«المجاز السياسي»... التضليل عبر توظيف اللغة

عمار علي حسن يكتب عن أنماطه في الإعلام والسياسة

«المجاز السياسي»... التضليل عبر توظيف اللغة
TT

«المجاز السياسي»... التضليل عبر توظيف اللغة

«المجاز السياسي»... التضليل عبر توظيف اللغة

صدر حديثاً ضمن سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية كتاب «المجاز السياسي» تأليف الباحث المصري الدكتور عمار علي حسن، الذي يحلل فيه طبيعة المجاز السياسي وأنماطه ومدى تغلغله في خطاب السياسيين بشكل خاص، وكذلك أجهزة الإعلام، وما تبثه من أخبار وتقارير مختلفة متعلقة بحياة الناس وأحاديثهم، حيث توجد الاستعارات والتشبيهات والكنايات في الحوارات اليومية التي تجري على الألسنة في الشوارع والأسواق والمكاتب والمصانع والورش والحقول والبيوت والملاعب، لافتاً إلى أن بعض الاستعارات المتداولة تعيبها المبالغة، ويمكن التعبير عنها بإشارة أو صمت، لكنها أياً كانت الهيئة التي تتخذها لا يمكن الاستغناء عنها.
يتضمن الكتاب ستة فصول وخاتمة ومقدمة ضافية، يقول المؤلف فيها أنه «لا يسعى لتوجيه دعوة إلى (ترصيع الخطاب السياسي بألوان من المجازات)، إنما يهدف إلى مشاكسة ومساءلة الذين يعتقدون أن السياسة تدور حول حقائق، ليروا من خلال دراسته وجهها الآخر، والذي تشير ملامحه إلى أنها تحل بقوة في رحاب المجاز». ويحاول الباحث من خلال ذلك استجلاء بعض الغموض، وهز المسلمات الزائفة، والتصورات الجامدة، وإماطة اللثام عن كثير من المكر والخداع الذي يحيط بالسياسة عبر توظيف اللغة، وحتى يكون الفرد الذي يذهب لساحاتها على وعي بمواضع خطواته، ويتجنب مصائد البلاغة وفخاخها.
ويأتي «المجاز السياسي» بفصوله ودراساته مكملاً لكتاب «الخيال السياسي» الذي صدر للمؤلف منذ 4 سنوات في السلسلة نفسها، وحاول فيه أن يقرب الخيال إلى الواقع، وإخضاع التفكير العميق والحر في المستقبل، لضبط علمي، كي لا ينزلق إلى أوهام أو أمنيات، أما في «المجاز السياسي» فكان عمار علي حسن معنياً بسبر «أغوار الرؤية التي تذهب إلى أن العالم غارق في أكاذيب سوداء وبيضاء، ومشاكسة الذين يعتقدون أن السياسة تدور حول (حقائق)، ليروا وجهها الآخر حيث تحل بقوة هائلة في المجاز».
ويلفت الباحث إلى أن هناك همزات وصل بين «الخيال السياسي» و«المجاز السياسي»، فالأخير بوسعه أن يفتح أمام التفكير أفقاً بعيداً وجديداً، ويمكن المشتغل بالسياسة، ومن يقوم بالتنظير في مجراها، «ويقف على الضفاف التي تتسع وتضيق، أن يرى ما في الواقع من تعقيد وتركيب ببصيرة نافذة، فبوسع مجاز واحد سائد ومتكرر عبر القرون، مثل (شعرة معاوية) مثلاً أن يساعد السياسي على أن يفتح ذهنه على احتمالات وخيارات متعددة، تترتب عليها تصرفات مرنة في دنيا الناس، كما أن تعبيراً مجازياً مثل: (بينهما ما صنع الحداد) يلهب الخيال حين يحاول في مبناه ومعناه أن يجيب عن سؤال حول الدرجة التي وصلتها العداوة بين طرفين».
