مي التلمساني: أنطلق من ثقافتي العربية فأنا أراها تنفتح على الكون كله

الروائية المصرية مُنحت وسامَ الفنون والآداب الفرنسي برتبة فارس

مي التلمساني
مي التلمساني
TT

مي التلمساني: أنطلق من ثقافتي العربية فأنا أراها تنفتح على الكون كله

مي التلمساني
مي التلمساني

«دائما هناك شغف بالحياة»، عبارة تتردد أصداؤها بقوة في أعمال الروائية مي التلمساني، حتى في لحظات الإحباط والألم. خلال العام الجاري تُوج هذا الشغف بالإعلان عن منحها وسام الفنون والآداب الفرنسي برتبة فارس، وسوف تتسلمه في يناير (كانون الثاني) القادم في حفل رسمي تقيمه السفارة الفرنسية بالقاهرة.
وأيضاً صدر لها أخيراً روايتها «الكل يقول أحبك» التي جسدت تعقيدات الهجرة خارج الوطن، لتكمل بذلك مسيرة روائية تقارب ثلاثين عاماً، من أبرز محطاتها «دنيا زاد» و«هليوبوليس» و«أكابيلا».
هنا حوار معها حول عالمها الروائي و«بيت التلمساني» الذي تريده منتجعاً ثقافياً لاستضافة الكتاب الراغبين في التفرغ للكتابة.
> كيف تلقيتِ خبر منحك وسام الجمهورية الفرنسية؟
- مفاجأة، لمستني كثيراً، والأكثر من الخبر المحبة التي تلقيتها بعده. أسعدتني كلمة وزارة الثقافة الفرنسية وكلمة السفير الفرنسي. ومن المقرر أن تكون مراسم تسلم الوسام يناير المقبل في القاهرة، ومن المنتظر أن تعلَن وقتها حيثيات الاختيار، الذي يمتد في مساحة الكتابة الإبداعية باللغة العربية وثلاث روايات مترجمة للفرنسية، وعن دوري في العمل الثقافي الذي يمتد لنحو ثلاثين عاماً.
أنا قادمة من منطقة تفتخر بالثقافة، وأرى دائماً أن المشترك الإنساني هو الهاجس الأول لي، وأظن أن مشروعي يحمل تلك القيمة، فإن كنت أنطلق من ثقافتي العربية فأنا أراها ثقافة تنفتح على الكون كله، ولديَّ اعتراف بكل المنجز الإنساني أياً كان، رواية عربية، أو أوبرا إيطالية، أو فيلم فرنسي.
> تربطين بين فكرة كونية الثقافة وبين خروجك من عائلة التلمساني. حدّثينا عن تلك الجذور...
- علاقة العائلة أصيلة بالفنون والآداب، عمي كامل التلمساني يعد رائد السينما التسجيلية في مصر وهو أيضاً فنان تشكيلي، ومن رواد حركة السوريالية في مصر من أواخر الثلاثينات إلى أوائل الأربعينات من القرن العشرين، ووالدي مخرج أفلام تسجيلية وصاحب شركة «أفلام التلمساني» التي تخصصت في إنتاج الأفلام التسجيلية في السبعينات والثمانينات، فكل العائلة لديها اهتمام بالثقافة الإنسانية الرحبة سواء مكتوبة باللغة العربية أو الإنجليزية أو الفرنسية، وأنا نشأت في هذا الإطار الذي يحتفي بكل أنواع الفنون، ولا أعترف بالفروق بين الآداب المحلية أو المصرية والعربية وبين فنون وآداب العالم، وأنا حقاً متأثرة جداً بحياة كامل التلمساني الذي يعد أحد أبرز دعائم الأسرة، وكان لديه نفس الرغبة في التحرر من قيود الثقافة، بما يتجاوز الحدود القومية وتبني تصور أشمل وأوسع عن الثقافة بوصفها ثقافة الإنسان في كل مكان، بغضّ النظر عن أصولها ومنابعها.
التفكير بهذه الطريقة لا يجعل هناك تراتبية في الثقافات، والنظر لها في إطار المد الاستعماري أو الإمبراطوري، أشعر أن كل الثقافات بها تماسٌّ مع إشكاليات عنف واحتلال وقهر للآخر، وكل الثقافات أيضاً تستطيع تجاوز ذلك من خلال الإنتاج الفني والأدبي وتقدم للإنسانية شيئاً بديعاً، تقاوم به سطوة العنف التاريخي، من هنا أنتمي لكل تلك الثقافات العربية والفرنسية، وحتى تأثري بثقافات شرق آسيا إلى آخر الثقافات الإنسانية بشكل عام، وأتصور أن انتمائي لبيت التلمساني ونشأتي في تلك البيئة والإطار، ساعداني على أن أكون الشخص الذي أصبحت عليه اليوم.
