يجهّز فيلم «بلفاست» نفسه لهجوم يكتسح فيه ترشيحات «البافتا» البريطانية و«الأوسكار» الأميركي. هناك ثقة في تعامل الفيلم مع هذا الواقع على أساس أنه الفيلم البيوغرافي الوحيد في هذا الموسم تماماً كما كان «روما» الفيلم البيوغرافي الوحيد في عام 2019، عندما فاز بثلاثة «أوسكارات» واحدة كأفضل مخرج (ألفونسو كوارون)، والثانية كأفضل تصوير (كوارون أيضاً)، والثالثة كأفضل فيلم أجنبي (على أساس أنه فيلم مكسيكي).
في «بلفاست» يعمد المخرج كينيث براناف لما عمد إليه مخرجون آخرون قبله: سرد جزء من حياته على شكل فيلم من السيرة الذاتية يروي فيها المرحلة التي يختار من حياته، وعادة ما تكون تلك الممتدة من الطفولة إلى مطلع سنوات الشباب. وُلد في آيرلندا من عائلة بروستانتية سنة 1960، وهي إحدى سنوات الحرب الأهلية بين البروتستانت والكاثوليك. لكن المخرج لا يريد التعامل مع ذلك الواقع السياسي والديني، بل يمر به بحذر، وعلى نحو من هو مضطر، بحكم سنوات النشأة، لتناول تلك الحرب، معلناً أنه لم يكن يعرف كيف يمكن أن تنشب مثل هذه الحرب بين طائفتين تعيشان جنباً إلى جنب.
ما يوفره براناف في معظم الوقت هو الحياة الخاصّة للفتى الذي كان. صبي يعيش مع عائلته في بيت مكتظ يتابع أحاديث الكبار وينظر بإعجاب لوالديه (خصوصاً لوالدته). يستمع. يبتسم. يفكر ويحفظ. كذلك يشاهد الأفلام ويتعلّق بها ويحاول فهم الفاصل بين الواقع والفيلم، ليكتشف أنّ الفيلم أحلى من الواقع الذي يعيشه براناف، ما يزيده طموحاً وحباً للأفلام التي بدت طريقه الوحيدة للتخلص من الاضطرابات الأمنية من حوله.
ليس «بلفاست» بالفيلم الخالي من الثغرات (كبيرة وصغيرة)، والمقارنة بينه وبين «روما» تلج وضعاً مثيراً للملاحظة: فيلم براناف يعكس رغبة التواصل مع جمهور واسع. «روما» يوظف حكايته ليعكس معالجة فنية في المقام الأول تهم هواة السينما بالدرجة الأولى.
- شاهين بين آخرين
كلاهما سيرة ذاتية لمخرجين متباينين في كل شيء. لكنهما ليسا المخرجين الوحيدين بالطبع اللذين استعادا ماضيهما في الأفلام، وتحدّثا عن العائلة التي عاشا في كنفها، في مرحلة مركزية من حياتهما. المخرج في هذه الحالة يقرر أنه يريد أن يطرح سيرته هو، وليس سيرة شخصية حقيقية أخرى يستعيرها من بحث أو كتاب. الفرصة المتاحة هنا هي تحويل ما هو شخصي لما هو عام تماماً كما يحدث عندما يضع المؤلف كتاباً عن حياته هو؛ فينقل ما هو خاص وغير معلوم إلى ما هو مِلك لكل مَن يقرأ تلك المذكرات. في السينما الأمر أكثر إثارة من الكلمات؛ كون المناسبة غنية بعناصر التعبير عن الفترة الزمنية وتصاميمها وعادات أبنائها وأحداثها.
المفارقة الأخرى بين «روما» و«بلفاست» أن كليهما مُصوّر بالأبيض والأسود (رغم أن بداية الفيلم الثاني ملوّنة). وفي هذا يلتقيان مع فيلم بيوغرافي آخر سبقهما إلى سرد قصّة حياة مخرجه، واستعادة التاريخ، هو «أمل ومجد» (1987) للمخرج جون بورمن. بورمن وُلد كاثوليكياً في لندن ومع أن اسم بطله الصبي هو بل، فإنّ الحكاية تدور حوله، وأحداثها مستوحاة من معايشته صبياً تجاوز العاشرة؛ أجواء الحرب العالمية الثانية وقصف الطائرات الألمانية للندن. مخاوفه لم تمنعه من التعرّف على أخطاء وخطايا الكبار، ولا عن التعامل، في سن مبكرة نوعاً ما، مع مسائل الحب وأسئلة الحياة وغموض الموت. كل هذا ترجمه بورمن إلى ذكريات حلوة ومرّة.
