العلم يبرهن على وجود الله للمرة الأولى

كتاب اشترك فيه 20 فيلسوفاً وعالماً يثير ضجة كبيرة في فرنسا

ميشيل - إيف بولوريه - اوليفيه بوناسييس
ميشيل - إيف بولوريه - اوليفيه بوناسييس
TT

العلم يبرهن على وجود الله للمرة الأولى

ميشيل - إيف بولوريه - اوليفيه بوناسييس
ميشيل - إيف بولوريه - اوليفيه بوناسييس

ينبغي أن نموضع الأمور ضمن سياقها التاريخي لكي نفهم سبب الهزة التي يُحدثها هذا الكتاب القيّم في الأوساط الثقافية الفرنسية منذ أسبوعين أو ثلاثة. ينبغي أن نفرّق بين سياقهم وسياقنا لكي نفهم الأمور على حقيقتها. مسألة وجود الله محسومة عندنا ولا يخطر على بال أحد أن يجادل فيها. معاذ الله. ولكن الأمر ليس كذلك في فرنسا وعموم الغرب حيث تهيمن الفلسفة المادية الإلحادية بشكل شبه مطلق على الجميع. من يؤمن بوجود الله عندهم يعد شخصاً رجعياً متخلفاً عن ركب الحضارة والعصر! بالطبع لا تزال هناك قطاعات مسيحية ولكنها مهمشة وتعد من مخلفات العصور المنقرضة أو المرشحة للانقراض. وبالتالي فالوضع عندهم معاكس تماماً للوضع عندنا. قام بتأليف هذا الكتاب الضخم «الله العلم البراهين» مفكران اثنان: الأول هو ميشيل - إيف بولوريه، وهو مهندس في مجال المعلوماتية وحاصل على شهادة الدكتوراه في مجال العلوم وإدارة شؤون الأعمال من جامعة «باريس - دوفين». أما الآخر فهو اوليفيه بوناسييس، خريج مدرسة البوليتكنيك الشهيرة، أي الكلية المتعددة الاختصاصات والمجالات العلمية. ويبدو أنه كان ملحداً حتى سن العشرين. وبعدئذ هداه الله إلى الإيمان وتخلى كلياً عن الفلسفة المادية الإلحادية. لقد أصبح مؤمناً بفضل الثقافة والتجربة والمعاناة والنضج الفكري أيضاً. أصبح يعتقد أن الإيمان بوجود الله شيء عقلاني تماماً. ولم يعد يعد ذلك خرافة من الخرافات كما يعتقد الملاحدة. وقد استغرق تأليف هذا الكتاب الضخم منهما ثلاث سنوات متواصلة. كتب مقدمة الكتاب البروفسور روبيرت ويلسون، أحد كبار مشاهير علم الفيزياء الأميركيين من حَمَلَة جائزة نوبل عام 1978. صحيح أنه ليس متديناً على المستوى الشخصي، إلا أنه تحمس للكتاب وقال ما معناه: على الرغم من أن الأطروحة القائلة بوجود روح ذكية أو عقل أعلى يقف خلف الظواهر كمسبب خالق للعالم لا تبدو له كافية إلا أنه يعترف بتماسكها ومنطقيتها. ثم أضاف: هذا الكتاب يقدم منظوراً مهماً جداً عن العلوم الفيزيائية الفلكية والانعكاسات الفلسفية والدينية المترتبة عليها.
هذا الكتاب من أفضل الكتب مبيعاً في فرنسا حالياً على الرغم من ضخامته وسعره المرتفع نسبياً. وقد تم تأليفه بالاشتراك مع عشرين شخصية من كبار العلماء والفلاسفة. وبالتالي فهو كتاب جماعي، إذا جاز التعبير. هذا وقد كتبت عنه جريدة «الفيغارو» فور صدوره قائلة: هذا حدث هائل. أخيراً العلم الفيزيائي الفلكي يتوصل إلى البرهنة على وجود الله. هذا الكتاب يقلب كل قناعاتنا السابقة الراسخة. هذا الكتاب يروي لنا ملحمة العالم الكبرى. إنه الكتاب الذي يوضح لنا كيف خلق الله الكون لأول مرة عن طريق الانفجار الأعظم أو ما يُدعى باللغة الإنجليزية: البيغ بانغ. وهو الانفجار الذي حصل قبل نحو 14 مليار سنة فقط! من اللاشيء خُلق كل شيء. كنْ فيكون. سبحان الله. إنه لقرآن كريم. من المعلوم أن العالم الفيزيائي الأميركي الشهير جورج سموت كان أول من اكتشف أقدم صورة للبيغ بانغ: أي أقدم صورة للكون وهو في الدرجة صفر أو أقرب ما يكون إليها. وهي صورة تصوِّر الكون ليس في لحظة البيغ بانغ: هذا مستحيل. وإنما بعد حصولها بـ380000 ألف سنة فقط. وهي أقدم صورة يمكن أن نراها عن الانفجار الأعظم الذي أدى إلى تشكل الكون والأفلاك والمجرات. فماذا رأى يا ترى؟ هل عميت عيناه؟ هل خر صعقاً؟ شيء من هذا القبيل... رأى أضواء وشلالات نورانية ملونة بألوان زعفرانية أرجوانية برتقالية تخطف الأبصار، وعندئذ صرخ قائلاً وهو الملحد: «أقسم بالله شعرت في تلك اللحظة كما لو أني رأيت وجه الله»! سبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ما الأطروحة الأساسية للكتاب؟
بالمختصر المفيد إنها تقول لنا ما معناه: طيلة أربعة قرون من كوبرنيكوس وحتى فرويد مروراً بغاليليو وداروين، تراكمت علينا الاكتشافات العلمية بشكل صارخ ومذهل. وأوهمتنا بأنه يمكن تفسير العالم من دون اللجوء إلى فكرة وجود إله خالق للكون. ألم يقل لابلاس لنابليون عندما سأله: وأين مكانة الله في كل هذا؟ فأجابه ذلك الجواب الشهير: «جلالة الإمبراطور هذه فرضية ما عدنا بحاجة إليها»! عندئذ وصلت غطرسة العلم إلى درجتها القصوى. وعلى هذا النحو انتصرت الفلسفة المادية الإلحادية في الغرب على الفلسفة الإيمانية. بل تفرعنت واستفحلت واحتلت الساحة كلياً بدءاً من أوائل القرن العشرين. وأصبح كل شخص غير مادي أو غير ملحد يُعد شخصاً متخلفاً من الناحية العقلية وربما بحاجة إلى معالجةٍ سيكولوجية نفسانية!
والآن أصبحنا نشهد حركة معاكسة للعلم: حركة تبرهن على وجود الله الخالق عز وجل. لقد انعكست الآية. فمعظم الاكتشافات التي تتالت في القرن العشرين تميل إلى ذلك. نذكر من بينها نظرية النسبية لأينشتاين، وعلم الميكانيكا الحرارية، ونظرية البيغ بانغ أو الانفجار الأعظم الذي أدى إلى تشكل الكون، وعلم الفلك الكوني، وعلم الميكانيك الكمي والموجي، أي الفيزياء التي تدرس اللامتناهي الصغر، وعلم الأحياء البيولوجية واكتشاف الجينوم الوراثي للإنسان، والتعيير العلمي للكون عن طريق قوانين دقيقة صارمة لا يحيد عنها قيد شعرة... يقول المؤلفان ما معناه: كل هذه الاكتشافات العلمية تخلص إلى النتيجة التالية: أن للكون بداية محددة تماماً، أي أنه مخلوق في لحظة ما، وإذا كانت له بداية فهذا يعني وجود سبب أو مسبب لهذه البداية. وبالتالي فالخلاصة الأكثر منطقية تدفعنا إلى الاعتقاد بوجود روح ذكية تقف خلف الظواهر، أي وجود عقل عُلوي أعظم يحرك كل شيء من خلف الستار. مَن الذي أعطى النقرة الأولى للانفجار الأعظم وخلق العالم؟ باختصار شديد، كل هذا دليل على وجود خالق أعظم للكون. كل هذه الاكتشافات والنظريات تتالى بعضها وراء بعض على مدار القرن العشرين. وهذه المعارف الجديدة لغّمت من الداخل اليقينيات المادية الإلحادية المسيطرة على العقلية الجماعية للغرب. على هذا النحو حصل انقلاب كبير في الفكر إلى درجة أنه يمكن القول إن الفلسفة المادية الإلحادية هي التي تبدو الآن كأنها لاعقلانية وليس العكس! أخيراً انتصر الإيمان على الإلحاد. ولكنه الإيمان بالمعنى الفلسفي الواسع لا الأصولي الضيق. أنه إيمان واسع سعة الكون.
الخلاصة
في بداية القرن العشرين وعلى مدار مائة سنة كان الإيمان بوجود إله خالق للكون يبدو كأنه خرافة مضادة للعلم والعقل في الغرب. كانوا يضحكون عليك إذا ما ذكرت ذلك. وأما الآن في بدايات هذا القرن الحادي والعشرين فقد انعكست الآية. الآن أصبح الإيمان بوجود الله هو السائد. والدليل على ذلك أن 90% من العلماء الكبار الحائزين على جائزة نوبل هم من المؤمنين بوجود إله خالق للكون. فقط 10% بقوا ملاحدة. أما الأدباء والفلاسفة الحاصلون على جائزة نوبل في مجال الآداب فهم مؤمنون بنسبة 65% فقط وملاحدة بنسبة 35%.
ولكن السؤال المطروح هنا هو التالي: ماذا كان يوجد قبل البيغ بانغ أو الانفجار الأعظم الذي أدى إلى تشكل الكون؟ البعض يقولون لك: لا شيء. البيغ بانغ هو بداية البدايات، هو نقطة الصفر. قبل نحو 14 مليار سنة لم يكن يوجد أي شيء. وهذا يعني أنه من اللاشيء خُلق الشيء، من العدم خُلق الوجود. عدنا إلى القرآن الكريم: كنْ فيكون! من اللانهائي الصغر بحجم رأس الدبوس أو أصغر بمليون مرة خُلق اللانهائي الكبير: أي هذا الكون الهائل الضخم بكل أفلاكه وكواكبه ومجراته والذي هو في حالة توسع مستمرة. يا إلهي!
وتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر

نعود إلى السؤال مجدداً: ماذا كان يوجد قبل الانفجار الأعظم وخلق الكون؟ هل يمكن أن نتحدث عن زمن ما قبل الزمن، عن حدث ما قبل الحدث؟ لنقل كان يوجد الزمن اللازماني، والمكان اللامكاني، والمادة اللامادية. كان يوجد الخواء والعدم. ثم قال الله عز وجلّ للوجود: كنْ فيكون!
ونحن سكان الكرة الأرضية ما علاقتنا بكل ذلك؟ نحن تقريباً لا شيء بالنسبة لحجم الكون. الأرض كلها عبارة عن ذرة صغيرة ضائعة في هذا الكون الشاسع الواسع. كنا نعتقد أننا مركز الكون فإذا بنا على هامش الهامش. كنا نعتقد أن مجرتنا المدعوة بدرب التبانة هي وحدها الموجودة في الكون. وهي المجرة التي تحتوي على شمسنا العزيزة وأرضنا الغالية. ولكن يبدو أنه يوجد في الكون 2000 مليار مجرة مثل مجرتنا وربما أكبر بكثير. فتخيلوا الوضع إن كنتم تستطيعون...
والآن ماذا عن عمر الكون؟ عمره كما قلنا 14 مليار سنة أو بشكل أدق: 13.7 مليار سنة. ومتى سيموت؟ بعد 20 مليار سنة فقط. عندئذ سينتهي كل شيء وتقوم القيامة. انتهت الحفلة: السلام عليكم، وعليكم السلام. وماذا عن عمر الشمس؟ 10 مليارات سنة. انقضى منها خمسة مليارات ولم يبق لشمسنا العزيزة الغالية إلا خمسة مليارات أخرى قبل أن تنطفئ وتموت. يا حرام! عندما سمعت بذلك لأول مرة جُنّ جنوني. قلت بيني وبين نفسي: يا إلهي إذا ما انطفأت الشمس فسوف أموت أنا أيضاً. وعشت في حالة من الذعر والرعب لا توصَف. ولم أكد أنام الليل والنهار. ثم استفقت من غيبوبتي وقلت: أيها الجاهل الأحمق ما علاقتك بالموضوع؟ هل تعتقد أنك ستعيش أكثر من خمسة مليارات سنة وأنك سوف تشهد انطفاء الشمس؟ على أي حال أعطيكم موعداً بعد مليون سنة قادمة لأن وقتي ضيق مزدحم ومواعيدي أصبحت كوسمولوجية لا تقاس بمقاييسكم العادية الصغيرة أكثر من اللزوم.


