لماذا تغيب «الرواية الرشيقة» في الكتابة الروائية العربية؟

كتاب معروفون أعطوا أعمالهم حجوماً كبيرة أكثر من انهماكهم في فنيتها

الطيب صالح
الطيب صالح
TT

لماذا تغيب «الرواية الرشيقة» في الكتابة الروائية العربية؟

الطيب صالح
الطيب صالح

تحظى الرواية اليوم بمكانة خاصة بين الأجناس الأدبية كالقصة القصيرة وقصيدة النثر والمقالة، وتتعدد أسباب امتلاك الرواية هذه الحظوة بيد أن تلك الأسباب بالمجموع لا تتعدى مسائل التلقي التي فيها تُلبي الرواية رغبات القراء في فهم العصر وفهم متغيرات ظروفه. ولو كانت الرواية معقدة اللغة ومركبة البناء وكانت منطوية على رؤى فلسفية جامدة وعويصة لتعسرت قراءتها، ولكان حالها حال أي مادة علمية أو فكرية تلقى اهتماماً من لدن المتخصصين حسب.
ولا خلاف في أن شمولية الرواية في رصدها الواقع بكل ما فيه من صور وممارسات وكذلك تلاؤمية لغتها وأسلوبها لمختلف الأذواق والمستويات، قد جعلتاها تقف على رأس الهرم القرائي الذي قوامه أجناس الأدب الأخرى بكل ما فيها من أنواع وأنماط وأشكال وصيغ.
وكلما كانت الرواية يسيرة وممتنعة، بدت أكثر نجاحاً من غيرها، ملبية ما يريده القراء منها، أياً كانت درجات اليسر وطبيعة التمنع. ولقد طغى سوق الرواية طغياناً واضحاً وازداد الإقبال عليها وكثُر عدد كتابها الموصوفين بأنهم روائيون. وقد يبدو هذا الازدياد في إنتاج الرواية تأليفاً ونشراً أمراً طبيعياً. وإذا ما علمنا أن غالبية المنتج الروائي يتسم بإطار واقعي، فإننا سنفهم سبب اللااكتراث لدى عدد من روائيينا العرب بتجريب أساليب جديدة في الكتابة السردية تخرق النسقية الحداثية، بل إن الغالب عليهم هو الاكتراث بمسايرة المعتاد السردي بلا تجريب ولا ابتداع، باستثناء الكتاب الذين يضعون تطلعاتهم الفنية في كفٍ، ورغباتهم الموضوعية في كف أخرى موازنين بين الفن والموضوع واضعين الشكل إزاء المضمون.
ومن مؤشرات عدم الاكتراث بفنية الرواية العربية الراهنة الاعتقاد بأنه كلما ازداد عدد صفحاتها، ظُن أن لها مستوى يؤكد ما بذله كاتبها من جهدٍ ومشقة في تأليفها. وقد لا نخالف جادة الصواب إذا قلنا إن عدداً من كتابنا المعروفين انهمكوا في إعطاء رواياتهم حجوماً كبيرة أكثر من انهماكهم في فنية ما تعكسه تلك الحجوم. فغالباً لا تتوفر فيها النوعية الفنية المميزة، وإنما هو حشو وتطويل لا يُراد منه سوى التباهي، وكأن قيمة الأشياء تكمن في ظاهرها الخارجي، وليس في نوعية ما تحويه داخلها من جمال.
عَن لي هذا الموضوع عندما أُحيلت إلي دراسة للتقييم من إحدى المجلات الأكاديمية التابعة لجامعة عربية عريقة، وكانت المادة المبحوثة رواية عربية معاصرة وصاحبها ما انفك النقد العربي يُغني رواياته بالدراسة والاهتمام أكثر من سواه. وكان الوقت المحدد لي ضيقاً والرواية موضوع البحث من بين الروايات التي لم أقرأها للكاتب، وحين حصلتُ عليها فاجأني كُبر حجمها بالقياس إلى المدة المحددة لي لإنجاز مهمة تقويم الرواية. فوجدتني أستغرق في قراءتها أكثر مما استغرق مني تقييم الدراسة النقدية نفسها. ليس ذلك حسب، بل هو ما اكتشفته من الحشو والإطالة والإغراق الذي ما كان لهذا الروائي أن يقع فيه لو أنه تقصد ترشيق جمله السردية، فجعل روايته في مائتي صفحة بدل أن تكون في خمسمائة إلا نيفاً من الصفحات.