بدأ الكتاب بتحليل ما بين الكلام والسياسة من دروب، ثم عرَّج على اللغة كسلطة وقوة ناعمة، ليعرض بعدها معنى المجاز السياسي، ماراً بتعريفه في العموم، وعلاقته بالحقيقة، ليصل إلى تحليل الاستعارات التي يعوم عليها الخطاب السياسي، ضارباً أمثلة، باستعارات الحرب، والنظر إلى الإنسان كآلة، وتأليه الدولة، وتجسيد المجتمع، والتعامل مع كرة القدم كراية قومية، وتصور العلاقات الدولية رقعة شطرنج، والمجتمع الرأسمالي «مول»، والاشتراكي ساحة للقطط السمان، والريبة في التمويل الدولي على أنه «غزو».
وتناول الكتاب مسألة المبالغة السياسية، مفرقاً بينها وبين الفصاحة والبلاغة ثم بين المقبول منها والمرفوض، وشرح جوانبها المتمثلة في الخطب الرنانة، واستدعاء الشعر السياسي، وتوظيف أفعل التفضيل، والتحريض على التطرف والتعصب، والنفاق والبذاءة والكذب السياسي. كما تناول بلاغة الصورة وتعامل معها كنص سياسي، لا سيما في مجالات الصور الجمالية، وصور الأفكار، والصور الذهنية بمساراتها المتشابهة والمتصارعة والمتعددة. ولم يغفل عمار علي حسن الحديث عن الصمت السياسي ورآه بليغاً، انطلاقاً من فضائه الأوسع المتمثل في الدين والحكمة، ثم تجلياته في التمنع والمقاومة والتفاوض والدعاية وبناء العقل الجمعي والعنصرية والسيطرة والثورة والصوم السياسي وتمدد الإمبراطوريات.
وأشار المؤلف إلى أن من يمعن النظر فيما يجري في الحياة يدرك أن للمجاز حظاً فيها أكبر بكثير مما للحقائق، وأنه مع الكذب تتعدد المجازات في إطار عمليات التدجين والمخاتلة والمراوغة والتحايل والمواربة والإيهام والدعاية والحشد والتعبئة.
ولم يلزم الباحث نفسه بالإسهاب في شرح ألوان المجاز وتجلياته المتعارف عليها عند اللغويين، منطلقاً مما انتهوا إليه ليبني تصوره عن «المجاز السياسي» بمسارات منهجية مختلفة، وإن كانت العناوين الرئيسية لفصوله تتكئ على بعض التقسيمات التي أنجزها اللغويون لأشكال المجاز، وتضيف إليها مجالات أخرى، نابتة من رحم المجتمع، ومشتقة من قلب السياسة التي تجنح إلى الصراع، وما يقتضيه من بناء الحجة والإقناع، بصرف النظر عن مدى تماسكها ومشروعيتها.
وفي الفصل الأول من الكتاب الذي جاء بعنوان «السياسة والكلام» ذكر عمار علي حسن أن الكلام هو الأكثر تفاعلاً مع السياق العام، ويجري في شكل حوار بين القوى والتكتلات والأحزاب والجماعات والدول ليعبر عن التنافس والصراع بينها، ولا يمكن فهمه إلا من خلال السياق الاجتماعي، وهو ما يبرهن على عدم صواب رأي من يتعاملون مع السياسة على أنها حقيقة مادية واضحة، ولا يبذلون أي جهد في سبيل معرفة ما فيها من كلمات محملة بالمجاز، حيث الأوهام والخيالات والصور غير الحقيقية والخدع والتلاعب بالألفاظ والمعاني والمشاعر والقلوب والعقول، فالسياسة ليست سوى خطاب، يشكل الكلام جزءاً رئيسياً منه، وإذا كان الناس في الدول الحديثة ينتظرون من السياسيين، بذل أقصى ما لديهم من جهد في سبيل توفير العيش الكريم للشعب كله عبر تقديم الخدمات كافة، فإن كل ما فيها يبدأ بالكلام، الذي يتم به كتابة وتسجيل وطرح معالم السياسات والخطط والاستراتيجيات.
