من الوعي الأسطوري إلى الوعي العقلي

«لقلق النبي يونس» لمحمود النعيمي بوصفها رواية جيل

من الوعي الأسطوري إلى الوعي العقلي
TT

من الوعي الأسطوري إلى الوعي العقلي

من الوعي الأسطوري إلى الوعي العقلي

تبدو رواية «لقلق النبي يونس ومخطوطة التاريخ الآخر» للروائي محمود جاسم عثمان النعيمي، الصادرة عام 2020، وكأنها مجرد رواية عن المكان، وتحديداً عن مدينة الكوفة، كما يشير الغلاف «رواية عن الكوفة وعكد اللوي». لكن الرواية في واقع الأمر، أوسع من ذلك بكثير. وحتى لو نظرنا لها بوصفها رواية عن المكان، فهي كناية عن مكان أشمل هو العراق وليس مجرد تلك الرقعة الجغرافية المحددة، على الرغم من سمو مكانتها وعراقتها. فالرواية هي رواية جيل كامل، ربما يمثله بطلها اللامسمى الأستاذ الجامعي، المؤرخ والمفكر، والذي وجد نفسه مشلولاً وقعيداً بفعل إطلاقات إرهابية غادرة أصابته في سنوات الاقتتال الطائفي بعد الاحتلال، وتحديداً بعد عام 2006، حبيس مقعده الذي يتلصص فيه وعبر النافذة الوحيدة في الغرفة على العالم الخارجي، الذي حُرم منه للأبد.
وهي أيضاً رواية شخصية، عن بطلها المركزي وراويها المؤرخ والمفكر المنشغل بهموم عصره ومجتمعه، والتي تتحول، بفعل انشغالاتها الفكرية، وبشكل خاص عبر «المخطوطة» إلى رواية أطروحة تحاول أن تزحزح الكثير من الثوابت العصية على التغيير، والتي جمّدت العقل التنويري لصالح عقل نقلي متقوقع داخل قوقعة الماضي.
يبدو بطل الرواية اللامسمى والذي يتماهى إلى حد كبير مع مؤلف الرواية نفسه من خلال إسقاطات متبادلة، موزعاً بين هموم وانشغالات يومية وحياتية، وأخرى فكرية وفلسفية. فهو منشغل بهموم وطنه ومدينته وأسرته، ويأسره حبٌّ من طرف واحد، مثل أبطال بيكيت «في انتظار غودو». لكن انشغالاته الأساسية تظل متمثلة في صراعه ضد العقل السكوني، الامتثالي المتصلب، من خلال موقف تنويري وعقلي رافض لما هو نقلي ومتحفي من قيم وأفكار بالية. فهو يطرح مفهومه الخاص بالعقل المغاير (ص 19) والذي يرى فيه أن المثقف ليس ذلك المنشغل بالفكر والثقافة فقط، بل هو أيضاً، ربما مثل «المثقف العضوي» عند غرامشي يجب أن يندمج بشؤون عصره ومجتمعه. ورغم تعذر حركة البطل، فقد أصرّ أثناء انتفاضة تشرين على الذهاب إلى ساحة التحرير ببغداد ليتماس مع الجيل الجديد الذي يصنع بثورته تاريخاً بديلاً، وهو واحد من أهدافه التي كان يعمل في ضوئها. إذ كان يعمل في مشغله الثقافي على تأسيس كتابة مغايرة (ص 14) وكان يدعو أصدقاءه وطلبته بالدراسات العليا، وخاصة في «وصيته» الثقافية إلى تبصير الناس بالحقيقة، ومعايشة حياة الناس والمجتمع والعصر.
ومن الأفكار المركزية التي تناضل هذه الرواية بوصفها رواية أطروحة من أجل التأسيس عليها، أهمية الوعي التنويري الذي يحاول الالتفاف عليه التقليديون والسلفيون من خلال ثنائية الوعي – الخبز؛ وذلك بدفع الناس لإهمال عنصر الوعي والانشغال بالبحث عن الخبز فقط، والتأكيد على تكامل وجهي الثنائية الضدية هذه. ومن مفاهيم «الأطروحة» في الرواية ضرورة احترام «الآخر» وفهمه والإصغاء لرأيه، وعدم الانغلاق على موقف شخصي أو مونولوجي منفرد. ولا تتخلى الرواية لحظة عن معاودة وتقليب إشكالية الوعي النقلي والوعي العقلي، وتأكيد مسؤولية المثقف في إحداث التغيير ونشر الوعي التنويري، مهما كان الثمن.
تتموضع الرواية تاريخياً وكرونولوجياً وزمكانياً، في الزمن المعاصر، وتتزامن مع انتفاضة تشرين، وجائحة كورونا، لكنها غالباً ما تعود إلى الماضي من خلال تنشيط فعل «الذاكرة» لردم الفجوات التاريخية التي تعيد تشكيل صورة المدينة تاريخياً وفكرياً، وتسهم في خلق «هوية سردية للمدينة» بمفهوم بول ريكور، وهو ما حققه سابقاً الروائي زهير الجزائري في رواية «باب الفرج» التي كانت عن مدينة النجف أيضاً، وكذلك سبق الروائيين محمد خضير ومهدي عيسى الصقر بكتابه «هوية سردية» لمدينة البصرة.
«لقلق النبي يونس» تتحول أيضاً إلى سردية ثقافية أو رواية ثقافية، وهو مفهوم من مخرجات النقد الثقافي سبق وأن أشره الدكتور سمير الخليل في كتابه «الرواية سرداً ثقافياً» الصادر عام 2020.
واحتكاماً إلى مفهوم «السرد الثقافي» تكتنز الرواية بمجموعة هائلة من المأثورات والحكايات والأساطير والخطابات والممارسات التي راكمتها المدينة عبر تاريخها الطويل، وهي تمثل مادة تاريخية وأنثروبولوجية وفكرية عن الوجه الآخر المغيّب، وربما المسكوت عنه من حياة المدنية.
ومن الناحية السردية، فإن السرد الغالب هو سرد مبأر يمر عبر شاشة وعي بطل الرواية، وبعض الشخصيات المشاركة الأخرى، وغالباً من خلال توظيف ضمير الغائب الذي هو صورة مموهة عن «أنا» المتكلم والذي يسميه الناقد تودروف «أنا الراوي الغائب».
لكن السرد يتحول أحياناً إلى توظيف ضمير المتكلم «أنا»، وخاصة داخل «المخطوطة» الفكرية، والتي تحول الرواية إلى نصين سرديين «اكتشفت، وأنا أقلب صفحات التاريخ أن هناك خلافاً عميقاً بين قطبين متضادين، أو بمعنى أصح متوازيان لا يمكن أن يلتقي أحدهما بالآخر»، ونجد تنشيطاً لفعل «الذاكرة» بطريقة قصدية؛ مما يمنح الرواية صفة «الميتاسردية أيضاً.
ويتأكد المنظور البوليفوني التعددي للرواية، وقصدية الكتابة الميتاسردية مراراً، عبر صفحات الرواية، «كان يقرأ، وفي الوقت نفسه يكتب، ويرى أن الكتابة فيها فرض عين، كما يصطلح عليه الفقهاء، ولكن أي كتابة؟ هو يريد أن يكتب بما يغاير ما يكتبه الآخرون» (ص 12).
ويكشف السرد عن توظيف بنية المشهد الروائي والصورة الفوتوغرافية، كما فعل ذلك عند تدقيقه في عشر صور تمثل مراحل مختلفة من حياته وحياة مدينته: وهو يرى أن الصورة وثيقة ناطقة لا لبس فيها، وهي أصدق إنباءً من الرواية، ولكن ما يجمعهما، أنهما أصبحا طيف ذكرى». (ص 240 – 243).
والرواية، مع ذلك، لا تخلو من مقاطع سردية مباشرة تنتمي إلى سرد الراوي العليم، لكنها لا تؤثر على فنية الرواية واتجاهها السائد في التبئير السردي الداخلي أو الذاتي. ثمة دائماً تناوب بين السرد البصري الكرونولوجي الخطي المتصاعد مع حركة الأحداث المعاصرة وفعل الذاكرة الذي يستغور صور الماضي المندرسة.
وتمثل النافذة التي يطل منها على الشارع والعالم الخارجي بمثابة مرقاب على الحياة والمستقبل بكسر حدة الشلل الذي أقعده مجبراً على كرسي مدولب؛ ولذا تصدرت النافذة استهلال الرواية «صارت هوايته التي شغف بها، وفضّلها على غيرها من الهوايات والتي تنافسها سوى القراءة، التحديق من خلف شباك غرفته المطل على الزقاق» (ص 9).
وتوظيف النافذة، بوصفها مرقاباً يطل على الخارج، عتبة سردية لجأ إليها عدد كبير من الروائيين والقصاصين الأجانب والعرب والعراقيين. وربما يتذكر القارئ بطلة قصة «ايفلين» للروائي الآيرلندي جيمز جويس من مجموعته القصصية «أهل دبلن» والتي كانت فيها بطلة الرواية تطل على العالم الخارجي من خلال نافذة غرفتها وتقرر فيه مصيرها ومستقبلها. كما نجد توظيفاً واسعاً للنافذة في أقاصيص محمود عبد الوهاب، ومحمد خضير، ولؤي حمزة عباس، وأحمد خلف، وغيرهم. وربما يمثل شباك محمود عبد الوهاب في قصة «الشباك والساحة» المكتوبة عام 1969 علامة مميزة ترتبط إلى حد كبير بعالم بطل رواية «لقلق النبي يونس»، حيث نجد بطل الرواية المقعد، والمصاب بالشلل، يطل أيضاً وهو جالس في كرسيه المدولب على العالم الخارجي من خلال نافذة غرفته عبر ثنائية الداخل - والخارج.
رواية «لقلق النبي يونس» رواية تحتشد بحياة خصبة وموّارة، وتكشف عن مجموعة من الرموز والعلاقات السيميائية التي تتطلب تأويلاً خاصاً منها رمزية عنوان الرواية المركب. ورمزية «اللقلق» في الرواية تشكل إشكالية كبيرة ومهمة ترتبط بالحوار الفكري بين ما يسميه الروائي بالوعي الأسطوري والوعي العقلاني (ص 121). فقد بدا اللقلق للوهلة الأولى بوصفه أحد الرموز الدالة تاريخياً على مدينة الكوفة، لكننا نكتشف أن هذا الرمز كان يرتبط بالوعي الأسطوري، وذلك من خلال قيام الناس بتوجيه النذور لهذا اللقلق. ولذا؛ يصبح إسقاط هذا الرمز الممثل لغلبة العقل الأسطوري أمراً مهماً لفتح الطريق أمام التنوير ونشر الوعي العقلي، وهو ما حصل فعلاً عندما قام عدد من مربي الطيور «المطيرجية» بإيقاع اللقلق في كمين محكم وإسقاطه عن عرشه وإنهاء سطوته الرمزية على فضاء المدينة والتي كانت تمنع طيورهم من التحليق بحرية.
ومن الأهداف الفكرية والفلسفية للرواية، التأكيد على تواصل الأجيال، حيث تتحمل الأجيال الجديدة مسؤولية مواصلة رسالة التنوير العقلي وتحطيم الأصنام المعرقلة للوعي والتفكير والحياة.
يمكن القول، إن رواية «لقلق النبي يونس» رواية محتشدة بالحمولات الفكرية والآيديولوجية، فضلاً عن صور الحياة الاجتماعية والتأريخية لمدينة الكوفة العريقة، وأنها تشكل إضافة مهمة في خلق الهوية السردية لهذه المدينة وأناسها عبر تاريخها الطويل.



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.