أوروبا وإيران... واختبار «حجز الرهائن»

«الشرق الأوسط» تروي معاناة أربعة معتقلين من بريطانيا وفرنسا والسويد

ريتشارد راتكليف وابنته غابرييلا يطالبان بالإفراج عن البريطانية - الإيرانية نازنين زاغري - راتكليف خارج مقرّ وزارة الخارجية في لندن (إ.ب.أ)
ريتشارد راتكليف وابنته غابرييلا يطالبان بالإفراج عن البريطانية - الإيرانية نازنين زاغري - راتكليف خارج مقرّ وزارة الخارجية في لندن (إ.ب.أ)
TT

أوروبا وإيران... واختبار «حجز الرهائن»

ريتشارد راتكليف وابنته غابرييلا يطالبان بالإفراج عن البريطانية - الإيرانية نازنين زاغري - راتكليف خارج مقرّ وزارة الخارجية في لندن (إ.ب.أ)
ريتشارد راتكليف وابنته غابرييلا يطالبان بالإفراج عن البريطانية - الإيرانية نازنين زاغري - راتكليف خارج مقرّ وزارة الخارجية في لندن (إ.ب.أ)

إنها الساعة الثالثة و45 دقيقة فجراً. يقف شرطيان عند خيمة صغيرة منصوبة في شارع «كينغ شارلز»، حيث مقر وزارة الخارجية البريطانية وسط لندن. يطلب شرطيان من رجل يحتمي من البرد بسترة شتوية بيضاء مغادرة «مخيمه» أمام المبنى الحكومي. يدخل الثلاثة في نقاش، ثم يغادر الشرطيان.
«لقد أدركوا من نحن وسبب وجودنا هنا. لكنهم قد يعودون غداً»، هذا ما قاله صاحب السترة البيضاء وهو ريتشارد راتكليف، زوج البريطانية الإيرانية نازنين - زاغري راتكليف المحتجزة في طهران منذ عام 2016.
بدأ ريتشارد إضراباً عن الطعام قبل قرابة أسبوعين خارج مقر وزارة خارجية بلاده، احتجاجاً على «فشل» لندن في الإفراج عن زوجته التي تواجه احتمال العودة إلى السجن في إيران، بعدما أنهت فترة محكوميتها الأولى. وينتقد جهود لندن التي يعدها «غير كافية» في مواجهة ما يصفه بـ«سياسة احتجاز الرهائن» الإيرانية.
ضم أقارب محتجزين أوروبيين مزدوجي الجنسية صوتهم إلى راتكليف، وطالبوا حكوماتهم بمضاعفة الجهود للإفراج عن المعتقلين، الذين يقولون إنهم أصبحوا «أوراق مساومة» في يد طهران.
في تحقيق عبَر ثلاث دول أوروبية، تحدثت «الشرق الأوسط» مع أُسر البريطانيين - الإيرانيين نازنين زاغري - راتكليف وأنوشه أشوري، والفرنسي بنجامين بريير، والسويدي - الإيراني أحمد رضا جلالي، في محاولة لفهم ملابسات سياسة «احتجاز الرهائن» الإيرانية، والتحديات التي تطرحها أمام العواصم الغربية المنخرطة في مفاوضات مع طهران هذه الأيام.

أربعة مطالب

  راتكليف وابنته غابرييلا يحتجون على استمرار احتجاز نازنين وسط لندن الجمعة (أ.ف.ب) 

فقد ريتشارد الأمل في نجاح استراتيجية بريطانيا لإطلاق سراح زوجته، وقال لـ«الشرق الأوسط»، من موقع احتجاجه، «لا أعتقد أنها ستنجح، ستنتهي إلى النتيجة نفسها». وتابع ريتشارد الذي بدأت مظاهر البرد القارس تظهر على محياه: «كانت لدينا أسباب للتفاؤل خلال فترة الصيف، كانت هناك الكثير من المفاوضات بين الحكومتين البريطانية والإيرانية، لكنها اصطدمت بعوائق، ثم توقفت».
وأوضح البريطاني الذي يقود حملة مكثفة لإطلاق سراح زوجته منذ احتجازها عام 2016، أن لقاءه الأخير مع وزيرة الخارجية البريطانية زاد من عزمه للإضراب عن الطعام، بعدما تبين له أن لندن لن تفرض أي عواقب على إيران عقب صدور حكم جديد على نازنين. وتابع: «قد تكون هناك عواقب إذا أُعيدت نازنين إلى السجن. لكن الأوان سيكون قد فات بالنسبة لنا». «هذا ما شجعني على اتخاذ قرار الإضراب عن الطعام. إنه قرار نستطيع اتخاذه، بدون انتظار الحكومة».
اعتُقلت الإيرانية - البريطانية البالغة 43 عاماً في 2016، أثناء زيارة عائلتها في طهران. اتهمت نازنين زاغري - راتكليف، التي كانت تعمل مديرة لمشروع في مؤسسة «تومسون رويترز» الذراع الخيرية لوكالة الأنباء، بالتآمر لقلب النظام الإيراني، وحُكم عليها بالسجن خمس سنوات. وبعدما أمضت هذه العقوبة، حُكم عليها في نهاية أبريل (نيسان) الماضي بالسجن لمدة عام ومُنعت من مغادرة إيران لمدة عام آخر بسبب مشاركتها في مسيرة أمام السفارة الإيرانية في لندن عام 2009، وخسرت زاغري - راتكليف استئنافها ضد هذا الحكم منتصف أكتوبر (تشرين الأول)، ما أثار مخاوف من إعادتها إلى السجن.
ويرى ريتشارد راتكليف أن زوجته «رهينة» لدى طهران، وأنها تُستخدم، إلى جانب بريطانيين محتجزين آخرين، ورقة مساومة لتسوية قضية دين تاريخية بقيمة 400 مليون جنيه إسترليني، تطالب به طهران منذ عام 1979.
وقدم ريتشارد أربعة مطالب للحكومة البريطانية، صنفها وفق مبدأ العصا والجزرة. المطالب المندرجة تحت «العصا» ثلاثة، وتشمل «إقرار الحكومة البريطانية بأن إيران تمارس سياسة احتجاز الرهائن في حق نازنين والمعتقلين مزدوجي الجنسية الآخرين، محاسبة المسؤولين عن هذه السياسة عبر فرض عقوبات (ماغنتسكي) عليهم، أو مواجهتهم قضائياً، والعمل مع الحلفاء في الاتفاق النووي للحصول على التزام من طرف طهران بوقف احتجاز الرهائن ومعاملتهم كأوراق تفاوض». أما المطلب المندرج تحت «الجزرة» فواحد، ويدعو لندن إلى تسوية قضية الدين التاريخي الذي تطالب به طهران. ويقول ريتشارد إنه قدم هذه المطالب للحكومة البريطانية وراء أبواب مغلقة في السابق، وهو يتطلع اليوم إلى استجابتها، رغم إقراره أن غالبية الحكومات «تفضل الانتظار عندما تواجه إضراباً عن الطعام».
ورداً على هذه المطالب، أكد متحدث باسم الخارجية البريطانية لـ«الشرق الأوسط»، أن «قرار إيران المضي في هذه التهم التي لا أساس لها ضد نازنين زاغاري - راتكليف هو استمرار مروع للمحنة القاسية التي تمر بها. بدلاً من التهديد بإعادة نازنين إلى السجن، يجب على إيران إطلاق سراحها بشكل تام حتى تتمكن من العودة إلى ديارها». وتابع: «نحن نبذل قصارى جهدنا لمساعدة نازنين في العودة إلى ابنتها الصغيرة وعائلتها، وسنواصل الضغط على إيران بشأن هذه النقطة».
يدرك البريطاني، الذي يخوض ثاني إضراب عن الطعام في عامين، صعوبة المهمة التي يواجهها. ويقول إنه في المرة الأولى اتخذ قراره تضامناً مع زوجته التي بدأت إضراباً عن الطعام من سجن إيفين في طهران، واستمر فيه 15 يوماً. ويقول: «قد أُضرب عن الطعام للفترة نفسها، أو أطول، وفق التطورات. لكن المهمة تطرح العديد من التحديات، والتأقلم مع المبيت في الشارع يتطلب عدة أيام، خصوصاً مع انخفاض درجات الحرارة ليلاً».
أما نازنين، فتنتظر بقلق بالغ احتمال مطالبتها بالعودة إلى السجن «في أي لحظة». يقول ريتشارد إن زوجته مرت بعدة مراحل في الفترة الماضية، تدرجت من الصدمة بعد صدور الحكم الجديد بحقها، إلى الغضب من استمرار «الحرس الثوري» في ممارسة هذه الألاعيب، إلى الحزن من أن هذا الوضع لا يزال مستمراً. «إضرابي عن الطعام جزء من هذا الحزن الذي نمر به».
ويخشى ريتشارد أن تجد نازنين نفسها في موقف ضعيف بعد انتهاء مشاركة الوفد الإيراني في أعمال قمة غلاسكو للمناخ. ويرى أن إضرابه عن الطعام خارج مقر وزارة الخارجية «يضعنا في موقف أقل ضعفاً. لكن، لننتظر ونرى».

