تخوض الكاتبة الإماراتية عائشة سلطان مغامرة شيقة في أدب الرحلة، وتبدو الكتابة لديها في هذا المنحى محاولة حثيثة لاكتشاف روح المكان، وتجلياته في حياة البشر والزمن والأشياء؛ لذلك ترى أن الأسفار تساعدك على تأسيس علاقة قوية مع منبعك الذاتي، وتلفت النظر إلى أن أدب الرحلة لم يعد مجرد ملاحظات ومعلومات عابرة عن المدن وشوارعها ومعالمها، فهذا أصبح متوفراً بيسر على «غوغل». وتؤكد صاحبة كتاب «هوامش في المدن والسفر والرحيل» الصادر أخيراً، أن أدب الرحلة يحتاج إلى ذائقة خاصة، وسياقات مغايرة لتناوله.
صدر للكاتبة من قبل «في مديح الذاكرة» و«شتاء الحكايات»... هنا حوار معها حول ثقافة السفر وما تبحث عنه في المدن والكتابة.
> السردية الذاتية وحكايات الجدة والأم مفاتيح رئيسية في عالم الرحلة والسفر لديك... كيف وجدتْ أسفاركِ طريقها لكتابكِ الجديد؟
- الكتاب هو تطوير لأفكار ومقالات كتبتها حول أسفار كثيرة قمت بها، أكتب عموداً يومياً يقتات من المشاهدات اليومية الخاطفة، ولا أتوقف عن كتابته حتى خلال السفر، ولاحظت مع الوقت أن اليوميات التي كنت أكتبها في حدود مائتي كلمة أو أكثر تحمل بداخلها نواة لأفكار تستحق التطوير والبناء، فلما وجدتها في جعبتي كان هذا الكتاب. أما بالنسبة إلى الذاتية، فأعتقد أن الأمر يتعلق بالصدق مع النفس في مخاطبة المتلقي، والكتابة الذاتية هي أقرب أبوابه، فالحكَّاءة الأولى في كل عائلة هي الجدة، وأنا تعلمت السفر من جدتي وأمي اللتين كانتا من أوليات النساء في عائلتي اللاتي سافرن وسافرت معهن.
وأتصور أنه كي تقدم نفسك للعالم وأن تسافر يجب أن تكون قادراً على التعامل مع العالم ببساطة، وأن يبدأ التعرف على الثقافات المختلفة من تأسيس علاقة قوية مع منبعك الذاتي، فالذاتي هو ما نحمله معنا في الأسفار، ويجعلنا ننطلق في رؤيتنا للعالم دون أن نكون منسلخين عن أنفسنا، فلا نسافر عندها بحثاً عن بديل، وهذا الأدب الذي يحمله الكتاب هو أدب رحلة إنساني، وليس مسحاً طبوغرافياً للأرض والمعالم، هو رحلة ممتدة.
> إذن، ماذا تبحثين في المدن؟
- أبني على هذه العبارة واحداً من المبادئ الأساسية لي في السفر، وهو السفر دون تصورات مسبقة، فتجربة السفر ذاتية جداً، لها مشاعر عاطفية ووجدانية، وانفعالاتنا بالأشياء والأمكنة تختلف، أنصح الناس أن يقرأوا ويشاهدوا أشياء عن الأماكن التي سيذهبون لزيارتها، لكن ألا نأخذ انطباعات مُعلبة من آخرين سبقونا إليها.
> وصفتِ علاقة المسافر بالمدينة بقصص الحب الغامضة... حدثّينا عن هذا الربط؟
- صحيح؛ فهي علاقات تكون أحياناً بلا منطق، فأنا مثلاً لم أحب باريس أو لندن، رغم افتتان الكثيرين بهما، فنحن كشرقيين لدينا ثقافة الأفكار المسبقة، سواء مع الناس ومع الأماكن، بالنسبة لي المعايير تختلف من إنسان إلى آخر، فلماذا لا نريد تأسيس علاقتنا الخاصة مع المدن؟!
المدينة كائن يحب، ويعشق، ويتألم، تُحببني فيها وتُكرهني أيضاً، عالم يعج بالمشاعر، فإذا قررنا أن نكون مسافرين يجب أن نؤسس هذه التجربة شيئاً فشيئاً، اليوم مثلاً أستطيع أن أقول إن لدي ثقافة سفر بسبب تجارب مختلفة قمت بها ما بين مدن ذهبت لها مُحملة بتجارب الآخرين، وأخرى ذهبت لها دون انطباعات، أو للدراسة، وأخرى دون هدف، هناك ذهبت واكتشفت انطباعاتي.
> كيف ترين علاقة الأدب بالرحلة، خاصة أن مدناً كثيرة ارتبطت لدينا بقصيدة أو حكاية أو أسطورة قرأنا عنها وما زال أثرها قابعاً في الوجدان والذكريات؟
- علاقة المدينة والأدب طويلة وتكاد ترافق رحلة الإنسان في الحياة وبحثه الدؤوب عن ملاذ آمن. فمنذ سنوات كنت أتصور أن مسرحية «روميو وجولييت» من اختلاق شكسبير، ثم علمت أن مدينة فيرونا الإيطالية شهدت قصة حب حقيقية لبطليها روميو وجولييت، ذهبت إلى المدينة مدفوعة برؤية هذا المكان الذي تحوّل لمسرحية خالدة، وهكذا بالنسبة لمدينة فينيسيا التي كانت تحمل استعادة حيّة لمسرحية «كازانوفا»، و«جسر التنهدات»، وفلورنسا حيث مدينة دافنشي، ومايكل أنجلو، ودانتي و«الكوميديا الإلهية».
فهناك مساحة إلهام يمكن أن يخلقها الوقوف أمام بيت مثل بيت «دانتي» مثلاً، وأتذكر عندما ذهبت إلى سان بطرسبرغ مدينة الروائي الروسي الكبير دوستويفسكي، أنني كنت أتخيل كثيراً كيف أنني أسير في الشوارع نفسها التي سار بها دوستويفسكي، وكتبت نصاً في إحدى المرات وأنا على بعد أمتار قليلة من بيته، أتخيله ونحن تفصل بيننا 150 سنة، وأقول كان هنا يضع قبعته، ويجلس بجوار المدفأة، هذا ما يفعله الأدب، ومثل تلك التجارب يخرج من رحمها الأدب، وهناك كثير من التجارب الفنية المستلهمة من مثل تلك الزيارات.
> لماذا برأيك تفتقر مكتبتنا العربية لأدب الرحلة؟
- عندما عرضتُ الكتاب على الناشر تحمس له، وكان سببه أسلوب التناول الأدبي للرحلات، فالكتابة عن الرحلات من منطقة الملاحظات عن المعالم والشوارع أو خطوط السير، ليست أدب رحلة، حيث يمكننا أن نبحث عن تلك المعلومات على «غوغل» بسهولة، أما الأدب فليس معلومات عن مكان، بل هو نوع أدبي يحتاج إلى زاوية ومدخل خاص لتناول الرحلة، فكل فروع الأدب والفن تتطور، سواء في الرواية، أو القصة القصيرة، أو حتى الرسم، وهذا يسري على أدب الرحلة، وأظن أن الذي يجب أن نهتم به في الرحلة هو الإنسان نفسه وعلاقته بالمكان، وكيف يمر الزمن عليهما.
> كيف يمكن أن تضاعف المدن من الإحساس بالوحدة الوحدة كما جاء في كتابك؟
- استلهمت في الكتاب نصاً من مدينة «بادن بادن»، وهي مدينة ألمانية تُعد رمزاً للجمال والرفاهية في كل شيء، ولفت نظري شخص وحيد يبدو أنه لم يتسرب له هذا الجمال، جاء إليها راغباً في تغيير حاله ولكنه ظل وحيداً، فكما جاء في الكتاب كأن الوحدة حين تسكننا يصعب أن تفسح المجال لأحد أن يشاركها المكان، وتكون أكبر من قدرة المدينة على مداواته.
> لديك تجربة حاضرة مع إدارة النوادي الأدبية... كيف بدأت وتطورت؟
- فكرة النوادي الأدبية في البداية هي تكريس لفكرة القراءة، والتشجيع عليها. القراءة تجربة ذاتية، إلا أن التجربة الجماعية عبر مشاركة عدد من القراء قراءة الكتاب المُتفق عليه ومناقشته بعد مدة مقررة، أثبتت أن لها دوراً في الدفع بعجلة القراءة، وتمنح المشاركين قدراً من الالتزام عبر تنمية عادة القراءة، علاوة على أن النوادي الأدبية فيها تحرر من المؤسسة الرسمية وخياراتها، حيث تخضع فقط لاختيارات أعضاء النادي في المقام الأول، وتكون هناك فرصة حقيقية لمناقشة المشروع الأدبي الكامل لكاتب بعينه.
إلى جانب هذا، فهناك دائماً انطباع أن القُراء في الخليج منغمسون في الترف، ونوادي القراءة تُخلخل تلك الصور النمطية الخاطئة التي تسعى لتأطيرنا في أُطر ضيقة. فالمجتمعات المتحضرة تقاس بما تقرأ وما تهتم به من ثقافة.
> امتدت فكرة النقاشات الأدبية أخيراً عبر ساحات الفضاء الإلكتروني... ماذا أضافت إليك؟
- تحت وطأة جائحة كورونا، وما فرضته من حجر وعزلة، فكرت في محاولة النظر إلى جانب إيجابي عبر التكنولوجيا وما أتاحته من حلول، وأسسنا صالوناً أدبياً قمنا خلاله بمناقشة العديد من الكتب، واستقبلنا خلاله دور نشر ونقاداً وكتاباً ومترجمين من العالم العربي، أنا أعتبر أن الإنسان وُجد كي لا ينقرض. لذلك؛ فالتفكير في تطوير الأدوات والتواصل عبر القراءة هو حصانة له، علاوة على أنها تتماشى مع الدعوة التي تتبناها دولة الإمارات لدعم القراءة.
> لكِ تجربة في تحكيم الجوائز، حدثينا عنها؟
- تجربتي في تحكيم الجوائز تمتد بين الصحافة والأدب، قمت بالتحكيم في جائزة الصحافة العربية، وجائزة البوكر، جائزة العويس، وأعتبر أن الجوائز لم تقم فقط بإنعاش الأدب والرواية والقراءة، إنما خلقت تواصلاً بين الأجيال والدول، فنحن طالما كنا نعاني من مشكلة المركزية في القراءة في العالم العربي، فجاءت الجوائز لتكسر هذه المركزية، بعد أن صار تنقل الكاتب والكتاب أسهل في ظل الجوائز والتكنولوجيا، فكسرت تقوقع القرّاء العرب حول كتّاب دولهم وأدبائها، وجعلت رؤيتهم تتسع لباقي كُتاب العالم العربي خارج حدود بلادهم.
> كيف تنظرين لواقع الرواية الإماراتية؟
- التجربة الأدبية في الإمارات ممتدة منذ سبعينات القرن الماضي، وارتبطت تحديداً بكتابة القصة، واستمرت مع الثمانينات لصالح القصة أيضاً أكثر من الرواية، وكانت في مجملها تجربة غنية، وما يعيبها هي أنها تجربة لم تكتمل أو تتطور وتفرز إنتاجاً جديداً، بما يجعل أصحابها أصحاب مشروع.
واليوم وما بعد الألفية يمكن لمس انتعاش الحياة الأدبية، ما بين شباب في مرحلة التكوين والتجريب، ربما هم في حاجة إلى الاطلاع على المدارس الأدبية المختلفة، وسط حاجتنا بشكل عام إلى حركة نقدية، فمن دونها تصبح التجربة الأدبية ناقصة.
> التاريخ في الرواية الإماراتية ركيزة رئيسية في الكتابات الجديدة... لماذا برأيك؟
- صحيح، فالرواية من جهة تُكتب عن أشياء نعرفها، كما أن اتجاهات الكتابة حول موضوعات مثل الخيال العلمي أو الديستوبيا ما زالت بسيطة جداً، فيما لدينا روائيون رسّخوا أسماءهم في المشهد الأدبي منهم ميسون صقر القاسمي، وريم الكمالي، ووداد خليفة، ومريم الساعدي، ولولوة المنصوري، وعلي أبو الريش، وهناك منهم من اتخذ حكايات من زمن الغوص ووصلها بالحاضر، فتبدو الروايات مرتبطة بالماضي، لكنهم صنعوا عبره جملهم الخاصة في الأدب. ويظل معيار الاستمرارية والتراكم هما الأهم في تلك التجارب.