نجم والي
قبل أن تُرسم الحدود وتؤسس الدول، وُجد السفر. الانعتاق والرحيل، الإبعاد والفرار. إنه قديم قِدم الألم، كما الرغبة في التخلي عن كل شيء، والاضطرار إلى ترك كل شيء، كما لو أنه ولد من إدراك الألم في الوجود. ذلك ما عرفه حتى أولئك الذين لم يميلوا مطلقاً إلى مغادرة موطنهم الأصلي؛ الإسكندري كونستانتينوس كافافيس مثلاً، «الرجل العجوز الحكيم»، كما سماه لورانس دوريل في رباعيته «الإسكندرية». كافافيس؛ الذي عاش في مدينته الإسكندرية لمدة 70 عاماً حتى وفاته، كان متشائماً من السفر؛ لأنه لم يعدّ السفر ضرورة. لقد كتب: «وكما خربت حياتك هنا، في هذه الزاوية من العالم، فهي خرابٌ أنّى ذهبت». ومع ذلك، لم يظل جالساً في المكان نفسه منتظراً خرابه، لقد قام برحلتين؛ واحدة إلى باريس، والأخرى إلى لندن، ورحلات قصيرة إلى أثينا والقسطنطينية، وترك لنا قصيدته الرائعة «إيثاكا»، والتي توضح لنا أهمية المسار الذي نسلكه نحو الهدف.
نداء المسافة
بداية كل رحلة تتطلب منا الخضوع لنداء المسافة؛ لأن المسافة لا نهائية مثل القلب. لا توجد قوانين أو قواعد، سابقة أو حالية، تحدد متى وأين وكيف تسافر. السفر تجربة... هو الرغبة في الاستسلام لنداء القلب، والانطلاق إلى مكان جديد من أجل اكتشاف شيء مجهول.
السفر مصدر الحكمة وموطن الدهشة. حتى الذي لا يستطيع السفر مباشرة إلى المكان؛ فإنه يرتحل في الزمن، إلى الماضي بحثاً عن الوقت الضائع، مثل مارسيل بروست. أو إلى الحاضر؛ إلى أميركا مثل كافكا، أو إلى المستقبل مثل أ.هربرت. ج.ويلز في «آلة الزمن»، أو إلى المدن غير المرئية مثل إيتالو كالفينو، أو إلى العراء على ظهر سفينة كبيرة لصيد سمكة أسطورية تسمى «موبي ديك»، أو يتسلق أعلى جبل في أفريقيا، جبل كليمنغارو المغطى بالثلوج؛ كما هيمنغواي. أما مَنْ لا يستطيع النوم بسبب المرارة أو الحقد أو الغضب فيشرع في رحلة إلى نهاية الليل مثل سيلين.
ومَن لا يستطيع الرحيل من مكانه، يرتحل في الحكي. مَن تقاسم زنزانة مساحتها عشرين متراً مربعاً مع ستين سجيناً ومعرضاً للعث والقمل واليأس ومزاج الجلاد، كما حصل في أقبية زنازين المخابرات العسكرية في بناية وزارة الدفاع في بغداد شتاء 1980، فلن يجد طريقة أخرى لفكّ أسره غير سرد القصص لرفاقه في الألم واليأس. قصصنا هي وسيلة للتغلب على وعي الألم ومقاومة الرغبة في الموت.
السفر في القصّ
ماذا ستكون حال قصص «ألف ليلة وليلة» من دون السفر؟ من أجل البقاء على قيد الحياة نسجت الراوية شهرزاد بساطاً من القصص والأسفار للملك شهريار، المدمن على القتل، للخروج من عالمه إلى مكان جديد؛ إلى مكان وأمكنة قصصها. ومثلما يحدث لكل مسافر عندما يعود إلى المكان الذي غادر منه، ويتصالح معه، فهكذا وجد شهريار نفسه قد تغير في بلده، دون أن يغادره، خلال الألف ليلة وليلة، وفي النهاية دفن خلفه القاتل الذي كان في داخله. على خطى عدد لا يحصى من الأيام والليالي، تنشأ الرحلات من روح سرد القصص، وتخلق الدهشة عند الاستماع أو القراءة وتمهد الطريق إلى عالم جديد. «دون كيخوته» التي كتبها سيرفاتس، بعد رحلات طويلة وجولات وخطف وسجن، والتي وُضعت من خلالها الأسس الأولى للرواية الحديثة، ليست فقط رواية تحكي رحلة فارس «كاستيا دي لا مانجا» يتجول بصحبه تابعه «سانشو بانشا» لمقاتلة طواحين الهواء، بل هي البداية لتثبيت تقليد لاحق؛ وهو شغف الروائي بالسفر.
