ثمة ما يشبه الإجماع في العالم على أن الصين منطلقة بسرعة إلى تجاوز الولايات المتحدة اقتصادياً على الأقل، على أن يتبع ذلك بشكل طبيعي تقدّمها سياسياً وعسكرياً. ولعل الرئيس الأميركي جو بايدن لخص ذلك بقول الرجل المتخوّف: «إذا لم نتحرك فسوف يأكلون غداءنا».
ولئن كان هناك الكثير من الأدلة على هذا المسار الصيني، فإن برهاناً واحداً يكفي: الناتج المحلي الإجمالي الصيني ارتفع بمقدار 40 مرة منذ العام 1978، كما تملك الصين أكبر احتياطات مالية وفائض تجاري في العالم.
لكن في موازاة ذلك، تصرفت الصين في الأشهر الأخيرة بما يخالف الخط «الرأسمالي» الذي انتهجته في السنوات الأخيرة وحقق لها نهضتها الكبيرة. هكذا، تواجه الشركات الصينية زيادة في عدد القواعد الصارمة التي يجب أن تخضع لها. كما تتزايد الغرامات، خصوصاً على شركات التكنولوجيا التي ترتكب «مخالفات».
وفي الصورة الأوسع، يبدو جلياً أن الرئيس الصيني شي جينبينغ يعتزم إعادة فرض سيطرة محكمة للحزب الشيوعي على كل جوانب الحياة في البلاد، وذلك تحت عنوان «الرخاء العميم». وبنظر المراقبين، يعني هذا الشعار عملياً إطلاق حملة ضد عدم المساواة. وبالتالي يُتوقّع أن تأخذ الدولة ممّن لديهم دخل بالغ الارتفاع لتعطي الأقل حظوة.
يرى الكاتب والمحلل الاقتصادي البريطاني المخضرم جورج ماغنوس أن هذا المستجدّ الصيني لا يعكس طبيعة التفكير اليساري لدى الرئيس الصيني فحسب، بل يعكس أيضًا استعداد الحزب الشيوعي لمؤتمره العشرين في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام المقبل، حين ينوي الرئيس على الأرجح كسر قاعدة حزبية أخرى من خلال الحصول على فترة ولاية ثالثة على رأس الدولة. ومن هنا تنبع رغبته في إمساك الشركات الحكومية بمقدّرات الاقتصاد وإخضاع الشركات الخاصة ورجال الأعمال لما يرسمه الحزب الشيوعي من أهداف.
*نهاية صعود الصين؟
ثمة من يذهب أبعد في التحليل، ويقول إن شبه الإجماع على استمرار صعود الصين غير دقيق، بل كتب الأسترالي مايكل بيكلي والأميركي هال براندز في «فورين أفيرز» مقالاً بحثياً بعنوان «نهاية صعود الصين»، متبوعاً بعنوان فرعي «الوقت المتاح لتعيد بكين تشكيل العالم ينفد».
يشرح الكاتبان أن صعود الصين على مدى عقود كان مدعومًا باتجاهات اقتصادية مؤاتية لم تعد متوافرة، بل إن الاتجاهات الحالية سلبية. ويزعمان أن القيادة الصينية تفرض ستاراً عازلاً على تباطؤ اقتصادي خطير فيما تنزلق مرة أخرى إلى اعتماد نظام شمولي. ويضيفان أن الصين تعاني ندرة في الموارد وتواجه أسوأ انهيار ديموغرافي في زمن السلم على مر تاريخها. ويلفتان إلى أن بكين استثمرت عشرات المليارات من الدولارات في مجال التكنولوجيا الحيوية، ومع ذلك فإن اللقاحات التي ابتكرتها لمواجهة «كوفيد - 19» لم تتمكن من منافسة تلك المنتَجة في البلدان الغربية.
والملاحَظ، أن شي جينبينغ – الذي لم يكلف نفسه عناء المشاركة شخصياً في مؤتمر «كوب 26» في اسكوتلندا – يبدو على عجلة من أمره للإمساك بزمام الأمور. وتبدّى قلقه في الذهاب إلى فرض تدابير تضمن السيطرة الفكرية والثقافية على الأجيال الجديدة، من خلال ضبط قطاع الترفيه، وتعزيز التعليم الأيديولوجي في المدارس حيث يجري تلقين الأطفال الذين تقل أعمارهم عن ست سنوات «فكر شي جينبينغ»، سعياً إلى إعادة تشكيل المجتمع كما فعل ماو تسي تونغ.