مقالات ذات صلة

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط
كتب «أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

«أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت رواية «أبريل الساحر» للكاتبة البريطانية إليزابيث فون أرنيم، التي وُصفت من جانب كبريات الصحف العالمية بأنها نص مخادع وذكي وكوميدي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ

د. ربيعة جلطي (الجزائر)
ثقافة وفنون قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

عن دار «طيوف» بالقاهرة صدر كتاب «مرايا الفضاء السردي» للناقدة المصرية دكتورة ناهد الطحان، ويتضمن دراسات ومقالات نقدية تبحث في تجليات السرد العربي المعاصر

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق الكاتب السعودي فيصل عباس مع السفير البريطاني نيل كرومبتون خلال الأمسية الثقافية

أمسية ثقافية بمنزل السفير البريطاني في الرياض للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني»

أقام السفير البريطاني في الرياض أمسية ثقافية في منزله بالحي الدبلوماسي للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني» للكاتب السعودي ورئيس تحرير صحيفة «عرب نيوز».

«الشرق الأوسط» (الرياض)

القوة في موازين الحياة

القوة في موازين الحياة
TT

القوة في موازين الحياة

القوة في موازين الحياة

يسعى كتاب «لعب الأدوار بقوة» للكاتبة والباحثة الأميركية، ديبورا جرونفيلد، إلى تفكيك مفهوم «القوة»، بما له من حمولات سيكولوجية، واجتماعية، وسياسية، وإنثروبولوجية، والتعرُّف على علاقة الإنسان بهاجس «القوة التي لا يمتلكها» بصفتها «المُحرِك الرئيسي للعلاقات الإنسانية»، بتعبير الفيلسوف البريطاني برتراند راسل.

صدرت الترجمة العربية للكتاب عن دار «آفاق» للنشر والتوزيع بالقاهرة، بتوقيع المترجمة المصرية نيفين بشير، وفيه تُجري الكاتبة ديبورا جرونفيلد، الباحثة في جامعة «ستانفورد» الأميركية، مقاربة بين مفارقات القوة في الحياة وموازين دراما المسرح، بما يُحيل لفلسفة ويليام شكسبير: «الدنيا مسرح كبير»، فتبدو فصول الكتاب وهي تتعقب مفهوم القوة وعلاقتنا المتعثرة بها، كأنها تُحاكي مراحل تصاعد مسرحية يتشارك الأبطال الظهور فيها على خشبة المسرح تباعاً، لاختبار علاقتنا بالقوة والضعف على السواء، فتُطلق على الفصل الأول: «عندما يُرفع الستار»، الذي تؤسس فيه لمفهوم القوة «التي تفتح الأبواب وتغلقها»، وماهية القوة التي تُقرر مَن ينتصر في الحرب؟ وما الذي نحارب من أجله؟ وكيف نعيش؟ وتحت أي قوانين؟ أو كما تُلخصها مسرحية «هاميلتون» الموسيقية: «تُحدد القوة مَن يعيش، ومَن يموت، ومن يروي قصتك».

متلازمة «البطل الخارق»

يطرح الكتاب، عبر «318» صفحة، القوة ليست بوصفها سلطة و«نفوذاً»، بقدر ما يطرحها بوصفها سؤالاً وجودياً؛ حيث تعامل الإنسان مع القوة بصفتها وسيلة للخلود، وخشية من الموت، ويحيل الكتاب لمقولة العالم السياسي هانز مورجنثاو إلى أن الاحتياج إلى الحب والقوة ينبعان من البئر الوجودية ذاتها؛ حيث تبدو أكبر مخاوفنا في الحياة أنها تتعلق بالوحدة أو الطرد من المجموعة، وأننا «نسعى للحب والقوة من دون وعي لهذا السبب، وعندما تزيد مخاوفنا تنطلق هذه الدوافع».

يلفت الكتاب هنا إلى ما يُعرف بمتلازمة «البطل الخارق»، التي تشير إلى أن مجموعة ثانوية من الأشخاص في ضوء احتياجهم للقوة طوَّروا أوهاماً عن أنفسهم، لمساعدتهم على التعامل مع مشاعرهم بعدم الأمان، فالقوة قوة جاذبة، كما يصفها الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، الذي تتوقف الباحثة عند كتابه «إرادة القوة»، الذي تأمَّل فيه كيف أن إرادة القوة ليست مجرد خاصية من خصائص الحياة فحسب، بل هي ماهيتها الرئيسية؛ حيث إرادة القوة تتفوق على نفسها باستمرار، وهو ما يعدّه نيتشه جوهر الحياة.