فرّ دوستويفسكي من مدينة إلى أخرى هرباً من دائنيه. ربما لولا هروبه ذاك لما قرأنا بعض رواياته الخالدة المعروفة، مثل رواية «المقامر» التي كتبها في بادن بادن، و«الشياطين» في درسدن.
الألماني هاينريش هاينه أنجز «أسطورة الشتاء» في باريس. في باريس أيضاً كتب تورجنيف «آباء وأبناء». غوغول اشتغل على «النفوس الميتة» في روما. بينما كتب جورج بوشنير «موت دانتون وفويتزيك» في زيوريخ. رومان رولاند كتب في سويسرا عن فرنسا. وريلكه كتب رسائل إلى مؤلف شاب في بياريجو وفوربيده وروما وباريس وفي السويد، كما أكمل عمله على مراثي دوينيوس في سويسرا. هنريك أبسن كتب عن النرويج في ألمانيا. وكتب ستريندبرغ عن السويد في فرنسا. وكتب جيمس جويس عن دبلن وناسها في تريستا، وكتب غارسيا ماركيز «مائة عام من العزلة» في مكسيكو سيتي. وهذا ما ينطبق على «موت في البندقية» لتوماس مان، و«طيران الليل» و«بريد الجنوب» لإكزوبيري.
وفي كل ذلك، لا أشك، أن أسلافنا هؤلاء ما كانوا أنجزوا كل هذه العناوين الخالدة حتى اليوم، لو لم يسلموا أنفسهم لغواية الرحيل. لو لم يذهبوا بأنفسهم بحثاً عن الحظ، لطرق بابه، ولم يبقوا جالسين بانتظار أن يطرق هو أبوابهم. نعم؛ ليس هناك أكثر تعاسة من البقاء في المكان ذاته. لا بد من الرحيل. ولا يهم المكان الذي ننتهي إليه. في نهاية المطاف؛ لا بد أن نصل إلى النقطة التي نستلّ فيها مفاتيح ذهبية مرمية هناك عند الأفق، تحت أقدام قوس قزح برَقَ أمام عيوننا، والتي سنعثر بالتأكيد، عن طريقها، على كنوز مدفونة.
كنوز بغداد
في طفولتي كنت أعثر على كنوزي في بغداد. 360 كيلومتراً كانت المسافة بين العمارة، التي كنا نعيش فيها في جنوب العراق، وبين العاصمة بغداد. لكن في كل رحلات أبي إليها، كنت أتخيل نفسي، وقبل أن أنام، أنني أسير معه في أزقة بغداد ودرابينها. وفي ليالي الصيف؛ ولأننا كنا ننام في باحة البيت الواسعة، كنت أطيل النظر في النجوم التي لا تحصى وهي تلمع في السماء والتي كانت مثل شاشة عرض تتلألأ بتخيلاتي. بهذا الشكل كنت أرسم صورة خريطتي الخاصة عن بغداد؛ خريطة صغيرة تناسب حدود قدرة صغير مثلي على التجوال. لا أتذكر كم كانت تطول رحلتي المتخيلة تلك؛ لأنني غالباً ما كنت أستسلم سريعاً للنوم. كانت عيناي تتعبان وهما تدوران شتاء؛ على طول السقف وعرضه، يميناً ويساراً، أو صيفاً وهي تتنقل عالياً من نجمة إلى أخرى.