قضية دين تاريخية 

أسرة أنوشه أشوري تحتج على استمرار اعتقاله في طهران خارج مقر رئاسة الوزراء في لندن 13 أغسطس الماضي (رويترز)

مثل راتكليف، ترى إليكا أشوري صلة واضحة بين سجن والدها أنوشه أشوري وقضية الدين التاريخية العالقة بين بريطانيا وإيران منذ عام 1979.
روت إليكا لـ«الشرق الأوسط»، تفاصيل اعتقال والدها، الذي يحمل الجنسيتين الإيرانية والبريطانية، فقالت: «اتجه والدي إلى إيران في صيف عام 2017 للاهتمام بوالدته (86 عاماً) التي كانت ستخضع لعملية جراحية في الركبة». اعتُقل هذا المهندس المتقاعد، البالغ من العمر 66 عاماً، وهو في طريقه للتسوق في أغسطس (آب) 2017، «توقفت شاحنة فجأة، سُئل عن اسمه، وبمجرد تأكيده وُضع كيس على رأسه ونُقل إلى سجن إيفين». حُوكم أنوشه أشوري بتهمة التجسس لصالح الموساد، وهو يقضي الآن عقوبة سجن لمدة 10 سنوات. «أحيل إلى الحبس الانفرادي لمدة شهرين ونصف الشهر، ثم نُقل إلى السجن العام، حيث لا يزال قابعاً حتى اليوم».
أفادت إليكا بأن عائلتها التي صُدمت بالتهم الموجهة لأنوشه، حاولت استئناف الحكم في إيران. «لكن من الواضح أن التهم لم تكن حقيقية. لذا فإنهم رفضوا طلب الاستئناف». وتابعت: «اكتشفنا آنذاك أن (تهمة التخابر) هي التهمة الأساسية التي تستخدمها الحكومة الإيرانية لاعتقال مزدوجي الجنسية، واستخدامهم رهائن لتحقيق مصالح طهران».
وتربط إليكا بين سجن والدها وقضية الديون، وتقول إن «الأمر لم يعد سراً». «كانت هناك محادثات بين الحكومتين لتسوية هذه الديون. لكن حدثين أساسيين طرآ في العامين الماضيين؛ الجائحة و(بريكست)، مما ساهم في تأخير العملية». وتضيف: «كانت هناك صفقات على وشك الإبرام، لكنها فشلت لأسباب لم يتم إخبارنا بها». وترى إليكا أن والدها سقط ضحية «أضرار جانبية» بين دول تحاول عقد صفقات تخدم مصالحها.
ولا ترى المملكة المتحدة أنه «من المفيد» الربط بين القضايا الثنائية الأوسع نطاقاً، وبين قضية المحتجزين تعسفياً في إيران. ولطالما أكدت لندن استمرارها في استكشاف الخيارات المتاحة لحل هذه القضية البالغة من العمر 40 عاماً.
ومنذ اعتقال أنوشه، عقدت عائلته وممثلوه عدة لقاءات مع وزارة الخارجية البريطانية، لكن «نادراً ما أدى ذلك إلى إحراز تقدم ملموس»، وفق إليكا. وأوضحت: «لقد عقدنا اجتماعات مع كل من جيريمي هانت ودومينيك راب (في إشارة إلى وزيري الخارجية السابقين). تتشابه طبيعة هذه الاجتماعات، يقدمون لنا تحديثاً عن المفاوضات الجارية، ويؤكدون أن قضايا مزدوجي الجنسية المعتقلين مهمة بالنسبة لهم، وأنهم يبذلون قصارى جهدهم». وأسفت إليكا لحصول أسرتها على «الإجابة نفسها منذ أربع سنوات». بالنسبة إلى إليكا، فإن المشاركة في هذه الاجتماعات «تتم من أجل راحة بالنا، ولطمأنة والدي بأنه لم يتم نسيانه... لكن لا شيء حقيقي يصدر عن هذه الاجتماعات». وعن تأثير الحكومة الإيرانية الجديدة على قضية والدها، ترى إليكا أن «حكومة رئيسي تُعد أكثر تشدداً من الحكومة السابقة. لكنني آمل أنه نظراً لتمتع الحكومة الجديدة بانسجام تام، وغياب الانقسامات داخلها، فربما تكون القرارات أسهل، وربما يكونون أكثر استعداداً للتعاون مع حكومة المملكة المتحدة لأسباب تتعلق بالتجارة». وتستدرك: «لا يمكننا التنبؤ. نأمل فقط فيما هو أفضل».
وفي تعليق عن استمرار إيران في اعتقال أنوشه أشوري، قال جيمس كليفرلي وزير شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الأسبوع الماضي، «نتفهم الإحباط الذي تشعر به أُسر الأشخاص المحتجزين في إيران (...) وسنستمر في العمل لضمان إطلاق سراحهم». وتابع في جلسة بمجلس العموم البريطاني: «لكن اللوم يقع على عاتق الحكومة الإيرانية... إذ أنهم من وجه هذه التهم غير المشروعة، واحتجزوا مواطنين بريطانيين مزدوجي الجنسية، وهم الذين لديهم السلطة الحصرية لإطلاق سراحهم، وهو ما ينبغي عليهم فعله».