ولفت نيتشه إلى أن الغريزة مصدر قوة الإنسان، الذي يمنحه السرور والنشوة والقوة، وهي التي تُحرك الإنسان، سواء كان ذلك من خلال فعل الفرد القوي أو الفرد الضعيف، وفي حين تبدو مسألة ربط القوة بالسلطة جدلية، تُشير مؤلفة الكتاب إلى أنها ليست دقيقة؛ إذ إن «كثيراً من الناس في مواقف شتى يشعرون براحة أكبر وراء الكواليس عما لو كانوا في دائرة الضوء، فكثير يُفضل أن يكون محبوباً وليس خائفاً».

تُهيمن لغة القوة على آليات السياسة التي يُعاد تشكيلها بصور متعددة داخل دائرة القيادة

منطق الاستقواء

تسعى الباحثة إلى تطبيق سيكولوجية القوة من زوايا مختلفة، من بينها غريزة مملكة الحيوان، التي تجعل الحيوانات تعرف بالفطرة طرق البقاء آمنة، وكيفية الارتقاء داخل المجموعات، وأحياناً يتعيّن عليها إظهار الاحترام، وفي أوقات أخرى إظهار الهيمنة، وهي أمور تُظهر الخيط الموصول الأبدي بين الخوف وتطويع القوة.

وتُهيمن لغة القوة على آليات السياسة، التي يُعاد تشكيلها بصور متعددة داخل دائرة القيادة. وذكرت المؤلفة في هذا الصدد كثيراً من الانتقادات التي وُجهت للرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش في فترة إعصار «كاترينا»، بسبب عدم قدرته على استخدام «القوة» المنتظرة منه بصفته رئيس دولة كبرى، وكذلك الرئيس الأميركي السابق ترمب، الذي يتعمّد أن تحمل تغريداته عبر المنصات الرقمية نغمة «الاستهزاء» بوصفها أداة لفرض القوة. وهنا تقول الكاتبة: «الرئيس ترمب متخصص في هذا الأسلوب»، وتفرد أمثلة لكيفية استخدامه وسائل تحط من قدر خصومه السياسيين، لتصبح ضربات لفظية جارحة مُصممة لتحقير الآخرين، ما تعدّها آلية «استقواء» يلجأ إليها المرشح الأميركي للرئاسة منذ سنوات طويلة.

وتنظر الكاتبة لفكرة «الاستقواء» من منظور آخر؛ ذلك الذي يُمثله الإيمان بعدالة «قضية مشتركة»، وضربت المثل بسؤال أُلقي على الإعلامية الأميركية الشهيرة أوبرا وينفري ذات يوم، خلال استضافتها في جامعة «ستانفورد»؛ إذ سألتها طالبة عن مشاعرها وهي تحضر اجتماعاً تعرف أنها ستكون فيه المرأة السمراء الوحيدة بين عدد كبير من الرجال ذوي البشرة البيضاء، فاستعارت وينفري هنا قصيدة «جداتنا»، للشاعرة الأميركية الراحلة مايا أنجلو (1928- 2014): وهي قصيدة كرّمت بها أنجلو أسلافها، والمعارك التي خاضوها من أجل الحرية، وتقول فيها: «لا أحد، لا، ولا مليون أحد يجرؤ على حرماني من الله. أتقدّم وحدي واقفة كعشرة آلاف».

وتتخيّل المؤلفة دخول وينفري المسرح وفي وجدانها جيش من النساء، ما جعلها تشعر بأنها ليست الوحيدة ذات البشرة السمراء في الغرفة، بل «واحدة من عدد من النساء اللاتي لعبن أدواراً كبيرة وصغيرة في مكان آخر، وفي أوقات أخرى في التاريخ، النساء من أصل أفريقي، واللاتي أردن مثلها مزيداً لأنفسهن ولأحبائهن، واللاتي عملن بجد، وحاربن الاضطهاد وكسرن الحواجز مثلها»، في استبصار بمنطق القوة، الذي يستند إلى عقيدة، أو إيمان مُشترك بعدالة قضية ذات دلالة تاريخية ونضالية.