لا أعرف كم يمنح الخيال من القوة لتخيل المدينة التي لم تكن قدماي قد وطئتها حتى ذلك الحين، لكي تبدو حقيقية؛ لأن كل ما أعرفه عن تلك الليالي، التي أصبحت بعيدة عني بُعد بغداد عني وأنا في برلين، الآن، هو أنني كنت حينها مثل مهندس معماري يبني طرقاً هوائية في الفضاء، وأن القصص التي كنت أسمعها ممن هم حولي عن بغداد، لم تفعل غير تغذية رحلاتي بتخيلات جديدة. في سنوات النضج وجدت نفسي وأنا أصعد سلم طائرة الخطوط الجوية العراقية في 14 يوليو (تموز) 1976 (كان لي تسعة عشر عاماً)، لأظهر في باريس فجأة وفي جيبي ستمائة دولار لا غير، وكنت أنوي دراسة الإخراج السينمائي في باريس! وحينما عدت إلى بغداد، وبعد زمن قصير، كنت سعيداً. صحيح أنني لم أحقق حلمي بدراسة السينما، إلا إنني رأيت جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وبقية شلتهم الوجودية في مقهى دو فلور في باريس. وكان ذلك وحده كافياً لإبهار زملائي المثقفين الشباب في بغداد.
موت ودمار
غنيمتي الحقيقية من هذه الرحلة الفاشلة اكتشفتها أولاً بعد 40 عاماً، عندما ذهبت إلى معسكر «إيدوميني» في صيف عام 2016 للتطوع «الشرفي» للمساعدة في الترجمة الفورية للاجئين. حينه تذكرت أنني ارتحلت بالفعل ذات مرة على هذا الطريق بالحافلة؛ أي في سبتمبر (أيلول) 1976، لكن في ذلك الوقت، لم أكن هارباً؛ بل كنت في طريق العودة من باريس، ولم يكن في جيبي أكثر من حلم طفولي فاشل. لكن الأحلام يمكن تهريبها بسهولة عبر الحدود، بغض النظر عن البلد الذي تبدأ رحلتك منه.
إذن؛ في أبريل (نيسان) 2016 سافرتُ من ألمانيا إلى «إيدوميني». لقاءاتي مع النازحين والأشخاص الهاربين الذين تقطعت بهم السبل هناك، والمحادثات حول أحلامهم، وجّهتْ نظرتي إلى عصر كانت فيه أوروبا وآسيا الصغرى والشرق الأوسط يعاد تنظيمها من جديد. لقد وجدت أنه على طول طريق غرب البلقان - من آسيا الصغرى إلى أوروبا - كان هناك تبادل بين الشعوب منذ العصر البابلي. وطالما كانوا يتاجرون بعضهم مع بعض، فإنهم عاشوا في سلام. كانت المدن على طول الطريق بمثابة بوتقة حقيقية وشكلت أساس المنطقة. وحينما جرى التشكيك في هذا التعايش وانتهى بالقوة، تحولت المنطقة إلى منطقة موت ودمار حتى القرن العشرين.
طرق الهروب وهجرات الشعوب، الطرد والهجرة، تجلب الذكريات والحاضر معاً. في عام 2016 كان من المفاجئ، بالنسبة لي، أن أرى التاريخ يعيد نفسه؛ فقبل نحو تسعمائة عام، سار آلاف الصليبيين على هذه الطريق بهدف العثور على الكنز الموعود في القدس. اختار العديد من الفرسان الأثرياء طريقاً مختلفة للهدف نفسه: ارتحلوا عبر البحر إلى الأرض الموعودة. يا لها من مفارقة في التاريخ، فكرت في ذلك الوقت: في عام 1095 انطلق الباحثون عن الثروة من الشمال إلى الجنوب وهم يحملون السلاح، بينما في عام 1620 انتقل الباحثون عن الثروة من الجنوب إلى الشمال عُزلاً، من غير سلاح. بالنسبة لكثيرين منهم كان «إيدوميني» هو المحطة النهائية في عام 2016.
على هذه الطريق عدت إلى العراق عام 1976 بجواز سفر عراقي. في عام 2016 أتيت بجواز سفري الألماني، وكنت أحد أولئك القادمين من الشمال الميسور الذي لا يستطيع حلّ البؤس، لكن على الأقل يحاول التخفيف من حدته.
