ألغاز الإسكندرية... من مقبرة الإسكندر إلى كليوباترا وأنطونيو

عالم الآثار حسين عبد البصير يكتب عن عجائب «عروس المتوسط»

ألغاز الإسكندرية... من مقبرة الإسكندر إلى كليوباترا وأنطونيو
TT

ألغاز الإسكندرية... من مقبرة الإسكندر إلى كليوباترا وأنطونيو

ألغاز الإسكندرية... من مقبرة الإسكندر إلى كليوباترا وأنطونيو

لا تكف الإسكندرية «عروس المتوسط» عن تسريب ألغازها وعجائبها، سواء المدفونة في باطن الأرض أو الغارقة في أعماق بحرها، كما أنها لا تنسى أنها في يوم من الأيام كانت ملتقى حضارات العالم وبوتقة ثقافاته شرقاً وغرباً. وأن الإسكندر الأكبر أحد أعظم قادة العالم القديم والذي أنشأها في عام 333 قبل الميلاد ونقل جثمانه إليها لا يزال العثور على مقبرته أحد أهم هذه الألغاز.
في كتابه «سحر الإسكندرية» الصادر عن دار «كتوبيا» يرصد عالم الآثار د. حسين عبد البصير، مدير متحف مكتبة الإسكندرية، أبرز هذه الألغاز، وما تثيره من أسئلة وعلامات استفهام حيرى، تبحث عن إجابة واضحة حتى الآن.

مقبرة الإسكندر الأكبر
مات الإسكندر الأكبر في يونيو (حزيران) عام 323 ق.م ببابل ثم نقل جثمانه إلى مصر ودفن بالإسكندرية. ولا يزال العثور على مقبرته حلماً يراود الباحثين وعلماء الآثار في العالم كله. فهل يمكن العثور عليها في يوم من الأيام؟ أم أنها غير موجودة بمصر وما حقيقة سرقة الملكة كليوباترا لها؟. يوضح الكتاب أن البحث عن مقبرة الإسكندر بدأ بعد وفاته المفاجئة ودفعت الحيرة الباحثين إلى محاولات عديدة تجاوزت المائة لاكتشاف مقبرة القائد المقدوني وتوقعوا وجودها في المنطقة المحصورة بين الإسكندرية وواحة سيوة. والثابت أنه بعد موته بفترة وجيزة في بابل في العراق القديم صارت أحقية تملك جثة الإسكندر الأكبر محل تفاوض بين قادته وورثة إمبراطوريته «بيرديكاس» و«بطليموس» و«سلوقس». ورغم وفاته في بابل، فضل البعض في البداية دفن جثته في بحر «إيجة»، الذي كان واحداً من موقعين مرشحين لدفنه وكانت واحة سيوة المصرية هي الموقع الآخر. غير أن ما حدث هو أن ورثته اختلفوا بعده ورغب كل منهم أن يدفن الإسكندر في مملكته كي ينال شرعية خلافته. وكان المقدونيون يرون ضرورة نقل جثمانه إلى مقدونيا. وتذهب بعض المصادر إلى أنه تم دفنه في تابوت ذهبي وصنعت عربة خصيصاً لنقله إلى بلاد اليونان عندئذ اعترض الجنرال بطليموس قائلاً: «إن هناك وحياً ونبوءة في بابل للإله زيوس، سنذهب إلى هناك حيث سنتسلم نبوءة تقرر أين سندفن الإسكندر». وجاء الرد في معبد زيوس بالكلمات التالية: «إنني سأقول لكم ما هو الصالح العام، هناك توجد مدينة في مصر تسمى (منف) وهناك يجب أن يدفن ويعتلي عرشه مجدداً». طبقاً للنبوءة، فإن البلد الذي سيحتفظ بمقبرة الإسكندر سيعيش شعبه في عز وسعادة ولن يموت هذا البلد. من هنا تقرر أن يتم الدفن في مقدونيا، ولما وصلت القافلة التي تحمل التابوت إلى الشام سارع ملك مصر بطليموس الأول (367 - 283 ق م) بجيشه لاستقباله واعترض طريق القافلة في سوريا، وأبلغ المقدونيين أن مصر أولى من مقدونيا فاشترطوا عليه كي يتركوا له الجثة أن يتم دفنها في «منف»، وليس في واحة سيوة كما أوصى الإسكندر قبل وفاته بذلك، وكان السبب في ذلك أن يظل جثمان الإسكندر في حماية بطليموس الأول، أما إذا نقل إلى واحة سيوة بعيداً عن العاصمة فسوف يكون ذلك خطراً على الجثمان والمقبرة ولكن الجثمان لم يظل في «منف» طويلاً. نجح بطليموس في إحضار التابوت إلى مصر حين اختطفه وهو في طريقة إلى إيجة وسار بالجثمان المضمخ بالعطور في تابوته متجهاً إلى «منف»، غير أن المفاجأة تمثلت في كبير كهنة المدينة التي كانت عاصمة لمصر القديمة حيث أبدى تخوفه الشديد من أن دفن الإسكندر في مدينته سوف يؤجج صراعاً عاتياً بين مختلف القادة الطموحين للاستئثار بجثمانه. من هنا تم الدفن في صحراء سقارة ولكن على نحو مؤقت، حسب الطقوس المقدونية. وظل التابوت هناك حتى نهاية القرن الرابع قبل الميلاد أو بداية القرن الثالث قبل الميلاد، بداية عصر البطالمة، حيث نقل جسد الإسكندر إلى عاصمة البطالمة وأعيد دفنه بمقبرة ملكية المعروفة باسم «السوما» أو «السيما» في الحي الملكي الذي كان يعرف باسم «البوكيون»، غير أنه تم تدميره تماماً خلال القرن الثالث والرابع الميلاديين نتيجة اندلاع الثورات والحروب التي قام بها أهل الإسكندرية ضد الأباطرة الرومان.
ويوضح الكتاب أنه بعد أن أصبحت المسيحية الديانة الرسمية في مصر، تم تدمير الكثير من الآثار الوثنية القديمة في أواخر القرن الرابع الميلادي ومن أشهرها معبد السيرابيوم. وكانت «السوما» موجودة عند تقاطع الشارعين الأساسيين في الإسكندرية القديمة ونقطة التقاطع تلك حالياً هي ما يعرف بـ«شارع النبي دانيال» وليس عند مسجد النبي دانيال، ومقبرة الإسكندر قد تكون في هذه المنطقة. ربما في يوم من الأيام يتم العثور على المقبرة تحت أحد المنازل القديمة من خلال أعمال الحفائر أو عن طريق الصدفة. ولو تم اكتشاف مقبرة الإسكندر سوف يكون حدثاً مدوياً، لا سيما أن الكثير من ممتلكاته الشخصية دفنت معه في مقبرته وسوف يمدنا اكتشاف المقبرة بسيرة خالصة حقيقية عن الإسكندر ومغامراته وحروبه وفتوحاته وغزواته، وقد نفاجأ بوصايا أو تعاليم جديدة للذين سيفتحون مقبرته.

