النقد الثقافي... فكر نقدي جديد أم موضة «نقدية ـ عربية» قديمة جديدة؟!

كتاب عراقي يرى أن دراسات الغذامي محاولة مفيدة في التأسيس له

عبد الله الغذامي - رونان ماكدونالد
عبد الله الغذامي - رونان ماكدونالد
TT

النقد الثقافي... فكر نقدي جديد أم موضة «نقدية ـ عربية» قديمة جديدة؟!

عبد الله الغذامي - رونان ماكدونالد
عبد الله الغذامي - رونان ماكدونالد

يعتقد عبد العظيم السلطاني أن النقد الثقافي بنسخته العربية قد تعرّض لظلمين. الأول أنه صار فضفاضاً، بلا حدود تعصمه من عبث العابثين المتطفلين عليه؛ حتى غدا ملعباً لكلّ من هبّ ودبّ به. والثاني أنه قد جرى تضييق نطاقه وأسئلته، وتحوَّل في كتابات كثيرة اختصت به إلى مدونة نصية تبحث عن النسق المضمر الذي «يناقض الظاهر» ويحمل صفة «القبح» في نص جمالي. ويكتمل المشهد بأمرين آخرين. الأول أن هذا النسق موجود في نصوص الهامش التي ربما لا تعترف بها المؤسسة الرسمية. والثاني أن الجمهور هو من حدّد جمالياته، وليس المؤسسة. هاتان المسألتان تؤلفان معاً جوهر المساءلة المعرفية التي ينهض به كتاب عبد العظيم السلطاني الأخير «نقد النقد الثقافي - رؤية في مساءلة المفاهيم والضبط المعرفي، دراسات فكرية - جامعة الكوفة - 2021». هذه المساءلة استندت، لدى السلطاني، إلى فرضية تقول إن النقد الثقافي هو «شكل من أشكال المعرفة، وكل معرفة بحاجة دائمة إلى الفحص والمراجعة». وفي حالة النقد الثقافي، فإن الحاجة للمراجعة ترتبط باشتغالات هذا النوع من النقد المرتبط بـ«الحياتي والواقعي والمتحرك»؛ فهو بحاجة ماسة لما يسميه السلطاني «نقد النقد الثقافي»، وهذا النقد لا يكتفي بالمراجعة المعرفية فقط، إنما يكتمل ويتعزز بالدراسة التطبيقية، وهو مدار الفصلين المكمِّلين للمساءلة النقدية - المعرفية؛ إذ اختصَّ الفصل الثاني من الكتاب بدراسة «التمييز الجنوسي ضد المرأة في الخطاب التربوي العراقي المعاصر»، فيما تعلَّق الفصل الثالث بثقافة الاعتراف وأنساقها في مدونة بدر شاكر السَّياب «كنت شيوعياً».
في تمهيد الكتاب، ثم في فصله الأول، يعكف السلطاني على تقصي أصول النقد الثقافي العالمية واستظهار تحولاتها في مراحل تاريخية مختلفة، ارتقى فيها هذا النقد أو قلّ شأنه. والبداية هي محاولة التمييز بين حاضنة هذا النقد، وهي الدراسات الثقافية، وبين النقد الثقافي نفسه. وهذه المحاولة تُسفر عن نتيجة مهمة، بعد وقفات متفاوتة تختص بأصول الدراسات الثقافية، ترى أن الدراسات الثقافية هي الأصل على أساس من أسبقية ظهورها؛ وهي «مظلَّة واسعة» لأطراف وتخصصات متعدِّدة على المستويين التجريدي النظري والعملي التطبيقي. ويخلص السلطاني إلى أن الدراسات الثقافية تتسع لتشمل «نقد الثقافة» و«نقد الدراسات الثقافية»، وهناك فرع ثالث رئيس، وهو «النقد الثقافي». يتخذ السلطاني من كيفية «اشتغال» النقد الثقافي على موضوعة «الأدب» مدخلاً مهماً للتدليل على صحة ضبطه لـ«مستعمرات» الدراسات الثقافية. فالدراسات الثقافية شأن النقد الثقافي نفسه تهتم بكيفية اشتغال المنتجات الثقافية، وكيفية تشكّل الهويات الفردية والجماعية، والأدب «واقعة» أو «منتج» ثقافي، وهو نشاط شامل، يدخل فيه الشعبي والرسمي، القديم والحديث. إن توصيف الأدب بصفة «الواقعة الثقافية» الشاملة هو شأن و«اشتغال» أو «مهمة» الدراسات الثقافية والنقد الثقافي على السواء؛ فهل هذا كافٍ للتمييز بين التخصصين؟ وإذا كان الأدب واقعة ثقافية مثل أي واقعة ثقافية أخرى؛ فما الذي تختص به الدراسات الثقافية وتتميز به عن النقد الثقافي؟ ومن ثمّ كيف نراجع أسئلة حقل معرفي من دون تحديد مسبق لمجاله وما يختص به؟ لا جواب سوى أن الدراسات العالمية التي نظَّرت لهذين الفرعين المعرفيين تستخدم المصطلحين مترادفين؛ فهما مثل الدراسات الأدبية والنقد الأدبي، إذ تنطوي الأولى على «نقد أدبي». غير أن الدكتور السلطاني يجد في دراسة الناقد السعودي «عبد الله الغذامي» محاولة مفيدة في التأسيس للنقد الثقافي وتحديد مجاله وأسئلته في الأدب والثقافة العربية، ومن ثمَّ، مراجعة ومساءلة هذا النوع من النقد.