رحلة سياحية تتحول إلى جحيم 

 بنجامين بريير اعتُقل قرب مشهد بتهمة التجسس والدعاية ضد النظام الإيراني

توقفت بلاندين بريير، عن تلقي رسائل من أخيها بنجامين بريير (35 عاماً) الذي كان في رحلة سياحية إلى إيران، في مايو (أيار) 2020، واكتشفت بلاندين وعائلتها أن الشاب الذي يحمل الجنسية الفرنسية وسافر إلى إيران بسيارة «فان» من فرنسا، تعرض للاعتقال في مكان قريب من مدينة مشهد، حيث كان يزور متنزهاً طبيعياً، بتُهمة قيادة طائرة «درون» والتقاط صور في «منطقة محظورة». ووُجهت إلى بنجامين بعد ذلك تهمة التجسس والدعاية ضد النظام الإيراني.
تنفي بلاندين هذه الاتهامات بشدة، وتؤكد أن أخاها الذي يقبع في سجن بمدينة مشهد منذ 14 شهراً، كان «مجرد سائح فرنسي عادي، اشترى طائرة درون سياحية من (سوبر ماركت)». وتضيف: «سافر سائحاً إلى إيران، ووقع في حب البلد وشعبه. وبين عشية وضحاها، وجد نفسه مسجوناً». ويُعد بنجامين السجين الأجنبي الوحيد، الذي تعترف إيران باحتجازه علناً، والذي لا يحمل جنسية مزدوجة.
يتلقى بنجامين زيارات قنصلية منتظمة، تُنظم مرة كل شهرين. «لقد ناشدنا الحكومة الفرنسية مراراً وتكراراً، ومع الرئيس إيمانويل ماكرون، للتدخل نيابة عن بنجامين. لكننا ما زلنا في حالة جهل تام بشأن قضيته». تضيف بلاندين في حديث هاتفي لـ«الشرق الأوسط»: «لا نتلقى أي تحديث من السلطات بشأن قضية بنجامين، بخلاف أنه بخير، وأنه لم يتعرض لسوء معاملة».
وفي مواجهة صمت السلطات الفرنسية، قررت عائلة بنجامين قبل بضعة أشهر التحدث علناً عن قضيته «لمحاولة تحريكها». تقول بلاندين: «لقد طُلب منا التزام الصمت بشأن احتجاز بنجامين في البداية، على أمل تسوية قضيته. إلا أن الأمور ما كانت لتتحسن في حال واصلنا صمتنا. لذلك، قررنا إثارة قضية أخي علناً. فالوضع غامض، ونحن محرومون من أي معلومات بشأن قضيته».
تعتقد بلاندين، على غرار الأُسر الأخرى التي تكافح من أجل الإفراج عن المحتجزين، أن شقيقها قد يكون «ورقة مساومة» تستخدمها طهران لخدمة مصالحها. وتقول: «نظراً إلى أنه ليست لدينا معلومات عن العملية القضائية في إيران، وفي غياب حكم في قضية بنجامين، هذا هو السيناريو الوحيد المنطقي»، مضيفة: «يمكننا الآن القول بوضوح إن بنجامين رهينة مفاوضات بين الدول، وإنه يُستخدم ورقة مساومة». وطالبت بلاندين حكومة بلادها «بفعل ما هو ضروري لإعادته إلى الوطن».

تهديد بالإعدام 

احتجاج خارج السفارة الإيرانية في بلجيكا على سجن السويدي - الإيراني أحمد رضا جلالي ديسمبر 2020 (غيتي)

تحولت رحلة عمل كان يُفترض أن تستمر أسبوعين إلى كابوس يطارد أحمد رضا جلالي وأسرته الصغيرة المقيمة في السويد. توجه أحمد رضا إلى إيران، مستجيباً لدعوة أكاديمية لحضور ورش عمل حول طب الكوارث.
تقول زوجته فيدا مهران - نيا في حديث مع «الشرق الأوسط»، «اعتُقل أحمد رضا على يد مسؤولين من وزارة الاستخبارات والأمن الوطني أثناء سفره بالسيارة من طهران إلى كرج، في 25 أبريل 2016، لم يُقدم المسؤولون أي مذكرة توقيف أو وثيقة رسمية أخرى، كما لم يبلغوا أحمد رضا بسبب اعتقاله. وبعد حوالي أسبوعين من احتجازه، ادعى المسؤولون أنه يتعاون مع إسرائيل». وتؤكد مهران - نيا أنه لم يتم تقديم أي دليل أو إثبات على هذه التهم، التي «لا أساس لها من الصحة»، من قبل السلطة القضائية الإيرانية أو وزارة الاستخبارات.
حُكم على أحمد رضا بالإعدام لاتهامه بنقل معلومات سرية لجهاز الموساد الإسرائيلي، وهو يقبع اليوم في سجن إيفين.
وحول جهود الإفراج عن أحمد رضا، تقول مهران – نيا، «لا نعرف تفاصيل الخطوات التي اتخذتها الحكومة السويدية لإطلاق سراح أحمد رضا. يكرر المسؤولون السويديون لنا دائماً أنهم يثيرون قضية جلالي خلال اجتماعاتهم واتصالاتهم الدبلوماسية مع السلطات الإيرانية، لكننا لا نرى تحسناً». وتتابع: «في الواقع، لم يتم تقديم أي مثال واحد على إجراء حقيقي تم اتخاذه من أجل حرية أحمد رضا من قبل الحكومة السويدية». في المقابل، أشادت مهران - نيا بقرار السلطات السويدية «الرائع» منح الجنسية السويدية لأحمد رضا في فبراير (شباط) 2018.
وبخلاف محتجزين آخرين، حُرم أحمد رضا من الاتصال بأسرته في السويد. وقالت فيدا: «لقد مر عام تقريباً على منع مسؤولي سجن إيفين الاتصال بين أحمد رضا وعائلته، سواء في إيران أو في السويد». وتابعت: «إلا أنه سُمح له من حوالي 3 أشهر، بالتواصل مع عائلته داخل إيران، وذلك بعد وفاة والدته».
تلقى أحمد رضا «معاملة قاسية للغاية في السجن، تضمنت استخدام عدة أساليب غير إنسانية». واكتفت فيدا بالإشارة إلى جملة استخدمها خبراء حقوق الإنسان التابعون للأمم المتحدة، مفادها أنه «لا توجد سوى كلمة لوصف سوء المعاملة الجسدية والنفسية الشديدة التي تعرض لها جلالي، وهي التعذيب».
ورجحت فيدا استخدام إيران زوجها أحمد رضا «ورقة مساومة لممارسة الضغط السياسي على الاتحاد الأوروبي، لا سيما بلجيكا والسويد». وتوضح: «هناك مجريات قانونية ومحاكمات تجري في هذين البلدين، تثير غضب النظام الإيراني. وتفترض وسائل الإعلام الدولية وكيانات مختلفة أن النظام الإيراني يستخدم أحمد رضا رهينة».