يلتقي هذا التفكير مع مضمون كتاب «كابوس الصين: الطموحات الكبرى لدولة متدهورة» لدان بلومنتال الذي ينتقد الآراء القائلة إن الصين دولة مسالمة لا طموحات إمبريالية لها، مستشهداً بالقمع في كل من التبت وهونغ كونغ وخصوصاً في إقليم شينجيانغ حيث تعيش أقلية الأويغور المسلمة، والرقابة المتشددة على الإنترنت وعلى أي مضمون ثقافي غربي.
ويرى بلومنتال، الذي كان لسنوات مستشاراً لشؤون الصين لدى الإدارة الأميركية، أن قادة الصين على اختلافهم يعتقدون أن الاستقرار يأتي من أحادية القطب في السياسة الداخلية، وهو ما يعني منذ عقود طويلة حصر السلطة والحياة السياسية في يد الحزب الشيوعي. ويضيف أن هذا الفكر ينعكس على السياسة الخارجية «بحيث تريد الصين إنشاء مجال نفوذ يمكنها السيطرة عليه، مما يجعل آسيا ذات صورة قمعية ومغلقة». ويلفت إلى أن الشيوعية تسعى على الدوام إلى «تصدير» الثورة، مذكراً بأن ماو تسي تونغ - الذي حكم الصين أكثر من ثلاثين سنة – رعى حركات تمرد في تايلاند وماليزيا و فيتنام الجنوبية وإندونيسيا والفلبين.
*جهود جبارة وعيوب قاتلة
بدأت الصين تخفف القيود الاقتصادية عام 1979، إلا أن قمع الحركة الاحتجاجية بعنف في بكين (تيانانمين) بعد ذلك بعشر سنوات كان نكسة كبرى لجهودها وخيبة أمل للعالم الغربي الذي كان يأمل في تحوّلها إلى شريك تجاري كبير لا أكثر من ذلك.
غير أن ذلك لم يمنع الصين من مواصلة نموها الاقتصادي، واستعراض عضلاتها التهديدية في وجه تايوان، وكذلك توسيع وجودها العسكري في بحر الصين الجنوبي، خصوصاً مع انشغال الولايات المتحدة ميدانياً في أنحاء أخرى من العالم. وفي العالم 2013 أعلن الرئيس السابق (2003 – 2013) هو جنتاو مشروع «الحزام والطريق» لربط بلاده بأنحاء واسعة من العالم بشبكة من الطرق وسكك الحديد والاتصالات.
وعملت الصين طوال العقدين الماضيين على توسيع حضورها في كل القارات، وفتحت أبوابها للشركات الأجنبية العاملة في القطاعات الصناعية، ونجحت في جعل جملة «صنع في الصين» أمراً مألوفاً ومقبولاً بعدما كانت المنتجات الصينية عنوانا للتقليد الفاشل في أذهان المستهلكين.
لكن حتى مع تجاوز الناتج المحلي الإجمالي 14 تريليون دولار، وفق أرقام 2020، يرى عدد كبير من المحللين أن الصين لا تقف على أرض صلبة، بل على رمال متحركة. بمعنى أنها لا تبتكر، على سبيل المثال، تكنولوجيا خاصة بها بل «تقتبس» تكنولوجيا الآخرين منتهكة حقوق الملكية الفكرية بلا رادع. ولا ننسى المشكلات البيئية التي يقف في أعلى سلمها الاعتماد على الفحم الحجري الملوِّث لتوليد الطاقة الكهربائية، بما ينعكس سلباً على حياة الصينيين الذين يعرف مجتمعهم تقهقراً ديموغرافياً بسبب سياسة «الطفل الواحد» التي ستعني خلال سنوات أن الاقتصاد الصيني سيعاني نقصاً في العمالة.
يجب بناء الاستنتاجات في ما يخص مصير الصين الذي يهم كل العالم نظراً إلى حجمها ودورها، على واقع أن السعي المحموم إلى التوسع الاقتصادي والجهد المتواصل لبناء القوة العسكرية ليسا السبيل الوحيد إلى تحقيق الازدهار والاستقرار. فالمشكلة تكمن في أن الصين، على غرار الاتحاد السوفياتي السابق، لديها نظام سياسي - إيديولوجي قمعي يحد من إبداع الإنسان. قد يكون هذا هو العيب القاتل في التطلعات الصينية، فالسيطرة الخانقة على المجتمع تحدث تشققات قد تقود إلى الانهيار الداخلي...
التشدد الداخلي في الصين... انطلاقة جديدة أم تغطية للتصدّع؟
التشدد الداخلي في الصين... انطلاقة جديدة أم تغطية للتصدّع؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة