الأرمن... صراع الماضي والحاضر روائياً

أحمد مجدي همام يتناول تاريخهم المأساوي في «موت منظَّم»

الأرمن... صراع الماضي والحاضر روائياً
TT

الأرمن... صراع الماضي والحاضر روائياً

الأرمن... صراع الماضي والحاضر روائياً

يشكل النبش في التاريخ معول السرد الأساس في رواية «موت منظَّم»، للكاتب أحمد مجدي همام، الصادرة حديثاً عن دار «هاشيت أنطوان» ببيروت، في إطار منحة من المورد الثقافي. لكن التاريخ هنا ليس على إطلاقه، إنما يتعلق بمذابح الأرمن الشهيرة على يد الأتراك، تستدعيها الرواية في تقاطعات ومفاصل زمنية، ومن نقطة فاصلة تحددها بعام 1915، مشكلة إطاراً لرؤية ذات طبيعة خاصة بالأرمن المصريين: نشأتهم وجذورهم، ومن أين جاءوا، وكيف تأقلموا وحافظوا على عادتهم ولغتهم، وعاشوا حياتهم في وطن أصبح حاضناً لهوية مزدوجة اكتسبوها تحت مظلته.
تمثل عائلة «آرام سيمونيان»، بمن نجوا منها، شاهداً على هذه المأساة، وكوابيسها الدامية المحفورة في الوجدان الأرميني. فبعد صراع مضنٍ، وصل الأب «آرام» إلى مصر، واستطاع أن يلم شمل ما تبقى من عائلته، عدا زوجته التي راحت ضحية تلك المجازر. يقول الكاتب في مستهل الرواية بعنوان توثيق (أ)، على لسان آرام: «كنت ابن تسع سنوات عندما أصدر الباشاوات الثلاثة مرسومهم بترحيل الأرمن من سيس في ربيع 1915. شيخ المسجد القديم في القرية قال للجندرمة التركية التي جاءت لترحيلنا إن والدي هو عامل البناء الذي يتولى تشييد المسجد الجديد في مدخل القرية، وطلب منهم أن يتركوه، وأبي اشترط عليهم أن ينتقي العمال الذين سيعملون معه في بناء المسجد. قال أحد الجنود: المسجد سينقذك أيها الكافر؛ ألن تصبح مسلماً؟ وهكذا، أُنقذ أبي وأخوتي وبعض أقاربنا من الترحيل في مسيرات الموت، كنا نعرف ممن سبقونا، ومن أقاربنا في باقي الأرض الأرمينية في الأناضول، أن من يمضي في مسيرة لا يظهر ثانية».
تتسع هذه الرؤية على مدار أربعة فصول (شتاء طويل - ربيع في القوقاز - مواعيد صيفية - خريف أسود)، تضمها 190 صفحة، كأنها أنشودة للطبيعية بتحولاتها الدراماتيكية، تصعد وتتبلور في سياق علاقة من التضايف بينها وبين أجواء أحداث ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 في مصر، وما أعقبها من اضطراب سياسي وانفلات أمنى شهد بعض الأعمال الإرهابية التي أعادت إلى الأذهان صدى حوادث بشعة، من أبرزها مذبحة الأقصر في معبد حتشبسوت عام 1997.
تتناثر تلك الأحداث والوقائع كشظايا في طوايا النص، لكنها لا تصنع ذاكرة خاصة له، يعزز ذلك أن الكاتب لا يتعامل مع التاريخ بصفته خطاباً موازياً، فهو حالة مبثوثة في السرد، لها ملمسها وروائحها، تومض وتتفتح في مساراته الراهنة التي تعيشها الذات الساردة من واقع الشخوص الرواة. ومن خلال تأملها وسبر أغوارها، تتشكل هذه الذاكرة الخاصة، وتتحول إلى جغرافيا بديلة. ربما من هنا يمكن أن نفهم دلالة مقولة نابليون بونابرت «الجغرافيا قدر» التي صدر بها الكاتب الرواية.
