استبق مسؤول السياسة الخارجية والشؤون الأمنية والدفاعية في الاتحاد الأوروبي، الإسباني جوزيب بوريل، اجتماع وزراء خارجية الاتحاد أمس، في بروكسل، بعرض خطته لما يسمى «البوصلة الاستراتيجية» التي تحتاج إليها أوروبا في السنوات الخمس أو العشر المقبلة، وذلك في مقال مطول صدر في مجموعة من الصحف الأوروبية.
وكرس الوزراء الأوروبيون، أمس، جانباً من اجتماعهم الدوري لمناقشة «الوثيقة» التي أعدها بوريل، الواقعة في 28 صفحة. ومن المنتظر أن يخضع تقرير بوريل للتمحيص والحذف والإضافات قبل أن يثبت على صيغة نهائية ينقل بعدها إلى قادة الدول الأوروبية في قمتهم الشهر المقبل.
وأعلنت باريس التي ستتولى رئاسة الاتحاد لستة أشهر بداية يناير (كانون الثاني) المقبل أنها ستدعو لقمة في شهر مارس (آذار) 2022، تخصص لـ«البوصلة» التي تشمل الدفاع الأوروبي من أجل إقرارها، علماً بأن فرنسا تعد من أكثر الدول اندفاعاً نحو تحقيق ما تسميه «الاستقلالية الاستراتيجية» التي لم تعد تنظر إليها إلا بصفتها أداة للدفاع عن المصالح الأوروبية، من غير أن تكون بديلاً عن الحلف الأطلسي، بل رديفاً له.
ويقول بوريل إن «البوصلة» مصممة للإجابة عن 3 أسئلة: ما التحديات والتهديدات التي نواجهها نحن الأوروبيين؟ وكيف يمكننا تجميع إمكانياتنا وإدارتها بفاعلية؟ وما أفضل طريقة لإبراز نفوذ أوروبا بصفتها كياناً فاعلاً على المستويين الإقليمي والعالمي؟
وتعد وثيقة بوريل أن تحليل التهديدات الشاملة يبين أن «أوروبا في خطر» لأنها تعاني مما يسميه «التقلص الاستراتيجي» الذي عناوينه: الانكماش الديموغرافي «سكان أوروبا أقل من 5 في المائة من سكان العالم نهاية القران الحالي»، والانكماش الاقتصادي والتجاري، وأن عدداً من منافسي أوروبا يتبنون قيماً مختلفة عن قيمها، ما يشكل تهديداً جدياً لـ«القوة المعيارية» لأوروبا. وواضح أن بوريل يشير إلى الصين وروسيا بشكل خاص، وتحديداً في التنافس على السيطرة على الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية (كلاود) والتكنولوجيات الحيوية. والخطر الثاني «استراتيجي» تفرضه «القوى الفاعلة الجديدة»، مقروناً باستراتيجية زعزعة الاستقرار المتكئة على الحرب السيبرانية والتضليل المعلوماتي والإعلامي، ما يحتم على الاتحاد اللجوء إلى مروحة واسعة من الوسائل الدفاعية للمحافظة على مصالحه. يضاف إلى ذلك أن الاتحاد يواجه هجمات تستهدف أسس الديمقراطيات الليبرالية التي يتبناها، ونظرية أن الازدهار الاقتصادي يعزز التطور الديمقراطي.
وإزاء هذا الواقع، تقول وثيقة بوريل إنه يتعين على الاتحاد حتى يتمكن من توفير الأمن لمواطنيه وقيمهم ومصالحهم أن «يتحرك بسرعة، وبشكل حاسم، في إدارة الأزمات» الناشئة، ما يفترض استباق التهديدات، وتعزيز الاستثمار في القدرات التكنولوجية، والتعاون مع شركاء الاتحاد. ويرى بوريل أن مبادرات كهذه سوف «تعزز قدرات الردع الأوروبية، وأن القيمة الرئيسية للقوة العسكرية (الأوروبية) تكمن في منع أن تحل النزاعات على حساب المصالح الأوروبية، لذا تقترح وثيقة (البوصلة) تمكين الاتحاد من (نشر سريع للقوات) وفق ما تتيحه نصوصه ومعاهداته». ويعرض بوريل عدة شروط لنجاح مهمة قوة الانتشار السريع، كتحديد المبادئ التوجيهية للقوة المرتقبة، واعتبار أن المهمة هي التي تحدد نوع وحجم القوة، وليس العكس، وأخيراً التغلب على القصور الذي ألم بمحاولات الاتحاد السابقة الشبيهة. وهنا، تطرح 3 أسئلة: مَن يقرر؟ وأي مبدأ يتبع؟ ومَن ينفذ؟
ويرى بوريل أن مشروعا كهذا يحتاج إلى الإرادة السياسية والكفاءة التشغيلية. ومن غير التخلي عن مبدأ الإجماع في اتخاذ القرارات التي تتناول السياسة الخارجية والدفاعية، يعد أن ثمة مجالاً للتصرف بـ«صورة خلاقة»؛ بمعنى التخلي عن الإجماع، وإنشاء تحالفات متحركة بحسب الأزمة الناشئة. لكن هذا التوقع سيكون الأكثر صعوبة في إقراره بسبب تمسك كثير من الدول بالإجماع حتى تكون لها قدرة التأثير، بينما الإجماع يشل عمل الاتحاد لصعوبة توافره في كثير من الحالات. وفي أي حال، لا يقصر بوريل «البوصلة» على نشر قوات أوروبية، بل تتناول الأمن السيبراني والبحري والفضائي ومحاربة التضليل المعلوماتي. ولذا، يرى المسؤول الأوروبي أنه يتعين الاستثمار في التكنولوجيا لتوفير الوسائل لمحاربة ما يسمى «الهجمات الهجينة»، وتقليل التبعية التكنولوجية والصناعية، وتعزيز القدرات الاستخبارية، وسد الثغرات الاستراتيجية.