> وكيف كان لتلك النشأة أثرها على نظرتك للهجرة؟
- حتى في نظرتي للهجرة، منحتني تلك النشأة نظرة أوسع، جعلتني لا أنظر لها من زاوية الاغتراب والابتعاد، بقدر ما أتطلع لها دائماً كتجربة ثرية، أنظر لها بفضول التعرف والاقتراب من التنوع الثقافي واللغوي الذي تتيحه، والانفتاح على العالم، كل هذا كان بذرته الأولى في بيت أسرتي.
> «الكل يقول أحبك» رواية أولى عن الهجرة في مشروعك... كيف تشكّلتْ لديك؟
- رغم أنني مهاجرة منذ 24 عاماً فإن هذه هي أول رواية أكتبها ترتبط بالهجرة إلى كندا وعمّا يفعله التنقل في البشر. قبل ذلك كتبت سلسلة مقالات أسبوعية عن الحركة بين هنا وهناك، ومع ذلك كنت متخوفة من مدى اهتمام القارئ العربي وانفعاله برواية تدور أغلب أحداثها في كندا، إلا أنني مطمئنة الآن بالتعليقات الإيجابية الكثيرة، وكيف أنها لمست مشاعر إنسانية حقيقية حتى لو كانت تدور في مكان بعيد.
> المكان لديكِ دائماً بطل، حتى لو كان المكان هو «الرحم» في «دنيا زاد»...
- هذا حقيقي تماماً، أتذكر مكان طفولتي الأول في حي «مصر الجديدة»، ظللت أتعامل معه بوصفه لحظة الانسلاخ من الطفولة ومكانها الأول، ظل المكان يحمل داخلي معنى المصير، كأنه رحم طفولتي، لذلك نقلت تلك المشاعر عن المكان في روايتي «هليوبوليس» بوصفه المكان القديم، أو حتى أكتب عن لا مكان عن الإطلاق كما في رواية «أكابيلا»، حيث فقط أشرت إلى أنها تدور في مكان يقع على نهر، فصحيح أنني مشغولة بالمكان دائماً، وأعدّه هاجساً، ودائماً ما أعتقد أن المكان قضية أنثوية، فيما الزمن سؤال ذكوري، دائماً المكان يرتبط بالأنثى، بدايةً من الرحم مروراً بعلاقتها بالبيت وما يتبعه من تصورات أنثوية حول توسعته وتجميله، فالمكان بكل مشاعره الحسيّة وامتداداته أقرب للأنثى.
> نَفَذْتِ في تناولك الروائي لقضية الهجرة من خلال تعقيدات الحب. حدّثينا عن ذلك.
- نعم الحب عن بُعد تحديداً، والعلاقات العاطفية التي تفصلها مسافات، فهي قضية لم يُكتب عنها الكثير حتى في الأدب العالمي، رغم أنني أعدّها قضية كونية. كنت أفكر كيف يمكن للغياب أن يؤثر على علاقات الحب، ففي كندا مثلاً هناك عدد كبير من المهاجرين الذين يضطرون وفقاً لظروف العمل هناك أن يعمل كل من الزوجين في مدينتين بعيدتين، فهذا على صعيد العلاقات الشخصية، وهناك أيضاً تطور العلاقة بالوطن مع البُعد، ففي الرواية هناك مَن قطع علاقته بوطنه، وهناك نماذج تسعى للإبقاء على وصال بوطنها، فدائماً العلاقات بين عودة وتواصل ومسافة، حاضرة بقوة في حياة الهجرة.
> تناولت الرواية العلاقات العاطفية والزوجية بكثير من المصارحة...
أردت أن أنسج حالة الحياة اليومية دون نقض للواقع أو الحقائق، لذلك فأنا أحب إحسان عبد القدوس الذي كان يكتب قصص الحب التي تضرب في جذور الواقع في وأعماق الحقيقة، من خلال الرومانسية. أردت أن أبحث داخل الشخصيات العادية عن تعقيدات تتعلق بالحب والمناطق المعتمة فيه، فإحدى بطلات الرواية وهي «نورهان» تعمل موظفة في وزارة الصحة، وتعمدتُ أن أرسم لها نمط حياة تقليدياً، ومع ذلك كانت لديها ملامح زوجية معقدة، أعتقد أن تلك التعقيدات تتيح مساحة أكبر للحوار والتحليل النفسي خلال الكتابة، عن مجرد توصيف الملامح الخارجية الواقعية للعلاقات.