مفاوضات «النووي» والمعتقلون

يعتبر مراقبون أن الدول الأوروبية، والغرب عموماً، فشلوا في مواجهة سياسة «احتجاز الرهائن» التي تنتهجها إيران، فيما يدعو البعض إلى فرض إجراءات عقابية تمنع طهران من الاستمرار في هذه الممارسة، وتحضها على الإفراج عن المحتجزين تعسفياً.
تقول الدكتورة كارلا فيرستمان، محاضرة القانون في جامعة «إسيكس»، إن «هناك جدلاً حول كيفية الرد على الدول التي تنتهج سياسة أخذ الرهائن. قد لا ترغب دولة في اتخاذ إجراءات من شأنها تشجيع المزيد من عمليات أخذ الرهائن، ولكن في الوقت نفسه من الضروري أن تأخذ الدول في الاعتبار العواقب الإنسانية والمعاناة الشديدة للأشخاص المحتجزين وعائلاتهم». وترى فيرستمان في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أنه «من المهم بالنسبة للدول التي تواجه هذا النوع من الممارسات أن تنسق إجراءاتها لتعظيم تأثيرها الجماعي».
وتؤكد الحكومتان البريطانية والأميركية أن الإفراج عن مواطنيهم المعتقلين في إيران «أولوية قصوى». وفي تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، أكد متحدث باسم الخارجية البريطانية أن لندن «تدعو الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، إلى وضع إيران في مسار مختلف»، لافتاً إلى أن وزيرة الخارجية ليز تراس، ضغطت في لقائها مع نظيرها الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في الجمعية العامة للأمم المتحدة مطلع أكتوبر، بشأن هذه المسألة، و«ستواصل الضغط حتى عودة الرعايا البريطانيين المحتجزين ظلماً إلى بلادهم».
وبينما تستعد الدول الأطراف في الاتفاق النووي الإيراني لاستئناف المفاوضات مع طهران نهاية الشهر الحالي، تشدد لندن وواشنطن على ضرورة فصل محادثات فيينا عن قضية مزدوجي الجنسية.
يقول متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية لـ«الشرق الأوسط»، «نعد العودة السريعة والآمنة للمواطنين الأميركيين المحتجزين ظلماً في إيران إلى ديارهم أولوية قصوى. نحن مصممون على إطلاق سراحهم بغض النظر عما يحدث على المسار النووي»، مشدداً على أن «مفاوضات خطة العمل الشاملة هي جهد منفصل ومستمر».
واعتبر المتحدث أن الحكومة الإيرانية استخدمت الاحتجاز التعسفي في محاولة للإكراه وانتزاع تنازلات من الولايات المتحدة ودول أخرى لأكثر من أربعين عاماً. وفيما تتحفظ واشنطن على الإفصاح عن عدد المحتجزين الأميركيين مزدوجي الجنسية في إيران، لأسباب أمنية وأخرى تتعلق بالخصوصية، أكد المتحدث أن إيران تحتجز أربعة مواطنين أميركيين على الأقل، هم باكير وسياماك نمازي وعماد شرقي ومراد طهباز، الذي يحمل الجنسية البريطانية كذلك. وقال: «ينبغي على الحكومة الإيرانية كذلك أن توضح مصير العميل السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي روبرت ليفنسون والمواطنين الأميركيين الآخرين المفقودين أو المختطفين في إيران».
ورجحت فيرستمان أن تتسبب الاعتقالات التعسفية في زيادة عزلة إيران، موضحة: «نادراً ما تتعلق سياسة احتجاز الرهائن بـ(تحقيق) نتائج مباشرة أو الحصول على تنازلات. بل تُسبب هذه الممارسة زيادة عدم الثقة وتعقيد العلاقات الدولية، فضلاً عن بث الخوف لدى الأشخاص الذين يعيشون في الخارج من العودة إلى إيران لزيارة العائلة أو للانخراط بشكل مهني أو اقتصادي مع البلد. ولذلك تداعيات طويلة المدى على البلاد، ويعزز عزلة إيران».
وترى الأكاديمية أن للأمم المتحدة «دوراً مهماً» في مواجهة هذه الممارسة، إذ «تقوم آلية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة - بما في ذلك المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بإيران وفريق الأمم المتحدة المعني بالاحتجاز التعسفي، بالتعليق على هذه الممارسة بانتظام». وتضيف: «لكن، وبالنظر إلى البعد الدولي للمشكلة واستهداف (إيران) مواطنين من مجموعة من الدول ما يؤثر على السلام والأمن، فإن لكل من الجمعية العامة ومجلس الأمن دوراً مهماً يلعبانه».



أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
TT

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)

بين مجاعة وشيكة، وفقر مدقع، وأمراض لا تذر كبيراً ولا صغيراً، يقع سكان قطاع غزة محاصرين بين ثالوث شر لا يرحم، وقوات عسكرية لا تملك أي إنسانية.

وبعد نحو 14 شهراً من المأساة، يرى شهود عيان أن مَن مات في القطاع استراح، أما من عاش، فهو يحيا تجربة الاقتراب من الموت كل لحظة؛ سواء من القصف، أو من الجوع والمرض والفقر. تحدثت «الشرق الأوسط» إلى كثير من أهالي القطاع المحاصر والنازحين والمسؤولين الأمميين للوقوف على واقعهم اليوم.

يتذكر محمد، وهو اسم مستعار طلب محدِّثنا استخدامه، كأغلب النازحين الذين فضلوا عدم تعريفهم خشية تعرضهم لمشكلات، أيامه قبل الخروج هرباً من القطاع في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فيقول: «كنا نسمع في أجواء الحي القصف ليلاً، وصفير القذائف المتوالية بينما تسقط قبل انفجارها، لنجلس طوال الليل نحاول أن نعرف أين سقطت ومن مات... ثم نصحو لنخرج جميعاً إلى الشوارع من أجل معرفة الحقيقة، وعزاء أسر الضحايا، وتهنئة من لا يزال حياً».

وبدوره يروي إياد، لـ«الشرق الأوسط»، معاناة عائلته في غزة بعدما اضطر لتركهم خلفه، فيقول باكياً: «تحدث معي إخوتي وقالوا لي، لديك فرصة للخروج من غزة إلى مصر، اذهب ولا تقلق علينا ولا على أمك وأخواتك البنات، فالبقاء هنا لن يعني إلا أن نموت جميعاً. على الأقل يمكنك من هناك إرسال بعض المال لإعانتنا، أو حتى تقدر أن تسحبنا خلفك إلى مصر... وعلى الأسوأ، إذا متنا نجد أحداً يدفننا».

الهروب إلى الأمام

الدكتور محمد أبو دوابة، محاضر أكاديمي في الجامعات الفلسطينية وباحث في المجال النفسي والاجتماعي، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن وجهة نظره في ما يعانيه سكان غزة كأكاديمي عاصر جزءاً كبيراً من الأحداث على الأرض، وقال: «العوامل في قطاع غزة متداخلة، ولا يمكن الفصل بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحلول المتاحة أصبحت لا تكفي لمشكلات الناس. وفي علم الاجتماع، عندما تكون هناك مشكلة وأنت في وسطها وتتحرك معها، فتراها من منظور... لكن إذا خرجت خارج الصندوق، تجد حالك تراها وأنت ثابت بشكل مختلف تماماً، وتشعر بالمعاناة التي يعانيها أهل غزة».

ظاهرة أخرى غريبة رصدها أبو دوابة وقال إنه يحاول دراستها، فقد لاحظ أن أهالي غزة ممن لديهم أولاد أو بنات صاروا يُقبلون على تزويج أبنائهم بكثافة، لا من أجل الفرح –«وهو إحساس قُتل عند الجميع»- حسب تعبيره؛ بل كنوع من أنواع تخفيف المسؤولية. فأهل البنت يريدون أن تدخل تحت غطاء الحماية الاجتماعية لزوجها، وأهل الولد يريدون أن يستقل عنهم.

ويتابع أبو دوابة: «لم يعد الزواج يمارَس بوصفه امتداداً ونواة للمجتمع لبناء الأسر، لكن هنا صار الوضع كله هروباً من الظروف الاقتصادية وتخفيف الأعباء على الأسر، فالوضع الاقتصادي ضرب نسيج المجتمع في مقتل. وفي العالم كله كلمة زواج تعني الفرح والسعادة والمستقبل والخلفة، فيما أهل غزة لا تمكنهم إقامة أفراح، ففي كل عائلة أكثر من شهيد وحالات ممتدة من الحداد، والفقر يحاصرهم من كل جانب».

