافي أوستن تايس «على قيد الحياة»

قالت منظمة «هوستيدج إيد وورلدوايد» الأميركية غير الحكومية إنها على ثقة بأن الصحافي أوستن تايس الذي فقد أثره في سوريا العام 2012 ما زال على قيد الحياة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

هل تنجح مساعي دمج صُنّاع المحتوى داخل غُرف الأخبار؟

صحف سعت لاجتذاب صُنّاع المحتوى (متداولة)
صحف سعت لاجتذاب صُنّاع المحتوى (متداولة)
TT

هل تنجح مساعي دمج صُنّاع المحتوى داخل غُرف الأخبار؟

صحف سعت لاجتذاب صُنّاع المحتوى (متداولة)
صحف سعت لاجتذاب صُنّاع المحتوى (متداولة)

يبدو أن ثمة تطوراً جديداً ربما يظهر داخل «غرف الأخبار»، بعدما سعت صحف بارزة، مثل «واشنطن بوست»، لاجتذاب صُنّاع المحتوى بهدف «تعزيز التواصل مع الجمهور»، في حين أثارت مساعي دمج صُنّاع المحتوى (المؤثرون) داخل غُرف الأخبار تساؤلات بشأن «ضمانات التوازن بين المعايير المهنية والتكيّف مع تطلّعات الجمهور».

ووفق تقرير معهد «رويترز لدراسة الصحافة»، العام الماضي، فإن «الجمهور من الفئات الأقل من أربعين عاماً يعيرون اهتماماً أكبر لصُنّاع المحتوى، أو ما يطلقون عليهم لقب (مؤثرون)، بوصفهم مصدراً للمعلومات وكذلك الأخبار».

كما أشارت دراسة استقصائية ضمن مبادرة «بيو-نايت» الأميركية، المعنية برصد التغيرات في كيفية استهلاك الأخبار والمعلومات، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، إلى أن أكثر من خُمس البالغين في الولايات المتحدة يعتمدون بانتظام على «المؤثرين» للحصول على الأخبار.

ومع ذلك، فإن معظم هؤلاء «المؤثرين» الذين ينشرون الأخبار لا ينتمون إلى مؤسسات إخبارية ولا يخضعون لتدريب صحافي. وحسب دراسة أجرتها منظمة «اليونيسكو» ونُشرت نتائجها، نهاية نوفمبر الماضي، فإن غالبية هؤلاء المؤثرين (62 في المائة) لا يتحقّقون من صحة المعلومات التي يشاركونها مع جمهورهم، ما يُثير مخاوف من انتشار «المعلومات الزائفة».

ومعروف أن ثمة تجارب بدأت تخوضها أخيراً غرف الأخبار للدمج بين الصحافي المدرب وصانع المحتوى صاحب الكاريزما والجمهور. وظهرت، في هذا الإطار، نماذج؛ مثل: «واشنطن بوست»، والمنصة الأميركية «مورنينغ بيرو» التي أطلقت بالفعل مبادرات يقودها صُنّاع محتوى على منصات التواصل الاجتماعي، غير أن الاتجاه لا يزال قيد التجربة والتقييم، حسب ما يبدو.

الخبير في إدارة وتحليل بيانات «السوشيال ميديا»، مهران كيالي، رهن نجاح تجربة دمج صُنّاع المحتوى في غرف الأخبار بـ«تنظيم العلاقة بين الطرفين»، وقال لـ«الشرق الأوسط» إنه «على غرف الأخبار أن توفّر لصُنّاع المحتوى أدوات؛ مثل: التحقق من المصادر، والالتزام بأخلاقيات الصحافة، في حين يقدّم صُنّاع المحتوى خبراتهم في الإبداع الرقمي وفهم الجمهور على المنصات الحديثة». وأضاف: «كما يجب تقنين العلاقة من خلال وضع إطار واضح يحدّد المسؤوليات وأسلوب العمل».

غير أن كيالي أشار إلى «تحديات أمام تجربة دمج صُنّاع المحتوى في غرف الأخبار»، قائلاً: «هناك نظرة سلبية من قِبل بعض الصحافيين التقليديين تجاه صُنّاع المحتوى، بل هم يعدونهم دخلاء على المهنة، رغم امتلاكهم جمهوراً واسعاً وتأثيراً كبيراً». وأضاف: «بعض المؤسسات الصحافية تعاني صعوبة التكيّف مع أسلوب المحتوى السريع والبسيط الذي يتناسب مع منصات التواصل الاجتماعي، خشية خسارة الصورة الوقورة أمام الجمهور».

وعدّ كيالي أن غرف الأخبار قبل أن تستعين بصُنّاع المحتوى، هي بحاجة إلى «التجهيزات والإجراءات التي تمكّن الصحافيين من إنتاج ونشر محتوى رقمي جذاب بسرعة».

وعن الحلول لتجاوز هذه التحديات، أوضح الخبير في إدارة وتحليل بيانات «السوشيال ميديا» أنه «يجب على المؤسسات تحديث سياساتها وتوفير الدعم الفني والتدريب اللازم للصحافيين، مع تغيير النظرة السلبية تجاه صُنّاع المحتوى والبحث عن تعاون».

وأشار كذلك إلى أهمية تحقيق التوازن بين المهنية والتطوير، قائلًا: «بعض غرف الأخبار تحتاج إلى تعزيز مصداقيتها بالالتزام بمبادئ الصحافة، من خلال تجنّب المصادر غير الموثوقة وتدقيق المعلومات قبل نشرها»، و«لجذب الجمهور، يجب تقديم محتوى يلامس اهتماماته بأسلوب مبسط مع استخدام أدوات حديثة مثل الفيديوهات القصيرة؛ مما يضمن الجمع بين الدقة والجاذبية لتعزيز الثقة بعصر المنافسة الرقمية».

المحاضرة في الإعلام الرقمي بالجامعة البريطانية في القاهرة، ياسمين القاضي، ترى أن بعض المؤسسات الإخبارية لا تزال تعتمد الاستراتيجيات «القديمة» نفسها على وسائل التواصل الاجتماعي، وقالت لـ«الشرق الأوسط»: «منذ سنوات تبنّت بعض وسائل الإعلام مفهوم (التحويل إلى منصات) من خلال جمع المعلومات وتدقيقها، وهو الدور الأصيل للصحافة، ثم نشرها بأسلوب يحاكي وسائل التواصل الاجتماعي، غير أن هذا الاتجاه ربما لن يكون كافياً في ضوء احتدام المنافسة مع صُنّاع المحتوى، مما أفرز اتجاه الاستعانة بـ(المؤثرين)».

وأوضحت القاضي أن «الغرض من دمج صُنّاع المحتوى في غرف الأخبار، هو تقديم المعلومات المدققة بأسلوب مبتكر». وأضافت أن «الاستعانة بشخصية مؤثرة لنقل المعلومات لا تعني بالضرورة المساس بمصداقية المحتوى ودقته، فالأمر يعتمد على مهارة كُتّاب المحتوى، فكلما كان الكُتاب صحافيين محترفين يسعون لتطوير أدواتهم ضمنت منصة الأخبار تقديم معلومات دقيقة وموثوقة».