يمكن ملاحظة الفارق الكبير بين كيف عالج ألفونسو كوارون وجون بورمن سيرتهما على الشاشة، ومعالجة المخرج المصري يوسف شاهين لها. أولى الملاحظات أنّ شاهين هو - على الأرجح - المخرج الوحيد بين كل الآخرين الذي لم يكتفِ بفيلم واحد يحكي فيه مراحل من حياته، بل عمد إلى أربعة أفلام هي: «إسكندرية ليه؟» (1979) و«حدوتة مصرية» (1982) و«إسكندرية كمان وكمان» (1989) و«إسكندرية نيويورك» (2004). هذا من دون أن نذكر وجوده الشخصي في «سكوت حنصوّر» (2001) والفيلم القصير «القاهرة كما يراها شاهين» وفي «11 سبتمبر» (أخرج فيلماً في فيلم قام بتحقيقه أحد عشر مخرجاً).
شاهين نشد إعلان الحضور في معظم ما قام به من أدوار. لم يتحدّث عن صباه، بل ظهر في سنوات عمره. على ذلك هناك نبض شخصي جريء ولامع في «إسكندرية ليه؟» و«حدوتة مصرية»، قبل أن تتحوّل السيرة الذاتية لاستطراد في «إسكندرية كمان وكمان»، من ثمّ إعلان مواقف واضحة في «إسكندرية… نيويورك».
- ذكريات حالمة
بعد عام من فيلم جون بورمن «أمل ومجد»، وقبل عام من «إسكندرية كمان وكمان» قدّم المخرج الإيطالي جسيبي تورناتوري سيرته الذاتية في فيلم «سينما باراديزو».
كحال كل ما سبق من أفلام (باستثناء أفلام شاهين) فإنّ المرحلة التي خصّ تورناتوري فيلمه بها هي تلك التي كان لا يزال يرتدي فيها البنطلون الشورت. صبياً يلهو هنا وينشغل هناك ويقع في حب الصور المتحركة. والده كان عارض أفلام في صالة صغيرة في بلدة جيانكالدو بصقلية. حب السينما انتقل من قمرة والده حيث كان الصبي يتابع الأفلام بشغف العاشق. والنتيجة، يقول الفيلم واصفاً الواقع، تحوّل تورناتوري إلى أحد فناني السينما الإيطاليين البارزين.
أيضاً في إيطاليا نجد المخرج الكبير فديريكو فيلليني حاضراً بقوّة في مجال الفيلم البيوغرافي.
«أماركورد» (1973) هو الفيلم الثالث عشر لفيلليني. أنجزه في الفترة المنتصفة من حياته المهنية، بعد 22 سنة على فيلمه الأول «أضواء البهجة» (1951) وقبل 17 سنة على آخر أعماله الكاملة (أي من دون حسبان ثلاثة أفلام اشترك بإخراج فصول منها) وهو «صوت القمر» (1990) الذي حققه قبل عامين من وفاته.
الفيلم في الأساس هو مجموعة من المشاهد التي ترد كما لو كانت ذكريات المخرج حول نشأته. هذا رغم نفي فيلليني في أحاديثه أن الفيلم سيرة ذاتية، مكتفياً بالقول إن ثمة مواقف معينة قد تكون وقعت معه. على ذلك، لا يمكن تجاهل أن الأحداث تدور في بلدة ريميني التي وُلد فيها، وحقيقة أنّ الفيلم مؤلّف، تماماً كالذكريات التي تعيش داخل كل منا كفصول. كل فصل منفصل عن الآخر بستارة رقيقة مع تداخل شخصيات رئيسية عديدة فيها وبداية ونهاية كل منها بما يختلف، موقعاً ومضموناً، عن الآخر. بل هناك ذلك الفتى تيتا (برونو زانين) الذي يظهر في عدد من هذه القصص مرتدياً معطفاً وقبعة وشالاً بنفس ألوان وتصميم ما شوهد المخرج يرتديه في مناسبات عديدة.
«أماركورد» مزيج من الواقع وغير الواقع. الـبَـرَد المنهمر هو واقع. انهماره بهذه الصورة البديعة في أحد المشاهد هو خيال رومانسي. ينهمر طويلاً، وفي فصل الربيع كما تلاحظ إحدى الشخصيات. غالب المشاهد الخارجية تقع في الساحة الرئيسية للبلدة حيث يتم فيها شق ممرات بين الثلوج التي تكوّمت وحوّلت الساحة إلى ما يشبه المتاهة. هناك يرقص الفتيان قرب النهاية على صوت موسيقى نينو روتا كما لو كانوا أرواحاً من الخيال. موسيقى هائمة تستخدم أدوات قليلة وتنساب فوق معظم الفيلم، لكنها تتجلّى هنا في مشهد أولئك الفتيان وهم يرقصون التانغو على أنغامها؛ كل بمفرده. هذا يتحرّك من مكانه وآخر يبقى فيه، وثالث يدور حول نفسه، وكلهم في حالة من الوهم الجميل، مُغلَقي الأعين يرقصون كما لو أنهم يحلمون بالمرأة والحياة والجمال متمثلاً في شكل واحد، أو في شكل ما لكل واحد.
يتطرق «أماركورد» إلى كل ما شابَ تلك الفترة، بما في ذلك نهوض الفاشية الإيطالية. في تلك الساحة ذاتها يمر استعراض الزمرة الفاشية التي تحتفي بالديكتاتور موسوليني. فيلليني يسجله بدوره كواقع حدث، لكن يحيطه بتلك النظرة الساخرة وبالمنوال المبطن كاريكاتيرياً الذي يعرض فيه معظم الفصول الأخرى؛ في واحد منها نتابع وصول أمير عربي ونسائه إلى الفندق الكبير الوحيد في المدينة. وفي آخر يستعرض وجوه المرأة المختلفة. رجال فيلليني، هنا وفي كل أفلامه، يتشابهون في كونهم باحثين متيمين وتائهين. نساؤه أكثر ثباتاً وغموضاً، وكل واحدة لها شكل وجه وماكياج وتصفيفة شعر تعبّـر عن هذا البحر الذي في داخلها. في الوقت الذي سرد فيلليني ذكرياته وذكريات سواه، أنجز كذلك، وبرصد لا يلغي نعومة وجمال ما يوفره، جزءاً من تاريخ وطنه في الأربعينات. لا تعليق سياسياً مباشراً ولا حتى يمكن اعتباره تعليقاً على الإطلاق. مجرد مرور على مناسبة لا يمكن تفويتها في ذلك الحين. المرحلة التي تبوأ فيها ماسوليني السُّلطة. فيلليني يحوّله إلى ملصق كبير. ملصق يجسّد فعل الهيمنة والتخويف ويرمز إلى حقبة ذات وجهين: عذوبة النوستالجيا وخشونة الواقع. بين الشخصيات الأخرى ذلك المعلّـق على الأحداث. رجل متوسّـط العمر يقف محل فيلليني في التعليق عند تلك الفواصل الضيقة بين الخيال والواقع؛ إذ نتابع كلامه الموجه مباشرة إلى الكاميرا، ندرك أنه لُـحمة الفيلم التي تجمع بين الاثنين.
قبل عشر سنوات من هذا الفيلم أنجز فيلليني فيلماً بيوغرافياً آخر عنوانه «81 - 2» تحدث فيه عن مخرج سينمائي اسمه غويدو (مارشيللو ماستروياني) ينجز فيلماً ناجحاً ثم يطلب الراحة لنفسه. لكن هذا لا يحدث، فإلى جانب كثرة من يطارده بحثاً عن العمل معه هناك حقيقة أن عقله لا يستطيع التوقف عن التفكير في ماضيه ولا في حاضره. ها هو يبدأ تذكر أحداث وقعت معه وقد تكون موضوع فيلمه المقبل.