ولعل هذا الترهل في الرواية مقصود كطريق به يُغالط الروائي نفسه ما بين التماس مع موضوع سياسي، وبين النأي عن أن يكون في موضع اتخاذ قرار يوصله إلى الاحتكاك أو التصادم مع المنظومة الثقافية التي لها الفضل أصلاً في التعريف باسمه والترويج لأعماله الروائية. ولعل كثيرين سقطوا في هذه القصدية فكانوا في دوامة التباري من الذين فهموا اللعبة الروائية، وظنوا أن قيمة الرواية هي في مدى تمطيط كاتبها الموضوع مطاً ليستطيل من دون أن يكون وراء الاستطالة أي جدوى أو ضرورة فنيتين.
ومن مؤكدات هذا التباري في التطويل، أننا لم نعد نُصادف رواية عربية عدد صفحاتها يقل عن مائة أو حتى مائتي صفحة، وكأن هناك عدوى استشرت بين الروائيين العرب وجعلتهم يرون أن من تقاليد الرواية أن تكثر صفحاتها، فتتعدى المائتين، وبغض النظر عن طبيعة الموضوعات والأساليب التي يطرقونها.
لو أمعنا النظر في الرواية العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين وقبيل نهايته - أي قبل أن تستشري حمى المسابقات الأدبية - لوجدنا أن الغالب عليها حجومها التي تناسب مقتضيات محتواها الموضوعي ومتطلبات بنائها الفني، خذ مثلاً روايات نجيب محفوظ كـ«زقاق المدق» و«بداية ونهاية» و«ثرثرة فوق النيل»... إلخ، وروايات الطيب صالح، منها رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، وروايات إسماعيل فهد إسماعيل مثل «كانت السماء زرقاء»، وروايات جمال الغيطاني وغائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي وغيرهم ممن تقع صفحات رواياتهم بين 150 إلى 300 صفحة، وهي مساحة كافية لكي يلعب فيها الروائي الحاذق مبتغياً الوصول إلى غاياته من دون إثقال مغالٍ ولا تحشيدٍ مسرف.
وما كان للروايات الكلاسيكية العالمية أن تكون بحجوم قياسية تتجاوز مئات الصفحات مثل رواية «الحرب والسلم» لتولستوي، و«الإخوة كرامازوف» لديستويفيسكي، وكذلك روايات كُتبت في القرن العشرين كـ«الدون الهادئ» لشولوخوف، لولا أن القارئ آنذاك ما كان يضايقه طول الرواية، بل كان يجد في قراءة مئات الصفحات سلوى له في وقت متسع لا وسائل تجذب وعيه فتلهيه عن التلقي المعرفي والمتعة الفنية، مما يجده القارئ اليوم الذي هو مشتت ومشغول في ظل الإنترنت، ومحاط ومحاصر بمختلف الوسائط الرقمية المتيسرة بالعموم والمتاحة والقريبة من واقعه المادي.
وليس من أمرٍ على الروائي أن يضعه في باله مثل أمر أن يؤلف رواية بها يجذب القراء، ويستقطب اهتمامهم، من خلال عدم ادخار أي جهد في سبيل ترشيق روايته ترشيقاً به تتمكن من أن تنافس ما في عالم الإنترنت من وسائط رقمية وتطبيقات حاسوبية صارت تنافس الأدب - هذا إذا كان الروائي واضعاً في حسابه القراء مطوعاً خبراته كي يظفر بأكبر قدر منهم - ومن المهم اليوم لكتاب الرواية التفكير في أيسر السبل وأرشقها، فلا يستغرقون استغراقاً ينفر القراء من أعمالهم بدل أن يجذبهم إليها.