إذن، هل السفر مجرد شكل آخر من أشكال الهروب؟ حركة نشرع فيها لكسب المعرفة والغنى والناس؟ ربما. لكن ما هو مؤكد هو أن ما تسمى «طريق البلقان» طريق ذات اتجاهين؛ طريق للتبادل واللقاء، وبالتالي - مثل طريق الحرير - إحدى أهم الطرق الثقافية والتجارية في العالم؟
سنوات الغواية
كانت سنوات بداية العشرين من عمري هي سنوات الغواية، مثلما كانت هي سنوات الدهشة من كل ما هو جديد. طوبى لبطل زماني المضطرب، وقد أسلم نفسه لولع الترحال مبكراً. طاف العالم ولا يزال كما بحّار على الأرض. «مارينيرو إن تييرا» (كما هو عنوان أول ديوان شعري للأندلسي رافائيل ألبرتي)؛ إنه مثل «سندباد»، ليس هناك ما يمنعه من أن يطأ بقدمه أرضاً خطرة. ذات مرة وجد السندباد نفسه على جزيرة صغيرة في وسط أعالي البحار، وشعر بالنجاة وأشعل النار لتدفئة نفسه. لم يكن يعلم في تلك اللحظة أنه كان جالساً على ظهر سمكة قرش نائمة ضخمة، ستوقظها الحرارة وتعرضه للخطر.
رحلة إلى قلب العدو
أنا أيضاً لعبت بالنار عند القيام بـ«رحلة إلى قلب العدو». زرت إسرائيل وكتبت عن الناس الذين قابلتهم؛ عرباً ويهوداً، أردت أن أعرف كيف يعيش الاثنان معاً هناك، رغم أنني كنت أعلم أن الرحلة إلى إسرائيل؛ إلى أرض العدو، بالنسبة إلى العربي في أي وقت هي مثل اللعب بالنار. بالإضافة إلى ذلك، لا يُسمح مطلقاً بتصوير «العدو» على أنه شخص، مثلنا، يتوق إلى السلام ويخشى الحرب. أردت المؤاخاة بين الشعوب فحصدت العداوات ومن أكثر من طرف.
من يجرؤ على القيام بمثل هذه الرحلة سيعرض حياته للخطر. ليس فقط في عالم اليوم. في كتابه «عالم الأمس»، القريب جداً من قلبي، يصف ستيفان زفايغ رحلته إلى «أرض العدو»؛ إلى بلجيكا، للقاء رومان رولاند وكتابة إعلان ضد الحرب العالمية الأولى الوشيكة معاً. العداوات التي لاقاها به أبناء وطنه لهذا السبب، لم تمنعه من لقاء رولان مرة أخرى. هذه المرة في فندق في زيوريخ كان مليئاً بالمخبرين.
بالنسبة إليّ إن أجمل هدية في الحياة هي السفر، الذي يجعلنا نتآخى مع أنفسنا والمكان الذي نغادر منه أو نعود إليه. الطريق التي نسلكها من مكان إلى آخر تثرينا وتربطنا مع بشر مجهولين.
طوبى لكل ثمرة غريبة. كل سكة حديد تلمع. كل بالون على شكل كرة أرضية. كل أطلس وكل حقيبة معروضة في زجاج محل، تغرينا بما هو بعيد. طوبى لكل قطرة نبيذ لذيذة. وكل مقال صحافي وكل حروف جريدة غريبة. كل كتاب غير مفهوم، وكل ما يستفزّ الرحالة المستقرين فينا، ويضع أمامهم إمكانية اللقاء مع المجهول.
اسمحوا لي أن أقولها ببضعة أسطر من قصيدة كافافي الرائعة «إيثاكا»:
وأنتَ تُزْمِعُ الرحيلَ إلى إيثاكا
فَلْتُصَلِّ من أجْلِ أن يكونَ الدربُ طويلاً
مليئاً بالمغامراتِ والمعرفة.
ضع إيثاكا دائماً في الاعتبار.
الوصول إلى هناك مقدر لك
(...)
لكنْ، لا تُسَرِّع الرحلة، في الأقلّ
والخيرُ أن تستمرَّ الرحلة أعواماً
كي تبلغ الجزيرة شيخاً،
غنيّاً بما كسبتَه في الدربِ،
غيرَ متوقِّعٍ من إيثاكا أن تهبَكَ الغِنى
(...)
لقد وهبتْكَ إيثاكا الرِّحلة الرائعة.
وبدونِها لم يكنْ بإمكانك الرحيل.
* مقتطفات من كلمة سيلقيها الروائي نجم والي بالألمانية في افتتاح «مهرجان أيام الأدب الأوروبي» السنوي والذي يعقد في الفترة بين 18 و22 نوفمبر في مدينة كريمس على نهر الدانوب في النمسا.