وأظن أن هذا في حد ذاته أحد كان أحد طموحات الرواية، أن تُظهر ما قد يبدو عادياً على السطح بثراء نفسي كبير. كذلك كشف التناقض بين الأنا والآخر، فالشخصيات تتداخل ويحكي بعضها عن بعض وعن أنفسها بشكل أقرب لفكرة الحوار المكسور. عالم يجمع بين ناس لا يستمع بعضهم إلى بعض، ولعل هذا يعكس في حد ذاته صعوبة الحوار الإنساني نفسه، وفكرة التماس الأعذار كذلك، وعن الأفكار التي تستقر لدى البعض ولا يسمحون أن يتبناها شركاؤهم... في النهاية أنا متعاطفة مع الجميع، فأنا لا أميل إلى الكتابة الانتقامية بقدر ما أميل للكتابة عن التعاطف مع الخلل الإنساني.
> الحب حاضر دائماً في كتاباتك، إلا أنه يظهر مختلفاً في كل مرة. ما مبرر ذلك؟
- أحد أبرز تحديات الكتابة بالنسبة لي ألا أكرر نفسي لا على مستوى الكتابة ولا مستوى المضمون، ففي رواية «دنيا زاد» رغم ما حققته من نجاح لم أكرر الكتابة في منطقتها إطلاقاً، فلا علاقة بها برواية «هليوبوليس» مثلاً، فلديّ رغبة في التجديد دائماً من خلال موضوعات جديدة، وأسعى أن يكون الرابط بينها في النهاية هو الأسلوب الذي أكتب به ويخصني. فهاجس الكتابة لديَّ هو استكشاف المكان وترسيخ ذاكرة لشخصيات رواياته، مثل شخصية «الأم» في «دنيا زاد»، وشخصية «عايدة» في «أكابيلا»، فأنا أشعر فعلاً أن شخصياتي على قيد الحياة ويعيشون الواقع. وهذا على ما أعتقد يحدث مع كثير من الكتاب، وله تفاصيل عميقة جداً.
> تنطلقين في سردك من نظرة مشهدية أقرب لومضات السينما... صحيح ذلك؟
- «الكل يقول أحبك» قمت فعلاً بكتابتها بمنطق الكتابة السينمائية، حتى إنني أتمنى أن تتحول إلى فيلم يحافظ على بناء الرواية الذي تصورته، فأنا أكتب من منطقة حُب تقع بين الأدب والسينما، وأفكر عبر صور سينمائية، أفكر وأكتب بشكل بصري، وعادةً ما أحب الاستفادة من تراث الفنون في أعمالي، حدث ذلك في مجموعة قصص «عين سحرية» التي كانت السينما فيها مرجعية رئيسية في الكتابة، وفي رواية «أكابيلا» استفدت من الأوبرا والموسيقى.
أعتقد أن الأدب عندما يقوم باستيعاب الفنون الأخرى يستفيد ويرتقي، فالفنون كلها لغة للتواصل. والناقد المغربي محمد برادة أشار لفكرة تواصل الفنون في كتاباتي، وفعلاً هذا يجذبني بشكل كبير.
> ما جديد «بيت التلمساني» خلال الفترة المقبلة؟
- ننتظر استقبال أول ضيف أجنبي مع مطلع العام الجديد، وسنستقبل كاتبتين للإقامة في البيت مع نهاية شهر يناير لمدة أسبوعين للتفرغ للكتابة، وأنا سعيدة بفكرة العزلة وأن هناك كتّاباً لديهم مشروعات كتابة ويسعون للتفرغ لها، هذا يطمئنني. ومن المنتظر أن يستقبل البيت خلال الموسم المقبل، من يناير حتى يونيو (حزيران)، ورش عمل وأنشطة متنوعة، وكذلك فعاليات ضمن مهرجان السوريالية الذي يتم تنظيمه بين جمعيات أهلية من مصر وفرنسا، حيث نستقبل عدداً من الكتاب والرسامين والشعراء في إطار هذا العنوان، بالإضافة لورش كتابة مختلفة.
> كيف تصفين حالة ترحالك الدائم بين العمل الأكاديمي والإبداعي؟
- أعيش في عوالم موازية، يتقاطع بعضها مع بعض من خلال الكتابة، فأكتب رواية، أو بحثاً أكاديمياً، أو نقداً سينمائياً، أو ترجمة، جميعها أنشطة لها علاقة بعالم الكتابة، تطغى على حياتي اليومية مهنتي بالتدريس وما تتطلبه من وقت، وحضور وتواصل مع الطلبة، يجعل لديّ دائماً هاجس الوقت والتفرغ من أجل إتاحته لمساحة الكتابة الإبداعية.
فاليوم بعد أكثر من ثلاثين عاماً من العمل الأكاديمي والعمل الإبداعي منذ عام 1990، أجد أنني ما زلت أخلق توازنات بينهما، لكن كل الأنشطة تصب في اتجاه واحد وهو اتجاه احتفاء بالثقافات والحركة والتنقل، والبحث الدائم عن المشترك الإنساني الأكبر سواء في كتابة إبداعية أو أبحاث أكاديمية.