ومن ثم، تتكشف أجواء الرواية، وتشف بسلاستها وتنقلاتها الرشيقة بين الأزمنة والأمكنة، عن حركتين أساسيتين تتناغمان صعوداً وهبوطاً تحكمان مدارات الرؤية، وما تطرحه من دلالات وأسئلة. تتسم الأولى بنزعة توثيقية تحاول أن تُخرج صورة مجازر الأرمن من جراب التاريخ، وتتأملها بعين تختصر مسافة شاسعة من الجغرافيا والحنين الحارق تجاوزت قرناً من الزمان، وينحو السرد منحى التقصي والنبش في منحنيات وكواليس تلك المجازر، وتنحصر طاقة التخييل في محاولة الربط والفهم والاستيعاب وردم الفجوات والمفارقات التي حفرتها تلك المأساة في البشر والأزمنة والذكريات. أما الحركة الثانية فتكمن في العاطفة المستترة بين الصحافي الشاب عبد الرحمن أسعد وبطلة الرواية ماجدة سيمونيان، الأرمينية المصرية المولد (57 عاماً) التي هجرها منذ 19 عاماً زوجها «أرمن»، الصيدلي الشاطر ابن عمها، وارتبط بامرأة ألمانية من أصل تركي تعرف عليها في أثناء دراسته للماجستير بألمانيا، ثم تزوجها وعاش معها في كندا، بصحبة ولديه آرثر وفيكتور، بينما ظلت ماجدة وحيدة تعيش من ريع صيدلية تركها لها من بين ثلاث كان يمتلكها.
يلتقي عبد الرحمن وماجدة في قسم الشرطة بالصدفة؛ كانت تحرر محضراً لبواب العمارة وزوجته وأولاده لأنهم يصدرون لها طاقة سلبية، وقد حولوا العمارة إلى وكر للبلطجة وتجارة المخدرات، مما اضطر كثيراً من السكان إلى مغادرتها، بينما عبد الرحمن كان بصدد تحرير محضر عن سرقة هاتفه المحمول. لكن تهمة الطاقة السلبية، مثلما أثارت ضابط الشرطة أثارته أيضاً. وبعد تعارف سريع بينهما، يقرر أن يكتب مادة صحافية عن الأرمن المصريين تكون ماجدة طرف الخيط فيها، وتتسع دائرة التعارف بينهما وتتوثق من خلال لقاءاتهما في نادي الأرمن «آرارات» الاجتماعي بضاحية مصر الجديدة، أو في بيتها، وتزوده بصور ووثائق وشهادات نادرة لبعض ضحايا المجزرة، فيكتشف عالم الأرمن المهمش، وبشاعة ما تعرضوا له من قتل وتطهير عرقي. كما رشحته لحضور الاحتفال الوطني معها بـمدينة «بريفان»، عاصمة أرمينيا، لإحياء ذكرى الضحايا الأرمن، ضمن وفد مصري ضخم على رأسه البابا تواضروس، ومشاركة وفود أخرى من شتى دول العالم.
نحو أسبوع عاشه عبد الرحمن في ظلال وطن حديث النشأة أقتطع من جسد جغرافيا عريقة حولها الطغاة إلى مسرح هزلي لعبث الأقدار. في هذا الوطن، بطبيعته الساحرة وبشره المتمسكين بلغتهم وعاداتهم وتقاليدهم وطقوسهم، اتسعت عين الحياة، وتحركت مياه العاطفة الراكدة في الداخل بين ماجدة وعبد الرحمن، وأصبحت لها علامات لافتة. ساعد على ذلك أجواء المكان والاحتفال، وشعور ماجدة بأنها في الفضاء الأصلي للأحلام والرؤى والمشاعر، حتى أنها قررت ألا تعود مع الوفد المصري، وتمكث بعض الوقت لترى البلاد على طريقتها الخاصة، وتزور قرية جارني ومعبدها الأثري العريق: «لم أذكر عبد الرحمن في صلاتي، ولم أتمنى أن يتزوجني. هذا مستحيل بكل الأعراف؛ أنا مسيحية وهو مسلم؛ عمري 57 سنة وهو في الثلاثينيات؛ أنا منفصلة عن أرمن منذ 16 عاماً وهو لا يضع دبلة في يديه. أنا صليت لكي يكون عبد الرحمن في الجوار ليس إلا، هل خلطت بين الحماية والحب؟» (ص 110).
تضع ماجدة العلاقة عاطفياً على المحك، رابطة الحب بالحماية والاستقرار، لكنها مع ذلك لا تستطيع أن تفلت؛ ثمة شيء حميم في داخلها تجاه الشخص الذي وفر لها هذه الحماية جسدياً وروحياً، وكان السبب وراء الحملة الأمنية التي طهرت المنطقة من إمبراطورية أبو سيد، وأودعته هو وأولاده وزوجته السجن.