ولا خلاف أننا في تأكيدنا خطر الترهل في الكتابة الروائية لا ندعو إلى تخطي العفوية في الكتابة، ولا إلى التعسف جوراً على الفن وتضييقاً في الموضوع، إنما نسعى إلى مراعاة الاختصار في الكتابة، وعدم إرهاق الصفحة الواحدة بعشرات الأسطر التي يمكن اختزالها في سطرين اثنين، إن لم نقل في جملتين اثنتين فقط. إذ ليس في صالح الروائي أن تبدو روايته مترهلة بفكرة محدودة وفنية متواضعة فتكون كمثل «من يحضر دجاجة ويطبخها في قزان ما» ـــ والوصف لأحمد خالد توفيق في كتابه «توتيات من العصور الوسطى، 2013» (منقول بتحوير). فتخرج الرواية للقراء مترهلة بأربعمائة أو خمسمائة صفحة أو أكثر، وقد حُشيت سطورها حشواً وحُشدت صفحاتها تحشيداً، وبغلواء لا ترحم القراء ولا تراعي صبرهم في القراءة.
ولقد نأى الروائيون الكبار بأنفسهم عن الترهل، فعرفوا كيف يرشقون رواياتهم فتظهر للقراء مكتنزة وقد أخذ بعضها بأعطاف بعض، ولاءمت أشكالها طبيعة محتوياتها، فهذا إيتالو كالفينو يقول: «لست روائياً من أصحاب الروايات المطولة، إنني أركز على فكرة أو تجربة داخل نص توليفي قصير» (روايته «لو أن مسافراً في ليلة شتاء» ترجمة حسام إبراهيم، 2013. ص 5).
ولسنا نغفل أمر «النوفيلا» بوصفها نوعاً سردياً يُمكن للكاتب أن يعالج عبره موضوعاً من الموضوعات الواقعية بطريقة مناسبة لا تطويل فيها... لكن الرواية تظل متقدمة على النوفيلا بقالبها الأجناسي العابر للحدود. وهو ما يجعل التحبيك الروائي يتم بإيقاعية أكثر تعقيداً مما هو في النوفيلا أو في غيرها من الأنواع السردية.
ولا خلاف في أن الحشو والإغراق مسلكان من مسالك إخفاء العيوب والمداراة على ما لدى الكاتب من إمكانات متواضعة من ناحيتي الخبرة والموهبة. من هنا تغدو القصة القصيرة بقالبها السردي المختزل هي الأكثر قدرة على غربلة المواهب وكشف الحقيقي منها عن الطارئ بعكس الرواية التي ضاعت جمالياتها في المغالبة المحمومة في حشو صفحاتها تغطية على العيوب والنواقص والتفافاً على الرسالة المراد توصيلها إلى القارئ. وما تأشيري على هذه الظاهرة سوى توكيد لحقيقة أن مستقبل الأجناس السردية سيكون لصالح القصة القصيرة كجنس به تعرف إمكانيات الكاتب عدة وعتاداً حتى لا مجال معها للتزويغ الكتابي والتداري الخفي فلا يضيع النوع بالكم، ولا تتحدد القيمة بالحجم.
وإذا كانت قيمة الرواية الجمالية لا تتحدد بعدد صفحاتها، فإن من الأهمية بمكان ترشيق الرواية ترشيقاً تتجلى فيه قيمتها الحقيقية. وكثير من الروايات التي لا يشك أحد في قيمتها الفنية كانت رشيقة، وما زالت رشاقتها إلى اليوم تجلب لها نجاحاً فنياً لافتاً للنظر، خُذ مثلاً رواية «صخب البحر» لفوكنر، ورواية «المسخ» لكافكا، ورواية «ليس في رصيف الأزهار من يجيب» لمالك حداد، ورواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني، ورواية «صورة الفنان في شبابه» لجيمس جويس.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.