رحيل إبراهيم أبو سنة... شاعر الرومانسية العذبة

الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة
الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة
TT

رحيل إبراهيم أبو سنة... شاعر الرومانسية العذبة

الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة
الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة

حياة حافلة بالعطاء الأدبي، عاشها الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة الذي غيّبه الموت صباح أمس عن عمر يناهز 87 عاماً بعد معاناة طويلة مع المرض.

ويعد أبو سنة أحد رموز جيل شعراء الستينات في مصر، واشتهر بحسه الرومانسي شديد العذوبة، وغزلياته التي تمزج بين الطبيعة والمرأة في فضاء فني يتسم بالرهافة والسيولة الوجدانية. كما تميزت لغته الشعرية بنبرة خافتة، نأت قصائده عن المعاني الصريحة أو التشبيهات المباشرة؛ ما منح أسلوبه مذاقاً خاصاً على مدار تجربته الشعرية التي اتسعت لنصف قرن.

ترك أبو سنة حصاداً ثرياً تشكل في سياقات فنية وجمالية متنوعة عبر 12 ديواناً شعرياً، إضافة إلى مسرحيتين شعريتين، ومن أبرز دواوينه الشعرية: «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» 1965، و«أجراس المساء» 1975، و«رماد الأسئلة الخضراء» 1985، و«شجر الكلام» 1990.