يبرر فعل الحماية قبولها عرض «أرمن» للصلح معها، ولم شمل العائلة بعد غياب طويل قاسٍ، وتعويضها بنصف مليون دولار، مقابل نظرة وداع أخيرة يحتاجها بعد وفاة زوجته الألمانية، وإصابته بسرطان الكبد. ينجح ابنها أرثر في إتمام الصفقة، وتصر على أن يحضر عبد الرحمن جلسة الصلح: «سأضع خمس المبلغ وديعة باسمي في البنك، وسأتبرع بالأخماس الباقية كالتالي: خمس لمطرانية الأرمن الأرثوذكس، وخمس لدار عش العصافير للأيتام الأرمن في جبيل بلبنان لأنها الدار التي احتضنت أكبر عدد من أيتام آل سمونيان منذ 1915، وخمس للجمعية الأرمينية الخيرية، وخمس لبيت الزكاة والصداقات التي يشرف عليها الأزهر» (ص 141). ثم ينطلقان معاً إلى وداع أخير، صبيحة 11 ديسمبر (كانون الأول) 2016، حيث اختارت ماجدة أن تؤدي صلاتها في كنيسة قبطية، بدلاً من كنيستها الأرمينية.
يتضافر مع كل هذا مجموعة من السمات الجمالية اللافتة ساهمت في أن تضفي على أنساق السرد جواً من المتعة، من بينها المهارة الفائقة في رسم الشخصيات، فالكاتب يسكنها من الداخل والخارج معاً، ومعني أساساً بطريقة تفاعلها مع الحياة، ورصد مساحة الحب والأمل في خطواتها، يصاحب ذلك حيوية سردية في الوصف، بصفته مقوم حياة ورؤية وطقساً يتجاوز حيز التوثيق الضيق للمكان والعناصر والأشياء. كما أن الزمن في الرواية ليس استرجاعياً محضاً للماضي ينعكس «فلاش باك» على ما تفرزه الرواية من وقائع وأحداث، إنما يتوزع رأسياً وأفقياً في شكل شرائح من الكولاج، يضفرها الكاتب بذكاء شديد في نسيج السرد، صانعاً نوعاً من التواشج بين عناصر السرد وأزمنته. تفترش هذه الشرائح فضاء الشخوص، وتلون ذكرياتهم ومشاعرهم وهواجسهم، ما يجعل الرواية مفتوحة بانسيابية أسلوبية على تخوم الماضي والحاضر معاً. الكولاج رؤية بصرية، وهو فن صناعة الصورة من خلال المِزق والقصاقيص والشظايا، وبرأيي هو المنطق الفني الذي يشكل محور إيقاع السرد في الرواية... تطالعنا هذه الصورة بقوة على غلاف الرواية، حيث ثمرات الرمان المشقوقة نصفين تشي برمزية العقد المنفرط التي تكاد تشكل تلخيصاً جذرياً لمأساة الأرمن المشقوقة إلى زمنين وهويتين، في نوستالجيا مزدوجة أصبحت تلازمهم أينما حلوا أو رحلوا، ناهيك من أن الرمان، وكما تشير الرواية، يمثل أيقونة وطنية في أرمينيا وطن الأرمن.
بحيوية التضفير الكولاجي، يتجاوز التوثيق مهمته التراتبية، بصفته مقوماً سردياً، ويصبح فعل معايشة للمشهد، يقرّبه ويبعدّه بعين الراوي والشخصيات، كاسراً حيادية التلقي. لتفاجئنا هذه الرواية الممتعة بنهاية مفتوحة بقوة على البداية: «بسرعة، شبكت يدي في يد عبد الرحمن.
كان جسده يشع دفئاً ويغمرني ببهجة لا أعرف ماذا أسميها؟». لكن لم تكد تجف أحبار اللوحة التي رسمها لهما طالب بكلية الفنون وهما في مسجد الحاكم بأمر الله الأثري، حتى تحول المشهد كله إلى صرخة في قوس حياة ستبقى رغم أنف الإرهاب، سواء في مجازر الأرمن، أو إرهاب الجماعات الإسلامية الذي أودي بأرواح 25 شخصاً، معظمهم من النساء، بينهم ماجدة وصديقتها إنجي، وأصاب العشرات، في حادث تفجير بالكنيسة البطرسية بالقاهرة... كانوا يؤدون الصلاة، ويدعون أن يعم الأمن والسلام العالم.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.