«سالب واحد»... المسرح ينتصر بإنسانية لـ«أصحاب الهمم»

حفلت المكتبة المسرحية عالمياً وعربياً على مدى تاريخها بنصوص وشواهد وشخوص درامية عكست قضية الإعاقة، واكتظت خشبات المسرح بمعالجات متعددة تصدت للإعاقات بمختلف أشكالها، كما تضمنت طاقات انفعالية أجّجت عاطفة المشاهدين وساهمت في تغيير رؤاهم تجاه أصحاب الاحتياجات الخاصة، وبعيداً عن التجارب التي جنحت نحو الإسفاف، تبرز أعمال انتصرت لقضية ذوي الاحتياجات الخاصة باعتبارهم قوة قادرة على المشاركة الحقيقية في المجتمع، كما أنّها لعبت دوراً حيوياً في التثقيف بحقوقهم، ومن أشهرها مسرحية «أوديب» لسوفوكليس، و«العميان» لموريس ميترلنك، و«القيثارة الحديدية» لأويكينزي.
ومن أحدث الأعمال العربية التي تُعنى بذوي الاحتياجات الخاصة ومتطلباتهم، مسرحية «سالب واحد»، التي نجحت حتى الآن في الحصول على أكثر من 25 جائزة من مهرجانات مسرحية عدة، أهمها «مهرجان المسرح العربي»، ومهرجان «جامعة صحار» في سلطنة عمان، و«المهرجان القومي للمسرح المصري»، فضلاً عن عرضها في مهرجانات في الأردن والمغرب.
وراهناً يستضيف مسرح الهناجر في دار الأوبرا المصرية «سالب واحد»، حتى يوم الجمعة المقبل، وهي من إنتاج المعهد العالي للفنون المسرحية، ومن تأليف محمد عادل، وإخراج عبد الله صابر، وبطولة كل من أحمد عباس، ويارا المليجي، ومصطفى رشدي، وسالي سعيد، وعبد الرحمن محسن، ومصطفى عبد الهادي.
العرض يناقش كيفية تعامل الأهل مع ذوي الاحتياجات الخاصة وتقبلهم لهؤلاء الأطفال في قالب فني إنساني، متناولاً صراع الأب والأم حول طفلهما بين الحزن على مصابه ومحاولة الهروب من مسؤولية كُتبت عليهما ولا يُرحبان بها.
تعتبر الفنانة يارا المليجي بطلة العرض أنّ «القالب الذي تنتهجه المسرحية موجع وصادم»، وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «لا يثير العمل بكاء الجمهور وحده، إنّما يتسبب في بكائنا نحن فريق العمل. أتذكر حين أصبح النص بيدي لأقرأه أول مرة انهمرت الدموع من عيني حزناً على الطفل (المعاق)، وبمرور الوقت والوقوف على خشبة المسرح ازداد إحساسنا به وبمعاناته، كما تعاظم تعاطفنا أكثر مع هذه القضية، فالمسرحية مليئة بالتفاصيل والمكنونات التي تؤجج العاطفة، وتحمل اتجاهاً تنويرياً، كأنما يخاطب المجتمع - لا سيما الأبوين - بحقوق متحدي الإعاقة ومدى معاناتهم وحاجتهم لمن يمد لهم يد العون والمساعدة من دون خجل أو تملل وضجر».
خلال أحداث المسرحية يعيش الجمهور مشاعر إنسانية عميقة يلفها الحزن النبيل لطفل من أصحاب الهمم في حالة من الصمت الإجباري، إذ لا ينطق سوى جملة واحدة يكررها باستمرار وهي: «هنروح فين يا بابا؟» لكنها «جملة رمزية وموحية» وفق بطل العمل أحمد عباس الذي يلعب دور الطفل ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «إنه تساؤل عن مصيره ومصير كل (معاق) يعاني من قسوة الأبوين وعدم وعيهما بكيفية التعامل معه، بل خجلهما من وجوده في حياتهما، ورفض الاعتراف به، ما يؤثر بدوره على عطائهما له وقدرتهما على دمجه في المجتمع، ويزيد من هذه الأحزان ما يلقاه من نظرات المحيطين به من شفقة وعطف، وتبرز الأحداث كيف لهذا الشخص الحساس البريء أن يشعر ويستوعب ذلك كله من دون أن يعبر صراحة به سوى بالجملة التي يكررها طوال العمل».
وفي السياق ذاته، ينتظر المشاهد مفاجأة كبيرة في نهاية العرض تؤكد فكرة قوة إدراك صاحب الاحتياجات الخاصة لكل ما يدور حوله، وهي أنّ الراوي الذي تقوم به يارا المليجي طوال العرض هو نفسه الشخص ذي الاحتياجات الخاصة، وفي مشهد مؤثر للغاية يسقط ثوب يارا المليجي ليظهر مكانه نفس ملابس الطفل البيضاء - في رمز للنقاء - ويكتشف أنّ كل الأحداث والسرد كانت وفق أحاسيس وإدراك الطفل ذي الاحتياجات الخاصة.
يقودنا التناغم بين النص والملابس والديكور إلى توافق مُبهر بين كل العناصر الفنية للعرض، فنجد أخيراً تفسيراً لغرابة ملابس الأبوين اللذين يرتديان فوق ملابسهما محاكاة للنصف العلوي من الجسم البشري (القفص الصدري)، في غياب متعمد للقلب، في إشارة إلى قسوتهما البالغة، وافتقار الطفل إلى الحنان والحب والاحتواء، كما جسدت عناصر الديكور أحلام الطفل ومخاوفه، فتظهر الأسلاك الشائكة تماماً كقضيته ومشاعره في كل مكان، في حين تستقر دراجة في أحد أركان المكان ويواجهها في ركن آخر كُرة ما يعكس أمنيته بأن يكون متعدد النشاطات والصداقات، وهو ما يصفه الفنان أحمد عباس قائلاً: «يسلط العرض الضوء على أنّ الصغير ينتظر من يمد له يد العون ويكسبه الثقة بالنفس ويساعده على الاندماج في المجتمع، وفي الوقت نفسه يلفت أنظار الجميع إلى حقه في أن يعيش حياة طبيعية وسعيدة».