أبرز القطاعات المتضررة في غزة (الشرق الأوسط)

ولادة تحت القصف

تجربة أخرى مريرة ترويها عزة، التي تقول إنها كانت في شهور الحمل الأخيرة وكان من المقرر أن تسافر مع زوجها قبل اشتعال الأزمة، لكن كل شيء تغير بعد بدئها.

تروي عزة: «تجربة آخر شهرين في الحمل كانت صعبة جداً في الحرب بسبب عدم توفر الغذاء الصحي للحامل وعدم وجود غاز الطهي، وأغلب الوقت شغالين على نار الحطب، وطبعا دخان كثير وكنت خايفة جداً على الجنين من دخان النار... والأكل اللي كان متوفر إما مكرونة أو عدس، ولو عاوزين حاجه دافية في البرد نشرب شاي من دون سكر».

وتواصل عزة شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «وقت الولادة كان الاتصال مقطوعاً عن غزه كلها، ما فينا نكلّم الإسعاف لو صار وجع ولادة، وحتى سيارات الإسعاف كانت تُستهدف كثيراً... ولا فينا نطلع بالسيارة لأنه لا يوجد بنزين. وأي شخص عنده سيارة ومتوفر فيها بنزين كان يخاف يطلع ويخاطر بحياته لأنه بيتم قصف السيارات المدنية. وقتها بيتي كان بعيداً عن المستشفى وكان أفضل حل أروح بيت أهلي القريب نوعاً ما للمستشفى».

لكن لسوء الحظ تم إبلاغ المربع الذي يسكن فيه أهل عزة بالإخلاء، لأن الجيش الإسرائيلي سيتدخل برياً، فنزحت هي وأهلها مجدداً إلى بيتها. ومن شدة الرعب، لم تداهمها آلام الولادة، فذهبت إلى المستشفى للكشف، ليكتشفوا أن حالة الجنين ليست مطمئنة، فحجزوها 3 أيام لحين الولادة.

تقول عزة: «خلال هذه الأيام الثلاثة لم يكن هناك من غذاء سوى الحلاوة التي تدخل من خلال المساعدات. وضُرب المستشفى بقذيفة دبابة، لكنّ الله سلَّم. وعُدتُ إلى البيت لأجد أمراً آخر بالإخلاء، لم يكن أمامنا من خيار سوى الذهاب إلى المخيمات بابنتي حديثة الولادة... حيث البرد القارس، والأمطار تبلل كل شيء داخل الخيمة. ولا طعام إلا وجبة واحدة مكونة من نصف رغيف خبز، ومياه الشرب قليلة ولا يحبذ الشرب بعد الساعة السادسة مساءً لأنه غير مسموح بمغادرة الخيمة للحمامات مساءً... كل هذا أدى في النهاية لعدم تمكني من إرضاع طفلتي بشكل طبيعي، واضطررت لاستخدام الحليب الصناعي، الذي كنت أشك في صلاحيته بالأساس لكونه يباع في الشارع؛ لكن لم يكن أمامي أي خيارات».

أما بالنسبة للملابس، فتقول عزة إن سكان القطاع يتعاونون في توفير ملابس الأطفال المستعملة بعضهم لبعض، فيما كانت تضطر لإبقاء على حفاظة ابنتها لأكثر من 10 ساعات كونها غير متوافرة. وتضيف: «أساساً موضوع الصحة آخر ما يمكن أن تفكر فيه في المخيمات... الاستحمام متاح مرة كل أسبوعين، وغسيل الملابس باليد على شاطئ البحر، وطبعاً شيء مثل الفوط الصحية النسائية تَرَفٌ غير موجود من الأساس».

نساء بطلات و«قلة حيلة»

وضع النساء -بصورة خاصة- المأساوي، دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إلى الدكتور معز دريد، المدير الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، الذي أوضح وجود أكثر من 155 ألف امرأة حامل أو مرضع داخل قطاع غزة حالياً، أغلبهن لا يجدن رعاية كافية بما يؤدي إلى تفاقم خطورة الأوضاع الصحية، وبينما تحاول الهيئات الأممية بكل السبل إيجاد وسائل لدعمهن ودعم غيرهن، إلا أنها تقف «قليلة الحيلة» في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات، خصوصاً بعد حظر «أونروا» من ممارسة دورها، والتي كانت تعد العمود الفقري الأساسي للمؤسسات الأممية كافة داخل القطاع، ودورها بلا بديل ولا يعوَّض.

سيدة فلسطينية تُطعم طفلها وسط الأنقاض في منطقة نهر البارد جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

وقال دريد: «الوضع كارثي، وعدد القتلى في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يناهز حالياً 45 ألف شخص، وهذا يعادل 6 أضعاف عدد القتلى خلال مجمل الأعوام الـ15 التي سبقت الأحداث الحالية. كما أن التركيبة الديمغرافية لهؤلاء الضحايا شهدت تغيراً فارقاً، إذ إن 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، بعكس كل الأحداث والأعوام الماضية، مما يؤكد زيادة الاستهداف الأعمى للسكان دون التفرقة بين المدنيين وغيرهم... وهذا المعدل يساوي قتل ما يناهز 3 من السيدات والأطفال في كل ساعة يومياً منذ بداية الحرب!».

وأكد دريد أن بعض الأسر نزحت أكثر من 10 مرات من أجل الهرب من الضربات، ولا يوجد مكان آمن في غزة، والخدمات غير متوفرة، والأوضاع في غاية السوء.

وحول المساعدات التي تقدمها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في غزة، أوضح دريد أنها قدمت مساعدات غذائية ونقدية لنحو 75 ألف امرأة وأسرهن، «من بينهن 14 ألف امرأة مسؤولات بالكامل عن أسرهن نظراً لغياب أي عائل لأسباب الوفاة أو الاعتقال أو خلافه، إضافة إلى برامج الدعم النفسي والاجتماعي. كما تتعاون الهيئة مع منظمات فلسطينية في غزة تقودها النساء، واللاتي نثمن ونقدر دورهن وصمودهن في ظل الأوضاع والصعاب الحالية».

وأفاد دريد بأن المساعدات التي تصل إلى مستحقيها شحيحة جداً، ليس بسبب قلة التمويل أو تقاعس مقدمي الدعم، ولكن بسبب العوائق التي تفرضها قوى الاحتلال، وغياب القدرة على تأمين هذه المساعدات القليلة التي تعبر إلى داخل القطاع، وهو أيضاً ما يقع تحت مسؤولية قوة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي.

وبعد نحو 14 شهراً من الحرب، يؤكد دريد أنه مع مستويات الفقر والبطالة والدمار الهائلة في غزة، ومع فقدان العائل الأساسي لنحو 8 آلاف من الأسر، تشير التحليلات إلى أن النساء فقدن روافد الدخل ومصادر الرزق بشكل فائق... ومع توحش التضخم، أصبحت حالة هؤلاء النساء مأساوية.