عاش صاحب «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» طفولة قروية متقشفة تركت أثراً لافتاً في شعره؛ إذ ظل مشدوداً دائماً إلى بداهة الفطرة وواقعية الحياة وبساطتها.

وبحسب الموقع الرسمي للهيئة المصرية العامة للاستعلامات، وُلد أبو سنة بقرية الودي بمركز الصف بمحافظة الجيزة في 15/3/1937، وحصل على ليسانس كلية الدراسات العربية بجامعة الأزهر عام 1964. عمل محرراً سياسياً بالهيئة العامة للاستعلامات في الفترة من عام 1965 إلى عام 1975، ثم مقدم برامج ثقافية بالإذاعة المصرية عام 1976 من خلال «إذاعة البرنامج الثاني»، كما شغل منصب مدير عام البرنامج الثقافي، ووصل إلى منصب نائب رئيس الإذاعة.

وحصد الراحل العديد من الجوائز منها: «جائزة الدولة التشجيعية» 1984 عن ديوانه «البحر موعدنا»، وجائزة «كفافيس» 1990 عن ديوانه «رماد الأسئلة الخضراء»، وجائزة أحسن ديوان مصري في عام 1993، وجائزة «أندلسية للثقافة والعلوم»، عن ديوانه «رقصات نيلية» 1997، فضلاً عن «جائزة النيل» في الآداب التي حصدها العام الجاري.

ونعى الراحل العديد من مثقفي مصر والعالم العربي عبر صفحاتهم على منصات التواصل الاجتماعي، ومنهم الشاعر شعبان يوسف الذي علق قائلاً: «وداعاً الشاعر والمبدع والمثقف الكبير محمد إبراهيم أبو سنة، كنتَ خيرَ سفيرٍ للنبلِ والجمالِ والرقةِ في جمهورية الشعر».

وقال الشاعر سمير درويش: «تقاطعات كثيرة حدثت بين الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة وبيني، منذ بداياتي الأولى، فإلى جانب أنه صوت شعري صافٍ له تجربة طويلة وممتدة كان لي شرف الكتابة عنها وعنه، فهو إنسان حقيقي وجميل وطيب ومحب للآخرين، ولا يدخر وسعاً في مساعدتهم».

ويضيف درويش: «حين كان يقرأ الشعر بصوته في برنامجه الإذاعي، كنت أحب القصائد أكثر، فمخارج الحروف وإشباعها وتشكيلها، وليونة النطق، إلى جانب استعذاب الشعر... كلها مواصفات ميزته، كما ميزت فاروق شوشة والدكتور عبد القادر القط... ثمة ذكريات كثيرة لن أنساها يا أستاذنا الكبير، أعدك أنني سأكتبها كلما حانت فرصة، وعزائي أنك كنتَ تعرف أنني أحبك».

ويستعيد الكاتب والناقد الدكتور زين عبد الهادي ذكرياته الأولى مع الشاعر الراحل وكيف أحدث بيت شعري له تغييراً مصيرياً في حياته، قائلاً: «ربما في سن المراهقة كنت أقرأ الشعر حين وقع في يدي ديوان صغير بعنوان (قلبي وغازلة الثوب الأزرق) لمحمد إبراهيم أبو سنة حين قررت الهجرة خارج مصر عام 1981، كان الديوان الصغير وروايات (البلدة الأخرى) لإبراهيم عبد المجيد، و(البيضاء) ليوسف إدريس، و(حافة الليل) لأمين ريان، و(ميرامار) لنجيب محفوظ... هي شهود انتماءاتي الفكرية وما أتذكره في حقيبتي الجلدية».

ويضيف عبد الهادي: «كان الغريب في هؤلاء الشهود هو ديوان محمد إبراهيم أبو سنة، فبقدر حبي للعلم كان الأدب رحيق روحي، كنت أقرأ الديوان وأتعلم كيف يعبّر الشعر عن الحياة المعاصرة، إلى أن وصلت لقصيدة رمزية كان بها بيت لا أنساه يقول: (البلاد التي يغيب عنها القمر)، في إشارة لقضية ما أثارت جدلاً طويلاً وما زالت في حياتنا المعاصرة، كان هذا البيت أحد أهم دوافع عودتي من الغربة، فمهما كان في بلادي من بؤس فهو لا يساوي أبداً بؤس الهجرة والتخلي عن الهوية والجذور».

أما الشاعر سامح محجوب مدير «بيت الشعر العربي» بالقاهرة فيقول: «قبل 25 عاماً أو يزيد، التقيت محمد إبراهيم أبو سنة في مدرجات كلية (دار العلوم) بجامعة القاهرة، وأهداني وقتها أو بعدها بقليل ديوانه المهم (قلبي وغازلة الثوب الأزرق)، لأبحث بعد ذلك عن دواوينه الأخرى وأقتني معظمها (مرايا النهار البعيد، والصراخ في الآبار القديمة، ورماد الأسئلة الخضراء، ورقصات نيلية، وموسيقى الأحلام)، وغيرها من الدواوين التي قطع فيها أبو سنة وجيله من الستينيين في مصر والوطن العربي مسافة معقولة في توطين وتوطئة النص التفعيلي على الخط الرأسي لتطور الشعرية العربية التي ستفقد برحيله أحد أكبر مصباتها».

ويضيف: «يتميز نص أبو سنة بقدرته الفائقة على فتح نوافذ واسعة على شعرية طازجة لغةً ومجازاً ومخيلةً وإيقاعاً، وذلك دون أن يفقد ولو للحظة واحدة امتداداته البعيدة في التراث الشعري للقصيدة العربية بمرتكزاتها الكلاسيكية خاصة في ميلها الفطري للغناء والإنشادية. وهنا لا بد أن أقرّ أن أبو سنة هو أجمل وأعذب مَن سمعته يقول الشعر أو ينشده لغيره في برنامجه الإذاعي الأشهر (ألوان من الشعر) بإذاعة (البرنامج الثاني الثقافي) التي ترأسها في أواخر تسعينات القرن المنصرم قبل أن يحال للتقاعد نائباً لرئيس الإذاعة المصرية في بداية الألفية الثالثة؛ الفترة التي التحقت فيها أنا بالعمل في التلفزيون المصري حيث كان مكتب أبو سنة بالدور الخامس هو جنتي التي كنت أفيء إليها عندما يشتد عليّ مفارقات العمل. كان أبو سنة يستقبلني بأبوية ومحبة غامرتين سأظل مديناً لهما طيلة حياتي. سأفتقدك كثيراً أيها المعلم الكبير، وعزائي الوحيد هو أن (بيت الشعر العربي) كان له شرف ترشيحك العام الماضي لنيل جائزة النيل؛ كبرى الجوائز المصرية والعربية في الآداب».

عاش صاحب «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» طفولة قروية متقشفة تركت أثراً لافتاً في شعره

وفي لمسة احتفاء بمنجزه الشعري استعاد كثيرون قصيدة «البحر موعدنا» لأبو سنة التي تعد بمثابة «نصه الأيقوني» الأبرز، والتي يقول فيها:

«البحرُ موعِدُنا

وشاطئُنا العواصف

جازف

فقد بَعُد القريب

ومات من ترجُوه

واشتدَّ المُخالف

لن يرحم الموجُ الجبان

ولن ينال الأمن خائف

القلب تسكنه المواويل الحزينة

والمدائن للصيارف

خلت الأماكن للقطيعة

من تُعادي أو تُحالف؟

جازف

ولا تأمن لهذا الليل أن يمضي

ولا أن يُصلح الأشياء تالف

هذا طريق البحر

لا يُفضي لغير البحر

والمجهول قد يخفى لعارف

جازف

فإن سُدَّت جميع طرائق الدُّنيا أمامك

فاقتحمها

لا تقف

كي لا تموت وأنت واقف».