وهذه البرامج أو الخطط، حسب قول المؤلف، تتسم بالتقريرية والعملية والإجرائية، التي تصبح بمنزلة العهود أو الوعود التي تقطعها الحكومات على نفسها، حيث ينقل هؤلاء كل ما يدور، أو يشاركون في صنعه من خلال الكلمات. ويشاركهم في هذا الإعلام الذي يعرض ما يتلقاه من المسؤولين والممثلين النيابيين، ويعمل على كشف ما يتعمدون إخفاءه، ويصيغونه في كلمات في الصحف وينطقون به في برامجهم، وقد يرسمونه في صور ملتقطة من الواقع، بعضها يغني عن آلاف الكلمات، أو في رسوم كاريكاتيرية تختزل الكثير مما يقال.
ويذكر المؤلف أن هناك حكومات تتهم معارضيها بأنهم لا يملكون إلا «الكلام»، مع أنه طريقة التعبير عن البرامج الحزبية، والخطط، والسياسات البديلة لدى المعارضين، والمحكومين، الذين بوسعهم هم أيضاً أن يعبروا بطرق أخرى غير الكلام تشمل الإشارة والإيماءة ولغة الجسد. لكن المشكلة الحقيقية، من وجهة نظر حسن، التي تكشف عنها الملاسنة بين السلطة والمعارضة، لا تقف عند حد اتهامات الأولى للثانية، بأنها لا تجيد سوى الثرثرة، وتوظيف الكلام في التلاعب بعواطف الجمهور، إنما هي أعمق من ذلك، وتمس الطرفين، ولا مزية لأحدهما على الآخر في هذا. وإمعان النظر في الجاري والسائد، يبين أن كلام السياسة لا يقتصر على المساجلات المباشرة بين السلطة والمعارضة، إنما يتجلى أيضاً في الخطب والشعارات والبيانات والمنشورات التي تنتجها أطراف عديدة منشغلة بالعمل السياسي. لكن الطرفين قد يتبادلان في بعض المواقف والحالات اللجوء إلى البيان أو البلاغة، من منطلق إدراكهما أن السياسة خطاب في الأساس، موجه بالدرجة الأولى إلى جماهير تنتظره وتستهلكه، وقد يروق لها فيقنعها، أو يزيد غضبها، ولا يقف التوظيف السياسي للكلام الشفاهي عند حد العلاقة بين السلطة والشعب فحسب، بل يحتاج الناس إلى الكلام ذي المجازات الظاهرة المتدفقة، من أجل ترتيب معاشهم، وإقامة العلاقات فيما بينهم. وفي مجال الحديث عن السياسة ككلام، رأى المؤلف أنه لا بد من تبيان علاقة اللغة بالسياسة، وكيف تصير اللغة سلطة معتبرة في حد ذاتها، حيث تشكل رافداً قوياً من روافد القوة الناعمة لأي دولة، ولفت إلى أن باب اللغة ينفتح على السياسة واسعاً، حيث ترتبط النصوص بسياقات إنتاجها وتلقيها، وتصنع الأشكال الكتابية والشفاهية في ميلها أحياناً إلى التكرار والتراكم مجازات تعمل في إدارة الصراع الثقافي السياسي، وتؤثر على أغلب النقاش السياسي الدائر حول العام والخاص، والحقيقي والمجازي. وهنا ينشط دور الاستعارات، لتتعدى ما تنبئ به قواعد البلاغة إلى ألوان من الأوهام والتهويمات والتصورات التي يصنعها الغياب الدائم للحقيقة، وما يقف خلف القرارات السياسية.
ويشير الكاتب إلى أن ما يجعلنا ننحرف عن الحقيقة السياسية، في تكوينها وهيئتها المجردة، ليس غموض المعلومات حولها، ولا ما تفعله بنا الآيديولوجيات والميول، إنما أيضاً أشكال الاستعارات والمجازات التي ننخرط فيها، حيث تلعب اللغة دوراً بارزاً، وتحتل موقعاً مركزياً، بالنسبة للتفكير في السياسة، وإنتاجها في خطابات تبدو ممارستها أمراً مستحيلاً من دون اللغة، سواء تم توظيفها في التواصل بين السلطة والشعب، أو في تأسيس الجماعات والتجمعات.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.