محاولة ضبط النسق الثقافي

يبدأ «نقد» الدكتور السلطاني للنقد الثقافي من هنا، من مراجعة مفهوم النسق الثقافي «المضمر» وشروطه الأربعة التي افترضها الناقد «الغذامي» في كتابه المعروف «النقد الثقافي - قراءة في الأنساق الثقافية العربية». وهي الشروط التي يرى السلطاني أنها تضيّق كثيراً مساحة النقد الثقافي وتحدُّ من إمكاناته. فإذا كان «الغذامي» قد أوكل للنقد الثقافي مهمة البحث عن «النسق المضمر» وطرق تمرير «الثقافة» لحيل النسق البلاغية - الجمالية، فإن الدكتور السلطاني يعيد النظر بمفهوم النسق الثقافي ذاته؛ فهو نسق مخفي «مضمر كذلك»، لكنه محرِّك لأنساق الخطاب. فما الفارق إذاً بين صفتي «المضمر» و«المخفي»؟ يكمن الفارق المهم، من وجهة نظر السلطاني، في أن النسق المخفي المقترَح يمتاز بصفتي التحريك والإنتاج؛ فهو «نسق ذهني تجريدي ومخفي» ولا صلة له بنسق آخر، يناقضه، أو هو على الضد منه، يسميه الغذامي النسق الظاهر. ثمّ إنه غير محمول في الخطاب ويُستدل عليه؛ خلاف النسق المضمر الذي يحمله الخطاب نفسه، ويصل المحلل لهذا النسق عبر تحليل الخطاب فقط.
تحليل الخطاب هو الفيصل، إذاً، في اكتشاف واستظهار النسقين، المضمر والمخفي، لكن حالة النسق المخفي تختلف كثيراً؛ فهو «المسؤول» عن وجود النسق المضمر، وهو كذلك يثير أسئلة «ثقافية» مختلفة تتعلَّق بالتناقض بين النسقين المتضادين في الخطاب الواحد. وعلى أساس من هذا يُراجع السلطاني شروط الغذامي الأربعة لأي نسق مضمر. فالغذامي يتحدث عن المتن الجمالي بحسب عرف «الجمهور» وليس المشكِّل حسب قوانين «المؤسسة» وشروطها. وهناك شرط وجود نسقين في الخطاب المدروس، أحدهما ظاهر، والآخر مضمر، ثم هناك شرط تحكم «النسق» المضمر بالظاهر، فالأول ينقض الثاني. وفي الختام، لا بد أن يكون النص، موضوع التحليل، متمتّعاً بمقبولية جماهيرية عالية. وما دام النقد الثقافي يعمل على الأنساق الثقافية المختلفة، المضمرة والمخفية، فلا أساس لشرط الاشتغال على النصوص غير الرسمية أو المؤسساتية؛ لأنّ هذا النقد يتسع للنصوص الرسمية «الرفيعة وسواها»، كما يتسع للنصوص الشعبية المهمَّشة؛ ما دامت النصوص كلها تتضمن نسقاً ظاهراً وآخر مخفياً أو مضمراً، وتدخل في هذا التحديد النصوص النقدية غير الجمالية؛ لأنها خطابات أيضاً، وتحمل حيل الثقافة وأنساقها المضمرة والمخفية. ويستكمل السلطاني مراجعته للنسق الثقافي بشرط ثانٍ، وهو أن الناقد الثقافي، ومن ثمَّ الدراسة الثقافية، يجب أن يكون لديها موقف نقدي من الموضوع - الخطاب الذي تدرسه؛ ذلك بأن الناقد الثقافي لا ينقد بلا وجهة نظر. ويقودنا الشرط الثاني إلى الثالث، وهو أن النقد الثقافي ليس بحثاً أو بحوثاً نظرية، بل هو نشاط تطبيقي على خطابات وفعاليات ثقافية. هذه الشروط الثلاثة هي جوهر مراجعة «نقد» النقد الثقافي عند الدكتور السلطاني، وهي الصيغة المقترحة من قبله لأي «نقد» يوجه لتصوره ذاته عن النقد الثقافي.

نقد أدبي أم نقد ثقافي!

هل النقد الثقافي بديل عن النقد الأدبي؟ بل هل النقد الثقافي منهج شأنه شأن المنهج البنيوي والتفكيكي ومناهج الهرمونطيقيا - التأويل؟ موت النقد الأدبي أطروحة نسمعها باستمرار لمناسبة ظهور وترسخ النقد الثقافي، ولقد وصلت إلى أقصى مدياتها مع كتاب «موت الناقد» لرونان ماكدونالد الذي جعله بعض كتبة المقالات العرب «المانيفستو» الأخير الذي يحسم الجدل بصدد جدوى النقد الأدبي، في حين أن الأمر لا يعدو كونه وجهة نظر ناقد ثقافي يبالغ كثيراً في قيمة أطروحاته، وأن وضع النقد الأدبي إزاء النقد الثقافي ليس كما يقول صاحب الكتاب في كبريات الجامعات العالمية. ربما لأجله لم يهتم الدكتور عبد العظيم السلطاني بهذا الجدل «البيزنطي»، فسعى إلى قول رأيه بهدوء؛ ذلك أن النقد الثقافي ليس بديلاً عن النقد الأدبي، وليس له أن يدَّعي هذا الأمر، فالنقد الأدبي له مجاله وأسئلته الخاصة والمختصة بشعرية «أدبية» الأدب، ولا يمكن، بأي حال، أن يتولى النقد الثقافي هذه المهمّة، أن يقول لنا معايير الأدب، أو كيف يصبح نصّ ما أدباً، فهذا مجال وحقل النقد الأدبي الذي لا ينازعه به تخصص آخر. أما النقد الثقافي فيبدأ عمله في مجال الأدب ونصوصه من اللحظة التي يقرر فيها النقد الأدبي أدبية النص، ليتحول بعدها إلى «واقعة» ثقافية، فيعمل عليها بوصفها خطاباً ثقافياً، وقد لا يهتم كثيراً لجمالية النص، قدر عنايته القصوى باشتغاله بصفته واقعة ثقافية. والمفروض، كما يدعو السلطاني، أن يُفيد النقد الأدبي كثيراً من أسئلة وإمكانات النقد الثقافي؛ ذلك أن أسئلة النقد الثقافي ربما لا يتسع لها حقل النقد الأدبي. ثمّ إن النقد الثقافي ليس منهجاً «نقدياً»، بل هو «توجه واهتمام وحقل معرفي فيه رزمة من أسئلة، تخص بالعناية فعل الثقافة في الواقع»، وهو يُفيد من مناهج نقدية متعدِّدة ومختلفة، فقد يعمد إلى استثمار المنهج السيميائي كما فعل السلطاني نفسه في دراسته التطبيقية على مناهج وزارة التربية العراقية وما تنطوي عليه من تمييز جنوسي ضد المرأة، وقد يستثمر المنهج التفكيكي كما هو حال في دراسة وتحليل ثقافة الاعتراف في مدونة السياب «كنت شيوعياً»، وفي الدراستين نجد الدكتور السلطاني يوظف إجراءات منهجية مختلفة، ويبرع في استخدامها كثيراً.



«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار

«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار
TT

«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار

«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار

دورة ناجحة لمؤتمر قصيدة النثر المصرية تنوعت فيها الرؤى والدراسات النقدية، والقراءات الشعرية لكوكبة من الشاعرات والشعراء من شتى الأقاليم المصرية، كما احتفت بتجربة شاعرين من الرموز المؤثرة والمؤسسة لهذه الكتابة الشعرية الجديدة.

على مدار ثلاثة أيام استضافت مؤسسة «الدستور» الصحافية وقائع الدورة الثامنة من «مؤتمر قصيدة النثر المصرية»، التي شهدت مشاركة واسعة لأسماء عديدة من مختلف المشارب والأجيال الشعرية والأدبية؛ وسط تنوع لافت في الفعاليات ما بين الجلسات النقدية والمداخلات النقاشية، والاحتفاء برموز مؤثرة في سياق مغامرة قصيدة النثر وترسيخ وجودها ودورها الإبداعي الذي يتعمق يوماً بعد يوم، فضلاً عن قراءات شعرية متنوعة لكوكبة كبيرة من الشعراء والشاعرات في تظاهرة فنية لافتة حررت المشهد الشعري المصري من الرتابة والتكرار وأكسبته حيوية مفتقدة، كما أتاحت الفرصة أمام أصوات مختلفة للتعبير عن نفسها.

ألقى الناقد والأكاديمي د. محمود الضبع كلمة لافتة في الجلسة البحثية الأولى بعنوان «ما بعد العولمة وتبعاتها في الشعر المعاصر»، مشيراً إلى أن ما بعد العولمة ليست مجرد تطور اقتصادي أو حتى فكري، بل هى في الأساس سلطة سياسية جديدة تتخذ تجليات عدة، مما يجعل الأدب عموماً، والشعر في القلب منه، منوطاً به معرفة دوره الخطير إزاءها باعتباره الوعاء الرئيسي للتعبير عن العادات والتقاليد والثقافة العامة في عصر ما. وأشار إلى أن الشعر ليس نغماً أو جمالاً معزولاً أو حالة جمالية منبتة الصلة عن الواقع، فقد أثبتت الثورات التي شهدتها المنطقة العربية في حقبة ما بعد الألفية الثالثة أن الشعر استعاد أدواره القديمة فعلاً تحريضياً وأداة حماسية.

وتحت عنوان «قليل من المحبة»، خصص المؤتمر جلستين للاحتفاء باثنين من رموز قصيدة النثر هما الشاعران محمد فريد أبو سعدة وجمال القصاص. تحدث القصاص عن أبو سعدة، رفيق الدرب، متمنياً له الشفاء، مؤكداً أن أبو سعدة ينظر إلى الشعر في كليته، وبراءته الحميمة، ليتباهى كصوفي عاشق يدرك أن الوجود هو حلقة متصلة للروح، تسبق الصورة والفكرة، والنغمة والموسيقى والإيقاع، وأن هزة السطر والحرف والكلمة ليست شرخاً ناتئاً في المرآة، وإنما ضرورة للإمساك بأزمنة وملامح، وحدس إنساني هارب في ظلالها وبياض عتمتها ونصوعها الشائك المراوغ.

ولفت إلى أن أبو سعدة في دواوينه المتنوعة مثل «معلقة بشص»، «جليس لمحتضر»، «سماء على الطاولة»، «أنا صرت غيري»، يصل إلى سؤاله الشعري، ويخلص له عبر تدفقات الذهن والحس معاً، وبراح فضاء قصيدة النثر، كأنه يوقظ أعماقاً مغايرةً في داخلنا، فعلى السطح وفي العمق تبني الصورة عالمها بشفافية لافتة، بينما يتخلى الماضي عن فكرة الترجيع، أو أنه صدى لأشياء بائدة، هو صدى للنص نفسه، وما يرشح عنه، ما يعلق في وعينا ولا وعينا معاً، من انكشاف النص نفسه لذاته أولاً، قبل أي شيء آخر.

يلاحظ القصاص في شعرية أبو سعدة كيف يتسع المشهد على نحو خاص ليشمل حضور الأنثى وعناصر الطبيعة ونثريات الواقع والأشياء العابرة المهمّشة المنسية، وتصبح الحسية أداة للمعرفة والسؤال، وفي الوقت نفسه، يخلع النص قناع الآخر، ويتوحد بقناع الشاعر الذي يعرف كيف ومتى يخلعه ويلقيه خلفه، وكيف يلجأ إليه، كنوع من التمويه والتخفي والانعتاق من فوضى العالم، كما في ديوانه «سماء على الطاولة»: «ذهبوا/ وظل وحده/ على صدره جبل/ وتحت جلده مناقير تنهش في القلب/ قضى عمراً ليصل إلى الباب/ عيناه جوهرتان/ ويداه تمسكان بالفراغ».

وقدم الشاعر والناقد عمر شهريار ورقة بحثية بعنوان «قصيدة النثر والاغتراب: جدل القطيعة والتواصل»، رفض فيها عدداً من «الاتهامات الجاهزة» الموجهة لقصيدة النثر، من أشهرها أنها في قطيعة دائمة وأبدية مع التراث، كما أنها تمثل خطراً على الهوية العربية وتجسد حالة من الانسلاخ من الماضي. وعدَّ شهريار أن قصيدة النثر مثلها مثل الأشكال الشعرية الأخرى كقصيدة التفعيلة وقصيدة العمود، هي في حالة جدل دائم مع التراث، فتارة تتمرد عليه وتارة أخرى تستلهمه وتارة ثالثة تنطلق منه أو ترفضه و... هكذا. وشدد شهريار على أن شاعر قصيدة النثر مثله مثل بقية نظرائه على خريطة الإبداع الأدبي لا يستطيع الهروب من اللغة كأداة أساسية بما تمثله من حامل أو وعاء للعادات والتقاليد والثقافة بمفهومها الواسع، بالتالي تجد قصيدة النثر نفسها في حوار جدلي مع التراث، على الأقل من خلال الاشتغال الذي لا بد منه على اللغة.

وفي الجلسة النقدية باليوم الثالث للمؤتمر، التي أدارتها بحيوية الكاتبة الروائية والإعلامية دكتورة صفاء النجار قدمت الباحثة هبة رجب شرف الدين بحثاً بعنوان «سرديات الماهية في قصيدة النثر المعاصرة بين المرجعية والتخييل الذهني»، ارتكزت فيه على نماذج لكوكبة الشعراء والشاعرات، وتوقفت بالتحليل أمام قصيدة للشاعر إبراهيم المصري بعنوان «ما هو الشعر»؛ حيث يعرّف الشاعر ماهية الشيء/الشعر بقوله: الشعرُ/ حضورٌ كونىٌّ للبذخِ/ وجسورٌ معلقةٌ/ نعبرُ عليها من غيمةٍ إلى غيمة». وتنبع أفكار الشاعر في تصوير حقيقة الشعر من البيئة، لافتة إلى أن الأفكار الشعرية لديه تماثل الغيمة؛ وهذا النعت لها من الطبيعي أن يبرز موقع الشاعر موقعاً علوياً حتى يحدث الإشراق الذهني منفرطاً، وهذا المعنى هو ما استهل به الشاعر الوحدة الشعرية.

وتنتقل الباحثة إلى تجربة شعرية أخرى للشاعر أحمد إمام، حيث يتأثر في قصيدة النثر بالتقنيات القصصية من الحوار والوصف ومنظور الرؤية؛ وهو يقدم مفهوماً أو تعريفاً لماهية صورة الشاعر في «قصائد بحجم راحة اليد»؛ إذ يقول في قصيدة بعنوان «الشاعر»: نظَّفَ حَنجرتَه من بقايا غناءٍ قديم/ وذاكرتَه من غبارِ القوافلِ/ ومشى وحيداً إلى الليلِ/ وحيداً كذئب/ لا كطريدة/ حدَّقَ في المرآة طويلاً/ كأنه يشربُ صورتَه على ظمأ»، مشيرة إلى أنه يصف الذات الشاعرة بمجموعة من السمات القابعة في تصوره؛ فتتضح هذه السمات عبر الإخبار بشكل قصصي عن الحالة التي تسبق الكتابة، وهي حالة جوهرية تخص الشعراء؛ من هذه السمات أن الشاعر لديه فنان في المقام الأول، مسافر رحَّال في المقام الثاني ترحالاً معنوياً أكثر منه مادياً؛ لذا فهو منفرد دائماً بذاته التي دائماً ما تتشكل في صور كثيرة بعدد صوره الشعرية.

ويتخذ الباحث إبراهيم أحمد أردش من ديوان «ما أنا فيه» للشاعر أحمد الشهاوي نموذجاً لدراسة بعنوان «البحث عن راحة الذات المتعبة من الأفكار في قصيدة النثر»، حيث يرصد حيرة الشاعر مع الأفكار وتداعياتها عليه، عن اقترابها وابتعادها؛ ليصبح ما فيه الشاعر هو البحث عن الأفكار أحياناً والهروب منها أحياناً أخرى، حتى يزهد الشاعر في الاستيقاظ، باعتباره معادلاً للتفكير: «مُستغنٍ عن الصَّحوِ/ أخبَّئُ جرَسَ البابِ/ في الجَيْبِ/ أخفي جرَسَ الهاتف/ في سُترةِ الصَّمتِ/ أقايضُ إغفاءةً/ بقيراطين من ماس».

وفي جلسة احتفاء بتجربة الشاعر جمال القصاص تحدث الشاعر أسامة حداد عن علاقته بالقصاص والمرتكزات الجمالية والفلسفية التي تشكل رؤيته للشعر والحياة، وتنعكس على تشكيله الجمالي للقصيدة ومغامرته في البحث عن الجديد دائماً. وتناول الشاعر والباحث د. خالد حسان جماليات قصيدة الشاعر جمال القصاص، لا سيما في دواوين «السحابة التي في المرأة» و«ما من غيمة تشعل البئر» و«جدار أزرق»، مشيراً إلى أن القصيدة تبدو لديه مفعمة بعذابات شخص شديد الحزن، بالغ الرقة والرهافة، شخص بسيط ليست لدية أي قناعات أو آيديولوجيات، أو أفكار جاهزة، شخص شديد الالتصاق بذاته، بهواجسه، بأحلامه الصغيرة، وطموحاته التافهة والمريضة، ها هو يقول: «ليس لدي اعترافات/ ولا سلطة مطلقة/ لكنني حين أجهش في الليل/ أحس أن هذا الخراب مجرد شيء سقط مني».

ويعدُّ حسان أن أهم ما يميز إنتاج جمال القصاص قدرته على تفجير الشعر طوال الوقت في كل جملة وكل تركيب وكل كلمة، بحيث تتابع الانفجارات الشعرية على طول القصيدة، ومن ثم الديوان، فقصيدته لا تعتمد المباشرة أو المفارقة أو غيرها من جماليات قصيدة النثر في نسختها الأخيرة، وهي أيضا لا تقوم على إثارة القضايا الكبرى من خلال السعي وراء عوالم ميتافيزيقية، كما اقترحت النسخة الأولى من القصيدة على أيدي روادها، فالتركيبة السحرية التي جاء بها القصاص يمكن أن نصفها بالقدرة على الالتصاق بالذات الشعرية الصغيرة والهشة في محاولة لسبر أغوارها، وإظهار عذاباتها، لكن من خلال آليات جديدة، أو فلنقل آليات خاصة تحمل بصمة الشاعر التي يصعب تكرارها في قصائد غيره.

وتعليقاً على حصاد تلك الدورة من المؤتمر، يشير رئيس المؤتمر ومنسقه الشاعر عادل جلال إلى أن الأهداف لم تختلف عن الدورات السابقة، حيث لا يزال كسر مركزية وهيمنة مجموعة محددة على المشهد الشعري عموماً، وقصيدة الشعر الحر في مصر، هدفاً رئيسياً لم يتغير. ويضيف جلال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن من أهداف المؤتمر كذلك إتاحة الفرصة لأصوات جديدة من الشعراء للتعبير عن نفسها دون وصاية، وتسليط ضوء قوي على مواهب جديدة. ويشير عادل جلال إلى أن الخروج من القاهرة والانفتاح على بقية المدن والأقاليم لا يزال هدفاً مشروعاً، لكنه يحتاج إلى دعم كبير وتمويل سخي، وهو ما لا يتوفر حتى الآن.