تجريف وجوع

وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي القطاع، حاولت بعض القرى أن تلجأ إلى زراعة احتياجاتها الغذائية، بل نجح أهالي جباليا وبيت لاهيا، على سبيل المثال، في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي زراعياً... لكنَّ القوات الإسرائيلية اجتاحت الأراضي ودمرت البنية التحتية عمداً، بما يشمل الأراضي وقنوات الري وحتى مزارع الإنتاج الحيواني والسمكي، وذلك تحت ستار البحث عن الأسلحة والأنفاق، حسب شهادات شهود عيان وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط»، إلى جانب فرض قيود على دخول البذور والأسمدة إلى القطاع.

رجل يختبئ خلف عمود فيما ينتشر الدخان والغبار نتيجة انفجار خلال غارة إسرائيلية استهدفت مدرسة في غزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش إحدى الفاعليات الخاصة التي حضرتها «الشرق الأوسط» في القاهرة، قال عبد الحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، إن «التحدي الأكبر للمنطقة العربية بشكل عام فيما يخص الأمن الغذائي هو الحروب والنزاعات، وخلال النزاعات المطولة والممتدة مثل الوضع في غزة، يوجد أثر كبير على قطاع الزراعة والغذاء».

وأضاف الواعر أن «ذلك يعود إلى عدة عوامل، أولها هجران الناس والمزارعين أراضيهم، مما يتسبب في خلل المنظومة الزراعية، خصوصاً أنهم في حالة نزوح دائم من منطقة إلى أخرى. وذلك بالإضافة إلى الدمار المباشر لهذه الأراضي، فقد جرى تدمير نحو 70 في المائة من الأراضي الزراعية في غزة، سواء بالضرب المباشر خلال العمليات العسكرية أو عبر التجريف، وتأثراً بحركة الآليات الثقيلة... كما نضبت الثروة السمكية تقريباً داخل القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والثروة الداجنة انتهت بالكامل لأنه لا توجد إمدادات، وبقي جزء قليل جداً من الثروة الحيوانية، الذي نحاول كمؤسسات دولية دعمه بالمدخلات الضرورية مثل العلف والتحصينات والمغذيات. وبالإضافة إلى ذلك لا توجد مصادر مياه أو غذاء آمنة ونظيفة ولا كافية، والمساعدات الغذائية شبه متوقفة».

وأكد الواعر أن «كل سكان» غزة أصبحوا للمرة الأولى يقعون تحت خطر التهديد بالجوع، حيث إنهم إمَّا يقعون في الفئة الخامسة (المجاعة) أو الرابعة (الكارثة)، وهي الفئة التي لا يتحصل فيها الإنسان على وجبة واحدة يومياً بصفة منتظمة.

مكان غير صالح للحياة

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فلم يكفِ سكان قطاع غزة كل ما يمرون به، ليُنكَبوا بوقف إسرائيل دخول المساعدات الشحيحة بالأساس.

وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كثيرة، ومن أصل 423 حركة مساعدات إنسانية تم التنسيق لها مع السلطات الإسرائيلية في الفترة من الأول إلى 20 أكتوبر الماضي، تم تسهيل 151 حركة فقط، ورُفضت 189، وعطلت البقية. وفيما يتعلق بحركة وصول المساعدات إلى شمال القطاع، قال المكتب الأممي إنه تم تسهيل 4 حركات فقط من أصل 66 حركة مخططاً لها في ذات الفترة.

التأثير الاقتصادي والشرائح التي شملها هامش الفقر (الشرق الأوسط)

من جانبه، أكد عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن هناك تراجعاً بالغاً في مستويات الأمن الغذائي في قطاع غزة، وأن الوضع في الجنوب «على أبواب مجاعة حقيقية»، فيما دخل الشمال مجاعة فعلية، ودخلت المنظومة الصحية بشكل عام مرحلة الانهيار. وأشار إلى تكرار رفض طلبات دخول المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع من جانب الحكومة الإسرائيلية. وضرب مثالاً بأن الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) شهد مرور 37 شاحنة يومياً فقط، من بينها شاحنات مياه وأدوية وخيام، وذلك لخدمة 2.3 مليون ساكن للقطاع.

ولفت المسؤول الأممي، خلال «مائدة مستديرة» حضرتها «الشرق الأوسط» بمكتب الأمم المتحدة في القاهرة، إلى نقطة أخرى مهمة تؤكد معاناة سكان القطاع، إذ إن مئات الآلاف من السكان صاروا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية نتيجة ما يمرون به من مأساة، حيث قدمت «أونروا» أكثر من 800 ألف استشارة نفسية في غزة خلال الفترة الماضية. كما حذر من أن المياه في غزة غير صالحة للشرب على الإطلاق، وكل المياه ملوثة ولا يمكن تنقيتها بعد تدمير منظومة الصرف الصحي تماماً.

حصار من كل الجوانب

وتشير أحدث تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، والصادرة في شهر نوفمبر إلى أن مستوى الفقر في دولة فلسطين بشكل عام قفز إلى 74.3 في المائة في عام 2024، مؤثراً على أكثر من 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون يدخلون تحت هذا الخط للمرة الأولى. فيما تشير التقديرات إلى قفزة متوقعة لما يُعرف باسم «مؤشر الفقر متعدد الأبعاد» -الذي يقيس الفقر وفقاً لعدد من الأبعاد مثل مستوى المعيشة والوصول إلى الخدمات وغيرها- من 10.2 في المائة (وفقاً لقياسات عام 2017) إلى 30.1 في المائة في عام 2024... وكل ذلك بالتزامن مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1 في المائة مقارنةً بسيناريو عدم وجود حرب، وارتفاع البطالة إلى 49.9 في المائة (التقديرات الحالية من أغلب المسؤولين -وفي ظل غياب أرقام دقيقة- تشير إلى مستويات بطالة تفوق 85 في المائة من السكان).

فلسطينيون يجلسون وسط الأنقاض في موقع غارة إسرائيلية على منزل بالنصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

مؤشر خطير آخر تشير إليه البيانات، مع تدهور مؤشر التنمية البشرية في فلسطين إلى مستوى 0.643 نقطة فقط، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق منذ بداية تسجيل البيانات في عام 2004، فيما هوى المؤشر في قطاع غزة تحديداً إلى 0.408 نقطة، ماحياً كل ما اكتسبه على مدار أكثر من 20 عاماً.

كما تشير «إسكوا» إلى أن عدد الإصابات في غزة تخطى 102 ألف شخص، فيما تخطى عدد القتلى 43 ألف شخص، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 7 آلاف امرأة.

تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير أيضاً إلى أن هناك نحو 1.9 مليون نازح داخلياً في قطاع غزة بما يمثل 90 في المائة من مجمل السكان البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، خصوصاً أن نحو 87 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع إما دُمِّرت وإما تضررت بشدة. وأن من بين هؤلاء السكان أكثر من 345 ألف في حالة مجاعة شديدة (المرحلة الخامسة)؛ و876 ألفاً في حالة خطرة (المرحلة الرابعة)، فيما يواجه 91 في المائة من السكان ظروفاً غذائية غاية في السوء تضعهم في المرحلة الثالثة على مقياس الأزمة الغذائية.

دمار البشر والحجر

وتوضح تقديرات تقارير «أوتشا» أن نحو 68 في المائة من الأراضي الزراعية في القطاع قد تم تدميرها، وكذلك 52 في المائة من الآبار الزراعية، و44 في المائة من المشاتل أو الصوب الزراعية، و70 في المائة من أسطول الصيد. وتابعت أن 95 في المائة من الماشية أيضاً ماتت، نتيجة إمّا القصف وإمّا عدم الرعاية وإمّا الاستهلاك من دون قدرة على الإحلال.

وتشير بيانات دولية أخرى إلى أن نحو 80 في المائة من المرافق التجارية في قطاع غزة، و68 في المائة من شبكة الطرق فيها دُمِّرت، وفقاً للحسابات والتقديرات حتى صيف العام الجاري. كما أن أكثر من 650 ألف طالب لا يحصلون على تعليم مستدام، خصوصاً مع احتياج أكثر من 87 في المائة من المباني في مدارس قطاع غزة لإعادة بناء.

أطفال فلسطينيون يجري إجلاؤهم من موقع تعرَّض لقصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ.ب)

وفي أبريل (نيسان) الماضي، أصدر البنك الدولي تقريراً بالاشتراك مع الأمم المتحدة، يقدِّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة في ثلاثة أشهر (من بداية الحرب حتى يناير «كانون الثاني» الماضي فقط) بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.

كما أشار التقرير إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. ومع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، أصبح إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان صعباً للغاية.

ويؤكد التقرير أن «الدمار خَلَّفَ كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها»، أما على المستوى الإنساني، فقال: «تعرضت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة للقدر الأكبر من الآثار التراكمية الكارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية، مع توقع أن يواجه الأطفال الأصغر سناً عواقبَ سوف تؤثر على نموهم وتطورهم طوال حياتهم».

وأفاد التقرير بأنه مع تضرر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقي منها، لا يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة. وتعرَّض نظام المياه والصرف الصحي تقريباً للانهيار، وأصبح لا يوفر سوى أقل من 5 في المائة من خدماته السابقة، مما دفع السكان إلى الاعتماد على حصص مياه قليلة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نظام التعليم فقد انهار، حيث أصبح 100 في المائة من الأطفال خارج المدارس النظامية.

وفيما يخص الحالة الصحية والغذائية في القطاع، أشارت التقارير الأممية إلى أن 96 في المائة من الأطفال في عمر 6 إلى 23 شهراً، والنساء، لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من العناصر الغذائية الكافية نتيجة النقص الحاد في التنوع الغذائي. مقدرةً أن نحو 50 ألف طفل من أبناء القطاع يحتاجون إلى علاج لسوء التغذية خلال العام الجاري.

وفيما يخص وضع القطاع الطبي، تشير الإحصاءات إلى أن 19 مستشفى (من بين مجموع 36 مستشفى) خرجت عن العمل، فيما تعمل الـ17 مستشفى الباقية بصورة جزئية؛ إما نتيجة تضرر بنيتها التحتية، وإما نتيجة الافتقار إلى المعدات والأدوات الأساسية وإما نتيجة نقص في طواقم العمل الطبية... ونتيجة لذلك، فإن نحو 14 ألف مريض في حالات متباينة يحتاجون للإخلاء الطبي خارج القطاع من أجل إنقاذ حياتهم.

آلام مضاعَفة

الأوضاع الصحية السيئة التي يشير إليها الجميع داخل قطاع غزة، وسط بنية تحتية تعاني من دمار هائل، جعلت «الشرق الأوسط» تسأل منظمة «أطباء بلا حدود» حول الوضع هناك، وهل تمارس المنظمة عملها بشكل طبيعي؟

الدكتور أحمد أبو وردة، مدير الأنشطة الطبية في مستشفى ناصر بخان يونس، أجاب قائلاً: «بالطبع لا، نحاول في (أطباء بلا حدود) بذل كل ما بوسعنا لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى والمصابين بالوضع الحالي؛ لكن الكل يعلم صعوبة دخول المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية منذ إغلاق معبر رفح».

ويشير أبو وردة إلى أنه لا يوجد حالياً سوى نحو 1000 موظف في كل أفرع المنظمة في قطاع غزة، مؤكداً أن «الحاجة كبيرة جداً وهناك فجوات في بعض التخصصات حتى اليوم».

ومع استهداف المستشفيات، فإن عدد الأسرّة المتاحة للمرضى صارت محدودة للغاية، ويتم التعامل مع الحالات حسب الأولوية الصحية، حسب أبو وردة، الذي يوضح أن أعداد الحالات من ذوي الأمراض المزمنة، خصوصاً داخل المخيمات صارت «مهولة»، حيث إن «معظم سكان القطاع متكدسون في منطقة صغيرة للغاية بظروف بيئية وصحية سيئة للغاية، ويتردد يومياً على عيادات الرعاية الأولية آلاف المرضى من ضمنهم الأمراض المزمنة، وفي ظل الوضع الحالي الكثير من أدويتهم غير متوفرة».

تجويع ممنهَج وفساد

شاهِد آخر من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم وسام، قال: «بدأت الحرب في أكتوبر، وكانت بالتوازي معها هناك حرب اقتصادية تمثلت في جميع مناحي الحياة لأول مرة في تاريخ المعارك العسكرية ضد الفلسطينيين... من قطع جميع أواصر الحياة والضرب العنيف على كل أوتار الاقتصاد؛ يعني آلة القتل الإسرائيلية تطول الناس من ناحية، ومن الأخرى تقطع الكهرباء ليتم دفع الصناعة بالكامل إلى الشلل وتوقف التجارة بالكامل بعد إغلاق المعابر ليصبح هناك نقص حاد في الموارد السلعية».

وسام، الذي يعمل بأحد المراكز الحكومية ذات الصلة بالتجارة، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الوضع صار خطيراً بالفعل حالياً، لأن المخزون السلعي الاستراتيجي انخفض بشكل حاد، ليصبح لا يكاد يكفي 72 ساعة إثر الإغلاق الكامل للمعابر وقطع الإمدادات. ويتابع وسام: «فيما يخص الغاز مثلاً، فقد أصبح يدخل القطاع بشكل متقطع. والاعتماد حالياً على ما يدخل بشكل مباشر لأن الخزانات أصبحت بلا قيمة، فما يدخل ينفد في ذات اللحظة».

أطفال يحملون أواني معدنية ويتزاحمون للحصول على الطعام من مطبخ يتبع الأعمال الخيرية في خان يونس بقطاع غزة (إ.ب.أ)

أيضاً هناك أزمة أخرى، فالمواد السلعية التي تمر ليست منتظمة ولا منسَّقة، وعن ذلك يقول: «ما بيعطوك كامل المواد من احتياجاتك مرة واحدة... اليوم ممكن يمر منظفات وشغلات ثانوية ويقطعوا عنك اللحم والأرز والمواد الأساسية، عشنا آخر 10 أيام على هذه الشاكلة. بتلاقي أيام تانية نزلّك لحم ودجاج لكن بشكل أقل من الكميات المطلوبة، وبيصير سعرها عالي طبعاً. وهذا شكل مقنن لقطع المصادر الغذائية الأساسية وتوصيل الناس إلى مراحل كبيرة من سوء التغذية، وبتلاقي الناس كلها هزيلة وتعبانة لأنهم ما بيحصلوا على وجبة كاملة... لازم يكون في نقص في شيء».

فساد داخلي؟

لم يكن وسام وحده الذي يشير إلى الفساد، ورغم أن الكل يُدين الطرف الإسرائيلي سواء في المجازر أم الحصار والتجويع لسكان قطاع غزة، إضافةً إلى مسؤولية دولة الاحتلال عن توصيل المساعدات وفقاً للقانون الدولي، فإن كثيراً من قاطني القطاع والهاربين منه يُدينون الإدارة المحلية في قطاع غزة بأنها جزء من الأزمة، سواء بالضلوع في استغلال الوضع، أو السكوت عن الفساد.

وأشار عدد كبير ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إلى أن الإدارة المحلية تسيطر على توزيع المساعدات الأممية، لكنَّ الفساد يتسلل إلى جانب من هذه المنظومة حيث تكثر السرقات للمستودعات، إضافةً إلى فرض ضرائب باهظة و«إتاوات» على مرور أي بضائع داخل القطاع... وكل ذلك أدى إلى حالة شح شديدة بالأسواق، وتضخم متوحش كسر ظهور سكان قطاع غزة.

ويرى خبير اقتصادي من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم الدكتور وليد، أن «حماس» تسيطر على السيولة النقدية داخل القطاع، حيث أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن حجم الأموال التي جمعتها «حماس» خلال عام من الحرب تتجاوز 750 مليون دولار، من بيع المساعدات عدا عن الضرائب التي جمعتها، بالإضافة إلى السيولة النقدية التي قامت ببيعها. علماً أن الحركة سيطرت على خزانة بنك فلسطين المحدود التي كانت تحتوي على ما يقرب من 140 مليون دولار في بداية الحرب، حسب مصادر محلية ودولية.

آفاق مالية غائمة

وفيما يخص القطاع المالي في غزة إثر كل هذه التحديات العنيفة، تبلغ قيمة محفظة البنوك في غزة نحو مليار دولار، وتبلغ قيمة قطاع التمويل الأصغر في المنطقة نحو 54 مليون دولار، حسب تقارير الأمم المتحدة.

ونفّذت سلطة النقد الفلسطينية وقفاً مؤقتاً للقروض حتى سبتمبر (أيلول) 2024، على الرغم من أن التأثير على كفاية رأس المال والسيولة كان كبيراً. وتقدَّر الخسائر المباشرة التي تكبَّدتها مرافق القطاع المالي في غزة بأكثر من 14 مليون دولار، بالإضافة إلى التأثير الإجمالي للظروف الاقتصادية المتدهورة على المحفظة المصرفية.

فلسطينيون يلتقطون رزم مساعدات أُلقيت من الجو على شمال غزة (أرشيفية - أ.ف.ب)

وهناك أيضاً مخاوف بشأن استعادة السيولة النقدية المتاحة في غزة قبل الحرب. وتؤكد التقارير أنه «لمعالجة نقص السيولة، قدمت سلطة النقد الفلسطينية بعض المساعدات، لكن مشكلات السيولة والوصول إلى الخدمات المالية لا تزال قائمة. ويظل انكشاف النظام المصرفي على القطاع العام مرتفعاً، حيث تجاوز مستوى 2.5 مليار دولار في يوليو (تموز) 2024. وتشير النسبة المتزايدة من الشيكات المرتجعة -التي تصل إلى 9 في المائة من قيمة جميع الشيكات في الربع الأول من عام 2024، حتى 25 في المائة في بعض الحالات- إلى ملف مخاطر مالية كلية متنامٍ».

وفي تقرير للبنك الدولي، صدر في مايو (أيار)، أكد أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الأخيرة قبل صدوره، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وأشار إلى «نضوب تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي. وتؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع بسرعة بين حجم الإيرادات والمصروفات لتمويل الحد الأدنى من الإنفاق العام إلى أزمة في المالية العامة».

وأوضح التقرير أنه في نهاية عام 2023، وصلت الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، وأنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الفجوة خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1.2 مليار دولار. وأفاد بأن زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخرات المستحقة للموظفين العموميين والموردين هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية.

وفقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وختم التقرير بعبارة: «ومع ضبابية المشهد وعدم اليقين بشأن آفاق عام 2024، من المتوقع حدوث انكماش اقتصادي آخر يتراوح بين 6.5 و9.6 في المائة».

7 عقود ضائعة

وفي تقديرات أخرى لـ«إسكوا»، فإنه في حال دخول الاقتصاد الفلسطيني إلى السيناريو الأسوأ مع عدم التعافي المبكر من آثار الحرب، واستمرار التضييق الإسرائيلي على السكان وبقاء مستوى المساعدات على وضعها الحالي، فإنه من المتوقع تهاوي الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20.1 في المائة في 2025، وصولاً إلى 34 في المائة في 2034، مقارنةً بأوضاع ما قبل الحرب.

في تقرير آخر صادم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، صدر في أكتوبر الماضي بمناسبة مرور عام على حرب غزة، أكد أن «آثار الحرب أدت إلى تراجع التنمية في غزة بما يناهز 69 عاماً»، وأنه «دون رفع القيود الاقتصادية، وتمكين جهود التعافي، والاستثمار في التنمية، لن يقدر الاقتصاد الفلسطيني على استعادة مستويات ما قبل الحرب والتقدم للأمام بالاعتماد على تدفق المساعدات الإنسانية وحدها».

مقتل أكثر من 10 أشخاص إثر قصف إسرائيلي على منزل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

ويشير التقييم إلى أن خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034 -ولكنَّ هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة.

وقال أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «تؤكد التوقعات الواردة في هذا التقييم الجديد أنه في قلب المعاناة الإنسانية والخسائر الفادحة في الأرواح، تَلوح في الأفق إرهاصات أزمة إنمائية خطيرة تُعرِّض مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة للخطر». وأضاف: «يشير التقييم إلى أنه حتى لو تم تقديم المساعدات الإنسانية كل عام، فإن الاقتصاد قد لا يستعيد مستوى ما قبل الأزمة لمدة عقد أو أكثر. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى استراتيجية قوية للإنعاش المبكر يتم تنفيذها حالما تسمح الظروف على الأرض، كجزء لا يتجزأ من مرحلة المساعدة الإنسانية، من أجل إرساء الأسس للتعافي المستدام».

معركة الصبر والصمود

وحول الوضع النفسي حالياً لسكان غزة، يقول الدكتور محمد أبو دوابة: «المعروف عن الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود، لا أتحدث عن المقاومة العسكرية، بل على مقاومة الظروف الصعبة... فهل ما وصلنا إليه يعد حالة يأس؟ في رأيي -وبعد عام كامل من الأزمة وظروف يمكن أن تضرب هذه الروح في مقتل- إننا بشر نُبدع في (آليات الصبر واستراتيجيات الصمود)».

وحول تجربته الشخصية، يقول أبو دوابة: «في بداية الأزمة، عملت متطوعاً في مستشفى الأقصى متخصصاً نفسياً... لكن كم كانت المهمة صعبة جداً، مثلاً ماذا يمكن أن نقول لشخص كل عائلته استُشهدت؟ وكان لي منذ سنوات ورقة بحثية في مؤتمر حول الصحة النفسية، أتكلم فيها عن (اضطرابات ما بعد الصدمة)، وأن ما يحدث في غزة هو صدمة مستمرة (Ongoing trauma) وليست صدمة عبرت بالفعل... ولكن هذه المرة فإن طول أمد هذه الصدمة المستمرة يجعلنا نشعر أن الناس بدأوا يصرخون بأنهم بشر وليسوا صامدين أو ناجين، فالناجي من الموت في غزة شخص يموت من الصدمة أكثر من 100 مرة في اليوم».