تابوت نهاية العالم
ومن الألغاز التي يرصدها الكتاب وأثارت ضجة كبيرة اكتشاف تابوت سيدي جابر أو «تابوت نهاية العالم» كما أطلق البعض عليه، وذلك على بعد خمسة أمتار من سطح الأرض داخل مقبرة أثرية، وهو تابوت حجري ضخم من أكبر التوابيت التي عثر عليها في الإسكندرية، مصنوع من الجرانيت الأسود والذي كان يُنقل من أسوان بأبعاد نحو 275×165 سم؛ وارتفاع 185 سم ويبلغ وزنه نحو 30 طناً تقريباً. وتم اكتشافه بمحض الصدفة أثناء أعمال الحفر في شارع الكرميلي بمنطقة سيدي جابر شرق الإسكندرية لوضع أساس أحد المنازل. وربط عدد كبير من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي بين الاكتشاف الجديد وكتب أحد الصحافيين الأجانب المعروفين بأنه «لا يجب فتح ذلك التابوت». لكن فريق المرممين المصريين استطاع فتح التابوت وعثر به على سائل أحمر وعدد من الرؤوس البشرية.
واعتقد البعض أنه الزئبق الأحمر، لكن د. عبد البصير يوضح هنا أنه لا يوجد في علم الآثار المصرية ما يمكننا أن نطلق عليه الزئبق الأحمر على الإطلاق! وبعد تحليل عينات من السائل الأحمر بعد سحب عينة منه بواسطة إدخال خراطيم ما بين فتحة غطاء التابوت والقاعدة الخاصة به، وكانت المفاجأة تغير لون السائل فور خروجه من التابوت إلى لون غريب غير معروف المعالم. ولا يمكن أن ينسب هذا التابوت للإسكندر الأكبر بسبب تواضع التابوت ودفنه في مكان غير مجهز لا يليق بالقائد العسكري العظيم، فضلاً على أنه أملس ويخلو من النقوش من الخارج ولم تتم كتابة اسم الإسكندر عليه. وربما يعود لأحد الشخصيات البطلمية أو الرومانية المهمة.

مقبرة كليوباترا
المقصود هنا مقبرة كليوباترا السابعة التي توفيت في اليوم العاشر أو 12 أغسطس (آب) عام 30 قبل الميلاد في الإسكندرية عندما كانت تبلغ من العمر 39 عاماً. وتشير المصادر التاريخية إلى أنها انتحرت إما بلدغة أفعى الكوبرا أو بواسطة مرهم سام أو باستخدام أداة حادة مثل دبوس الشعر. وبوفاة كليوباترا السابعة انتهت فعلياً الحرب النهائية من الجمهورية الرومانية بين أعضاء الحكومة الثلاثية: أكتافيوس وأنطونيو وهو زوج كليوباترا ووالد لثلاثة من أطفالها حيث فر أنطونيو إلى مصر بعد خسارته في معركة أكتيوم في اليونان الرومانية عام 31 قبل الميلاد وبعد ذلك غزا أكتافيوس مصر وهزم قواتها وسمح لها بالانتحار لتجنب إذلال عرضها كأسيرة. وأنفق الباحثون سنوات طويلة من البحث عن مقبرة كليوباترا دون جدوى تُذكر. وصحيح أن كثيرين يأملون في العثور على مقبرة الملكة كليوباترا ومارك أنطونيو، إلا أنه لا يجب أن نعتقد أنه تم دفنهما معاً في مقبرة واحدة، لأنه ربما أنزل القائد المنتصر أكتافيوس غضبه على جسد العاشقين بالتفريق بينهما. وكانت كليوباترا قد اختارت لمقبرة مارك أنطونيو مكاناً مقدساً يحمل اسم «تابوزيريس ماجنا» أي «مدينة أوزيريس» على بعد نحو أربعين كيلومتراً إلى الغرب في الإسكندرية. وكان لذلك المكان أهمية كبيرة لديها لأنها بوصفها ملكة مصر كانت تعتبر تجسيداً بشرياً للإلهة إيزيس زوجة الإله أوزيريس. وكانت إحدى البعثات الأجنبية تقوم بحفائر في محيط معبد إيزيس ووجدت رأساً منحوتاً لرجل وقناعاً جزئياً وبه غمازة في الذقن توحي بمظهر مارك أنطونيو كما وجدت كنزاً من العملات تحمل صور كليوباترا السابعة، واعتماداً على ذلك، هناك اعتقاد قوي بوجود مقبرة في تلك المنطقة تحت معبد إيزيس.
يقع الكتاب في 400 صفحة ومزود بخرائط المقابر المجهولة وصور التماثيل النادرة ما أضفى عليه مزيداً من المتعة البصرية، كما اتسم أسلوب الكاتب بالبساطة في السرد والتشويق في العرض.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية
TT

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري تتعلق بفترة الحملة الفرنسية على مصر وما قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ويعد الكتاب الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة بمثابة قراءة نقدية لسيرة واحد من أشهر المؤرخين المصريين في العصر الحديث عموماً والحملة الفرنسية التي عاصرها بشكل خاص وهو عبد الرحمن الجبرتي (1756 - 1825) صاحب الكتابين الشهيرين «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» و«مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس».

يشير عيسى في البداية إلى أن الصعوبات في اكتشاف منهج الجبرتي كمؤرخ تتحدد من خلال عدد من الحقائق، منها أن بعض الباحثين يصنفون الرجل في خانة «الإخباريين» ويرون أن كتابيه مجرد «يوميات» كُتبت في أوانها أو هي «إضمامة» تضم جهد مخبر صحافي غير نشيط.

والجبرتي عند هؤلاء صحافي تلك الأيام التي أرخ لها، وبينما يتحفظ بعضهم فيكتفون بإطلاق الحكم مع بعض قيود على كتاب «مظهر التقديس» فيقولون إن الجبرتي كان فيه كاتب مذكرات أكثر منه مؤرخاً، فإن هذا الحكم يشمل عند آخرين «عجائب الآثار» وبلا تحفظات فهو عندهم كتاب ليس من التاريخ في شيء إنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء. ولأن «الإخباريين» في رأي البعض ليسوا أصحاب منهج أو موقف، فإن البحث في ذلك عند الجبرتي أمر غير وارد.

ويتفرع عن هذه الصعوبة أن الجبرتي كان معاصراً لمرحلة تزيد على خمسة وأربعين عاماً، كما تشكل أكثر من ثلث الزمن الذي أرخ له، فبعض من ترجم لهم كانت تربطه بهم وشائج وصلات بين صديق له وشيخ تلقى عنه العلم، فضلاً عن تلامذة أبيه وأنداده، حتى أن بعض الحوادث التي أرخها كان طرفاً فيها. وهو ما يجعل جهده كمؤرخ معيباً بالمعاصرة، وهي حجاب يحول دون الرؤية الموضوعية وينقله إلى حيث يصبح مجرد «شهادة معاصر» وليس تأريخاً، وبالتالي فلا محل لاكتشاف منهج أو رؤية، إضافة إلى أن الموقف يتعقد لأن الجبرتي نفسه قليل التعليقات ومعظم أخباره صماء لا يتجاوزها إلى مقارنتها أو تحقيقها أو تفسيرها، وهو يصوغ أحكامه غالباً في كلمات مبتسرة تنطوي تحت مظلة الأحكام الأخلاقية، من مثل: هذا التصرف «ظلم» أو «سخافة» أو «خزعبلات»، وهذا الأمر «شنيع جداً». وهذا الشخص «لعين» أو «كافر»، وبعضها عبارات لا تعكس رأياً في الحدث ولكن استكمالاً للخبر.

لكن صلاح عيسى الذي كتب هذا الكتاب في السبعينيات، وينشر لأول مرة بعد وفاته يعود بحسه كمؤرخ ويؤكد أن تصنيف الجبرتي في خانة «الإخباريين» بشكل مطلق هو خطأ بلا جدال، ولكننا مع افتراض صحته لا نرى أن الإخباريين ليسوا أصحاب منهج أو موقف. والواقع أن اختيار أخبار معينة وإهمال غيرها والحرص على الترجمة لأفراد معينين وترك الآخرين، لهو سلوك يعكس بحد ذاته وجهة نظر ضمنية. وعلى سبيل المثال، فإن الجبرتي في «مظهر التقديس» أغفل من حوادث شهر ربيع الأول 1216. وفق التقويم الهجري، وشهر ربيع الثاني من العام نفسه أكثر من نصف حوادثهما. وعاد في كتابه الثاني «عجائب الآثار» فأورد حوادث الشهرين متكاملة بحسب جهده في التجميع.

ويفسر حجب هذه الأخبار ثم إيرادها موقفاً له، فقد كانت كلها تسجيلاً لقبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة أخرى. وبصرف النظر عن دلالة هذا فيما يتعلق بموقفه من العثمانيين، فهو أيضاً يعكس دلالة على أن الخبر ليس دائماً عرضاً لواقع أصم، ولكنه اختيار من هذا الواقع وما يتحكم فيه هو وجهة النظر أو المنهج، بل إن ترتيب بعض مباحث الكتاب نفسها يمكن أن يكون ذا دلالة.

ويرى صلاح عيسى أنه برغم أن معاصرة المؤلف للحقبة التي يرويها عنصر له تأثيره، فإن هذا التأثير يقل كثيراً هنا، لأننا نعلم أن الجبرتي لم يسجل أخباره هكذا في حينها تاركاً إياها مادة خام دون تنسيق أو تعديل. لافتاً إلى أن الدافع للجبرتي على كتابة تاريخه معروف فقد كلفه أستاذه الزبيدي في عام 1779 حين كان الجبرتي في الخامسة والعشرين من عمره بمساعدته في الترجمة لأعلام المائة المنصرمة من مصريين وحجازيين، والمراحل التي مر بها تاريخ القرن الثالث عشر الهجري، ثم دوّن بعد ذلك يوميات للمراحل التي عاصرها. المهم في هذا كله ّأن النص الذي تركه لنا الجبرتي ليس هو نص تدويناته اليومية التي كان يسجلها، ولكنه عمل تفرغ له فيما بعد لإعادة تنسيق ما كتب وتبويبه وكان وقتها قد جاوز الخمسين من عمره.

كما أن بعض الظواهر التاريخية كانت قد استكملت ملامحها، وهو بالقطع ما أتاح للجبرتي فرصة للتخلص من تأثير المعاصرة في حدودها الضيقة ومكنه من استخلاص نتائج ربما لم تكن واضحة أمامه وهو يسجل الأحداث اليومية وقت حدوثها ونقل عمله بدرجة محدودة من إطار الأخبار الأصم إلى أفق أكثر رحابة.

ولأن التاريخ عند الجبرتي هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها وكل ما حدث له من مظالم هو «انتقام سماوي» لخروجه عن الناموس، فقد كان طبيعياً أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي يخضع فيه الصغير للكبير والدنيء للشريف والأدنى للأعلى. في هذا الصدد يبدو الجبرتي أكثر تزمتاً من أي شيء آخر، فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر، فعلى المماليك وهم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية والقادمة من خلفية العبودية والرق أن يتبعوا التقاليد تجاه أمرائهم، فإذا ما خرجوا عنها أثاروا غضبهم. ومن ثم يرى الجبرتي أن من الأحداث التي تستحق الرواية أن المماليك قد تزوجوا وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور.

لم يكن غريباً أن يكون من أعمال «هيئة الديوان»، التي كان الجبرتي من أعضائها على عهد قيادة الجنرال مينو للحملة الفرنسية، أن يحذر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت من الثورة الشعبية، وأن يصوغ تحذيره في أن الثورة يقوم بها الدهماء فلا يخسرون شيئاً، وإنما يخسر الذين يملكون المال أو النفوذ، فقد ذكر أن أعضاء الديوان المذكور دعوا مشايخ الحارات والأخطاط وحذروهم مما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأن مشايخ الحارات هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه.

ومع ذلك، لا يبدو الجبرتي في تأريخه لثورة 1805 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، معارضاً لها، بل إننا نستشعر روحاً من التعاطف في روايته لأحداثها، فقد خلت عباراته من أوصاف «الأشرار» و«أوباش الناس» في وصف الجماهير. وفي كل المناقشات التي دارت بين قادة الثورة والوالي العثماني والتي كان الثوار فيها يستندون إلى أن من حقهم بمقتضى الشريعة أن يعزلوا ولي الأمر إذا سار فيهم بالظلم، بدا الجبرتي موافقاً على هذا الرأي ووصف رفض الوالي له بأنه «خلاف وعناد».