ويحرص بوريل على التأكيد على أن «البوصلة» لا تتعارض مع التزام أوروبا بالحلف الأطلسي الذي يبقى محور الدفاع الإقليمي، مضيفاً أن هذا الالتزام يجب ألا يمنع الأوروبيين من تطوير قدراتهم الخاصة، وإدارة عمليات مستقلة في جوارهم وخارجه، خاصة «في وقت يتركز اهتمام صناع السياسات في الولايات المتحدة على أماكن أخرى، خاصة منطقة الهادئ والهندي». غير أنه ينبه إلى أن «البوصلة» ليست «عصاً سحرية»، وهي من مسؤوليات الدول الأعضاء التي عليها أن تقرر ما تريده في عالم يصبح أكثر خطورة. ولخص بوريل فلسفة وثيقته، كالتالي: «القدرة على الانتشار في الخارج، والاتحاد في الداخل، وحماية الأوروبيين».
ويحل زمن مناقشة «البوصلة» في وقت تتصاعد فيه التهديدات على حدود أوروبا، إن في التوتر المتصاعد بين بيلاروسيا وأوكرانيا بسبب تدفقات المهاجرين أو بسبب الحشود الروسية على حدود أوكرانيا الشرقية، أو بسبب الأوضاع المتوترة في الجوار الأوروبي، إضافة إلى أجواء المواجهة بين روسيا والحلف الأطلسي، وحتى التهديدات بخصوص توفير الغاز للقارة القديمة على أبواب الشتاء. ويحل ذلك كله فيما يجد الأوروبيون أن الولايات المتحدة تدير ظهرها لأوروبا، وتنظر باتجاه منطقة المحيطين الهادئ والأطلسي، وتركز على منافستها مع الصين، متناسية وجود الاتحاد.
وترى مصادر أوروبية في باريس أن «اللحظة» الراهنة «مواتية» للدفع باتجاه إيجاد دفاع أوروبي، بعد تراجع المعارضة الأميركية التي كانت شديدة زمن إدارة الرئيس ترمب، وهو ما جاء في البيان المشترك بعد لقاء بايدن - ماكرون في روما في الـ29 من الشهر الماضي.
وحقيقة الأمر أن «البوصلة» ما زالت في بداياتها. وثمة، وفق المصادر المشار إليها، 3 عوائق رئيسية؛ أولها ردة فعل الحلف الأطلسي التي ستكون المعيار الأساسي لصدق الموقف الأميركي، والثاني تعاطي بلدان شرق ووسط أوروبا التي كانت سابقاً تحت العباءة الروسية مع مقترحات وأفكار «البوصلة»، وسبق لها أن عبرت عن معارضتها لمبدأ «الاستقلالية الاستراتيجية» العزيز على قلب الرئيس ماكرون لأنها غير راغبة في استبدال المظلة الأميركية - الأطلسية بدفاع أوروبي غير موجود بعد. وأخيراً، إمكانية التفاهم داخل الاتحاد على مفاهيم «البوصلة»، وعلى آليات السير بها وتمويلها وتجهيزها وحدود تدخلها، وغير ذلك من المسائل التي سبق لها في الماضي أن أعاقت ولادة قوة انتشار سريع أوروبية.
الأوروبيون يبحثون عن «بوصلتهم الاستراتيجية»
وثيقة وزير خارجية الاتحاد: «أوروبا في خطر»
الأوروبيون يبحثون عن «بوصلتهم الاستراتيجية»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة