لم تكن السياسة الإقليمية التي انتهجتها المملكة العربية السعودية، ولا تزال تنتهجها، تحمل أبعادا سوى الأبعاد السياسية التي يخضع تحديدها ورسم أهدافها إلى تقديرات الأمن الوطني والمجال الحيوي للرياض. هكذا تعاملت السعودية مع «انقلاب عام 1962» الذي أطاح بحكم الإمام محمد البدر في اليمن، ولقد تحدث الملك فيصل بن عبد العزيز أثناء ذلك المخاض الطويل والعسير إلى وسائل الإعلام، فقال بوضوح أن المملكة العربية السعودية لا تسمح أن يقوم نظام مجاور بتهديدها وزعزعة أمنها، وكان يشير في حديثه إلى نظام عبد الله السلال، العقيد اليمني الذي كان قائدا للحرس الإمامي، وانقلب على سيده بتحريض ودعم من الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وأعلن قيام النظام الجمهوري في اليمن.
يومذاك، كان عبد الله السلال زيدياً، وكانت الإمامة أيضا زيدية. وفي حين كان جل أبناء المدن الذين وقفوا إلى صف النظام الجمهوري وقاتلوا دفاعا عنه من الشوافع (السنة)، كانت حركة المقاومة الإمامية التي تلقت كل الدعم السعودي الممكن زيدية بكاملها. وبالتالي عندما دربت المملكة العربية السعودية وسلحت قوات محمد البدر فإنها فعلت على أسس من تقدير المصلحة السياسية والأمنية وتأمين المجال الحيوي السعودي وليس على أسس طائفية أو عاطفية. وبعدها قال الملك فيصل بن عبد العزيز، ذلك السياسي المحنك والصعب المراس إذا ما تعلق الأمر بالمصلحة السعودية، لوسائل الإعلام عقب لقائه الرئيس عبد الناصر خلال القمة العربية في الإسكندرية، وبعدما لاحت في الأفق تباشير حل سلمي لأزمة اليمن «إنني أغادر مصر وقلبي مملوء حبا للرئيس عبد الناصر». ومن هنا، يتضح أن المملكة العربية السعودية تنتهج الواقعية السياسية، بل إن الواقعية السياسية من الثوابت السعودية، أما المتحولات في السياسة السعودية، فتتضح من خلال مكونات المحاور التي تكون المملكة قائدة لها.
في ستينات القرن العشرين، كان نظام عبد الناصر وحلفاؤه يشكلون التهديد الأعظم لأمن ومصالح المملكة، أما اليوم، فمصر في محور المملكة، إذ تجمع بين الدولتين مشتركات عليا لم تكن هي ذاتها إبان حقبة ستينات القرن العشرين. والعكس بالعكس فيما يتعلق بالاشتباك السياسي السعودي - الإيراني الحالي اليوم عبر غالبية مساحة المنطقة العربية. فإيران ستينات القرن العشرين كانت إلى جانب المحور السعودي في الأزمة اليمنية، أما إيران اليوم فهي محور الأزمة اليمنية.
يرى متعقبو تاريخ النظرية السياسية أن «الميليشيات المسلحة» غير مؤهلة لتأسيس وقيادة حالة سياسية مستقرة، وآمنة، تنعكس بدورها على الاستقرار الجغرافي - السياسي للدول الواقعة في مجالها الحيوي. ذلك أنها تكتسب أسباب بقائها من قدرتها على خوض الصراعات المسلحة خارج أطر الدول، وتدعم صراعاتها تلك، بخطاب ديماغوغي - عاطفي، فيما تقوم مفاهيم بناء وإدارة المجتمعات الحديثة على احتكار القوة من قبل الدولة.
عادة ما تملك هذه «الجماعات المتطرفة المسلحة» نواة انهيارها داخلها، كونها عاجزة عن التعاطي الإيجابي مع «الجدليات النقاشية» حول دورها ومشروعها السياسي. وهو ما تجلى في خطاب حسن نصر الله، أمين عام حزب الله في لبنان أخيرا، حول حرب «عاصفة الحزم» المدافعة عن شرعية الدولة اليمنية.
كان نصر الله حالة مثالية لـ«الخطاب الديماغوغي» وهو يقدم في كلمته سلة طافحة بالأكاذيب التي ينهيها كل مرة بأنها «رأي غير قابل للنقاش». حتى وهو يقدم طهران كجمعية خيرية متخصصة في التبرع بالسلاح لكل الجماعات المتطرفة، والإرهابية في المنطقة، من القاعدة إلى حزب الله. هذه المنطقة التي بفعل سياسة طهران غدت «الميليشيات المسلحة» فيها تنمو كما ينمو العشب في الخرائب.
ليس سرا أن بعض أروقة (لوبيات) الضغط والمراكز البحثية الأميركية وبعض الدول الغربية كانت تتحدث عن الرياض كمؤسسة سياسية «هرمة»، وأهمية إيجاد بدائل سياسية مستقبلية في المنطقة. وكان ذلك واضحا من دعم واشنطن لقوى «الإسلام السياسي»، وتحديدا جماعة «الإخوان المسلمين» التي قادت «ربيعا» في المنطقة زاد من حدة التطرف والأعمال المسلحة، مما دفع غالبية دول «الاستقرار» لتصنيفها جماعة إرهابية.
على النسق ذاته، كانت مقال الباحث المهم ديفيد غولدمان، من مركز دراسات الشرق الأوسط في لندن - نُشرت أخيرا - حول هذه السياقات التقليدية في نقاش الحالة الإقليمية وموضع السعودية منها. غير أن غولدمان الذي تجاوز «الاستخفاف» البحثي بالرياض، وقع في فخ آخر في مقاله، بتصوير السعودية تقود تكتلا دوليا سنيا ضد التكتلات الشيعية، وكأن الرياض تغذي بُعدا طائفيا للرد على بعد طائفي آخر.
والحال، أن ليس أسوأ من أن تكون أصما إلا أن لا تريد أن تسمع. فالرياض يراد لها أن توضع في إطار طائفي ليس فقط لا يشبهها سياسيا، بل والشواهد التاريخية والمعاصرة تشير إلى عكس ذلك تماما. لقد دعمت الرياض «العراق - الدولة» في عهد نوري المالكي في أكثر أوقاته نقدا للبيت السياسي السعودي. وهي تدعم اليوم الجيش العراقي في عهد العبادي لبنائه كمؤسسة، لا كميليشيا مرتهنة لقرار خارجي، كما هو الحال في علاقتها مع طهران. وهذا دون أن ننسى، بالطبع، أن الرياض رأس الحربة إقليميا في دك حصون تنظيم داعش الإرهابي «السنّي» مع قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن.
لم تنجر الرياض لفخ الطائفية ولو لمرة واحدة، ولم تدعم داخل الدول إلا المؤسسات لا الميليشيات المسلحة. وبينما كان هاجس دول وأنظمة، بعضها لصيق وبعضها الآخر مجاور، تقسيم المحيط... كان هاجس البيت السياسي السعودي الحفاظ على استقرار الجغرافيا، والحفاظ على البنى التحتية السياسية من الانهيار في الدول الواقعة ضمن مجالها الحيوي.
الرياض التي كان ينظر لها خصومها على أنها «هرمة»، فاجأت المجتمع الدولي 3 مرات في ظرف الأربع سنوات الأخيرة، ابتداء من فتحها نافذة ضوء سياسي على القاهرة عندما كانت العتمة السياسية تخيم عليها بعد الثورة الشعبية العارمة على حكم «الإخوان» ممثلاً بالدكتور محمد مرسي، الذي رفض الحلول السياسية، ورفض التوجه إلى صندوق الاستفتاء، ورفض التنحي، وما تبعها من عزل له من قبل الجيش المصري. ثم كانت خطوتها في هندسة انهيار أسعار النفط لصالح مصلحتها الاقتصادية. وأخيرا في الإعلان عن فجر عسكري جديد في المنطقة قادر على إعادة ترتيب الإقليم ووقف حالة الميوعة السياسية في مواجهة «الإرهاب الثوري» للميليشيات المنتشرة في العالم العربي.
في عجالة سريعة قبل العودة إلى محاولة فهم سرديات زوايا الحرب البازغة، لا بد من الإشارة هنا إلى أنه بدا واضحا أن أساطين التنظير الإعلامي «الإخواني» يريدون الدفع نحو تصوير حرب دول التحالف بقيادة الرياض على أنها حرب طائفية، ويصرون على أنه لا حل لوقف المد الطائفي «الشيعي» سوى بتبني أجندة مشابهة سنية. وهم هنا بالطبع يقصدون العودة للاتكاء على مجاميع «الإخوان المسلمين» المتشظية، والمتناثرة، بعد تهدم مشروعهم السياسي الذي لم يصمد سنة واحدة في سدة الحكم.
بقايا المجاميع «الإخوانية» ترقب تحولات المنطقة من ثقب الباب بأعين جاحظة لتحول كبير تقوده الرياض التي كانت إلى ما قبل سنة تبدو هدفا للجماعة ذاتها، مع المجاميع الشيعية المتطرفة، فضلا عن «القاعدة» و«داعش». الأكيد أن نهج السعودية حازم فيما يتعلق بالأمن الوطني والأمن الإقليمي، وهي لا تتوانى عن اتخاذ كل التدابير التي تكفل لها استئصال الأخطار المحيطة بها وبالإقليم. ويجب أن يُتَنبه إلى أن السعودية اليوم مكتملة النضج كدولة محورية لها مجال حيوي يشكل اختراقه تهديدا لمصالحها وأمنها. وهذا ما أعلنته عملية «عاصفة الحزم». إن عملية «عاصفة الحزم» تقدم السعودية كقوة عسكرية - سياسية قادرة على تشكيل وقيادة المحاور السياسية، وحمايتها بقوى عسكرية تستطيع خلق أوضاع راهنة ملائمة، وتعطي - القوى العسكرية - للسعودية ومن يحالفها، القدرة على رفض وتغيير الأوضاع الراهنة التي يخلقها الغير، ولا تجدها السعودية ملائمة لها، ولا هي مقبولة في ميزان أمنها الوطني ومصلحتها العليا.
لم تكن السعودية في ستينات القرن العشرين تمتلك الإمكانيات المالية والعسكرية التي تمتلكها في الوقت الراهن، إلا أن ذلك الواقع لم يمنع السعودية من أن تقف بحزم وثبات مدافعة عن أمنها واستقرارها ووحدتها.
في أوائل النصف الثاني من ستينات القرن العشرين، أعلن الرئيس جمال عبد الناصر عن استراتيجيته في اليمن وأسماها «استراتيجية النفس الطويل»، فأثبتت السعودية له وللعالم، حينذاك، أنها الدولة القادرة على تبني وتطبيق استراتيجية «النفس الطويل»، إذ انتهت الأزمة اليمنية نهاية الستينات وبداية السبعينات، وبدأت السعودية تقديم الدعم الهادف لتنمية اليمن وتحقيق استقراره، عندما لم يعد اليمن مصدر خطر على أمن السعودية واستقرارها.
إن استئصال الخطر هو الهدف السياسي اليوم من عملية «عاصفة الحزم»، والعملية العسكرية ليست هدفاً في ذاتها، بل إن دقة الأهداف توضح أن العملية برمتها تسعى لعلاج الأزمة اليمنية علاجا جذريا يمهد الأرض من أجل بناء يمن مستقر مؤهل للتنمية الشاملة الكفيلة بإنهاء حالة مزمنة من البؤس والشقاء سببتها الحروب التي لا تضع أوزارها إلا استعداداً لتكرارها جولات تلو جولات.
منذ اعتلاء رجال الدين سدة الحكم في طهران، وإيران تسعى بكل إمكاناتها لبناء أحصنة طروادة في منطقة الشرق الأوسط، وكان بناء هذه الأحصنة يأتي دائما على حساب الشيعة العرب في المقام الأول، إذ ينتج علاقة متوترة بين الشيعة العرب وأوطانهم ومواطنيهم، نتيجة ضرب الثقة والتشكيك في الولاء الوطني. إلا أن الظرف السياسي الراهن يشكل فرصة مواتية للغالبية الصامتة من الشيعة العرب، في منطقة الخليج والعراق والشام، للمبادرة باتجاه الداخل وعمل كل ما في الوسع من أجل ردم فجوة الثقة، وإعادة بناء جسور العلاقة مع الأوطان. ربما الأمر ليس كله بيد المواطنين الشيعة وحدهم دون حكوماتهم، ولكن الأكيد أن المبادرة الشجاعة الطويلة النفس والحكيمة ستثمر خيراً، وإن لاح انسداد في الأفق أحيانا.
على الأحزاب السياسية والقوى المعتدلة الوطنية في دول الاضطراب، التي لم تكن تملك حلولا غير التواصل مع طهران كأمر واقع تفرضه الحالة السياسية، أن تتنبه اليوم إلى أن فجرا جديدا يلقي بنوره على المنطقة. فلا يوجد بديل استراتيجي عن التماهي وإعلاء قيم الدولة لتصبح كيانات مؤسساتية تجد حاضنة عقلانية غير طائفية تستطيع قيادة تحالف بين «دول الإقليم المستقرة» لحماية البنى التحتية السياسية الواعدة فيها، وتلك التي تريد التخلي عن السلاح والآيديولوجيا المتطرفة، وبالتالي الخروج للضوء.
لا يجوز أن تمر هذه المرحلة من دون اغتنامها للعمل على عزل الداخل بكل ما يحتويه عما يدور في الإقليم من صراع سياسي يتخذ من المذهبية رافعة وحافزا، فإيران - منذ تسلم رجال الدين حكمها - وهي تراهن على الأقليات الشيعية العربية لإحداث قلق وتوتر لجاراتها في منطقة الخليج. وللأسف، حققت بعض الاختراقات الناجحة في الماضي. وتلك النجاحات التي حققتها إيران ما كانت لتتحقق لو كان الصف الوطني العربي الداخلي مُنجز التحصين على وجه التمام. إيران اعتمدت في خروقها على معاملة بعض الشيعة العرب كمواطنين من درجة أدنى في أوطانهم (بالمناسبة، هو الواقع نفسه الذي استغله «داعش» عندما وجد المواطن السني نفسه مواطنا من الدرجة الثانية عندما تولت قوى شيعية طائفية سدة الحكم في العراق مثلا)، وهذه ثغرة ممكنة السد والتعزيز بالطرائق التقليدية التي سادت علاقة الحاكم بالمحكوم، وشادت بينهما ثقة متينة تكفلت بحلحلة أكثر القضايا تعقيدا واستعصاء.
لا يقصد بالعزل المزيد من إجراءات الرقابة على الممارسات السلمية في التعبير عن الرأي، لكن أن يُسعى إلى امتلاك القدرة الفائقة على تحديد ملامح الخطاب الذي يروج الكراهية، ويضعف معنى «الوطن الواحد» على المستوى الإجرائي، وعلى مستوى الحقوق والواجبات.
هذا على المستوى العربي.
أما على المستوى الداخلي الوطني السعودي، فيجب العمل على توعية أبناء الجيل الجديد من السعوديين الشيعة بحقيقة أن إيران تشتغل - منذ الإطاحة بنظام الشاه - على ربط التشيع بها حصرا، وإقصاء كل ما يتعلق بالشيعة في العالم ما لا يدور في فلكها. ويمكن دعم هذه المحاججة بأدلة دامغة؛ كسوق جريمة تفجير منشآت شركة صدف في مدينة الجبيل الصناعية، وجريمة تفجير مصفاة الجعيمة، وخصوصا محاولة التفجير الفاشلة لبرج التصعيد بمعمل فرز الغاز عن الزيت في رأس تنورة؛ لأن محاولة تفجير برج التصعيد في معمل فرز الغاز عن الزيت في رأس تنورة لو كانت نجحت - لا قدر الله - لقتلت آلاف السعوديين الشيعة. والقصد هنا أن هذه المحاولة دليل دامغ على أن إيران لا يهمها من أمر الشيعة العرب سوى استخدامهم ورقة ضغط على أنظمة الدول العربية الخليجية المجاورة لإيران.
في المملكة العربية السعودية اليوم مبادرة قائمة للحوار الوطني، ولكن هذه المبادرة لم تعطِ بعدُ الثمارَ المرجوة منها. إلا أن هذه ليست نهاية الطريق، إذ ما زالت أمامنا الفرص لترقية مهام المبادرة، وإعادة هندستها عبر تكليف الكفاءات المشهود لها بصدق الإخلاص لمعنى «الوحدة الوطنية» تقديم مشاريع تهدف إلى إعادة عمق المعنى لمفاهيم في غاية الحيوية؛ مثل: «السعودية الواحدة»، و«السعودي الواحد»، على أن تُقيَّد هذه المشاريع بأطر زمنية تُلغي النهايات المفتوحة، وأن تكون من الواقعية إلى الدرجة التي يمكن أن تُزعج أحيانا.
هذه اللحظة التاريخية يجب ألا تمر من دون استثمار يحصن الوطن من داخله، ويجعل من كل صلحاء الوطن شركاء في صيانته وحمايته. علينا ألا نصغي كثيرا لتلك الأصوات التي تقول: إن هزيمة الخطاب الطائفي مستحيلة؛ لأن الداخل يتأثر بما يجري في الإقليم. المحاولة في لجم الخطاب الطائفي على مستوى الإقليم أمر محمود، لكن الربط المطلق بين الداخل والإقليم لا يخلو من يأس وعجز وإقرار بقلة الحيلة، وتقليل - ربما غير مقصود - من قيمة المملكة، وتشكيك في قدرتها على صنع القدوة والمثال.
لا نجرؤ على زعم أن الأمر سيكون مجرد نزهة أو ما يُشبه النزهة، ولا نجرؤ على ادعاء أن هذه الأهداف السامية يمكن تحقيقها في مدة زمنية قصيرة، لكننا نجزم بأن آمالنا الوطنية قابلة للتحقق إذا ما توافرت لدينا العزيمة القوية الصادقة، ووظِّفت لتحقيقها كل الإمكانيات اللازمة.