دارة الملك عبد العزيز تستقرئ ركائز الخطاب السياسي والإعلامي وإنجازات خامس ملوك الدولة السعودية

خطب الملك فهد وكلماته.. التأكيد على الثوابت بشفافية ووضوح

10 مجلدات تضمنتها «موسوعة الملك فهد» أنجزتها دارة الملك عبد العزيز
10 مجلدات تضمنتها «موسوعة الملك فهد» أنجزتها دارة الملك عبد العزيز
TT

دارة الملك عبد العزيز تستقرئ ركائز الخطاب السياسي والإعلامي وإنجازات خامس ملوك الدولة السعودية

10 مجلدات تضمنتها «موسوعة الملك فهد» أنجزتها دارة الملك عبد العزيز
10 مجلدات تضمنتها «موسوعة الملك فهد» أنجزتها دارة الملك عبد العزيز

تميز الملك الراحل فهد بن عبد العزيز بالتواصل مع شعبه والعالم عبر خطبه الكثيرة، من خلال عدة منابر، إضافة إلى سياسة الباب المفتوح التي تعد ديدن الضيافة السعودية منذ عهد الملك المؤسس وإلى اليوم، وحملت خطبه أعلى درجات الشفافية والوضوح. واتخذ الملك الراحل فهد بن عبد العزيز خمسة منابر للتواصل مع شعبه عبر سياسة الباب المفتوح وقنوات التواصل الرسمية الأخرى، فكان لا يخفي شيئا عن شعبه، فيزوده بآخر التطورات، ويفسر له أسباب القرارات الحاسمة التي اتخذتها الدولة، مما يعكس الشفافية والوضوح واللحمة الوطنية. واتصفت كلماته بلغة سهلة وبالارتجال المتمكن، مما جعلها قريبة المعاني والدلالات حتى لرجل الشارع البسيط، فكانت محط اهتمام الأسرة السعودية الصغيرة، والبيت السعودي الكبير بكل أطيافه السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية.
وفي مصارحة مع شعبه، قال الملك فهد في جلسة لمجلس الوزراء بعد تحرير الكويت: «قد يستكثر البعض حجم المبالغ التي أنفقناها لتحقيق ما أنجز على صعيد أحداث الخليج، من خلال حرب تحرير الكويت، لكنني أود أن أؤكد أن النتائج التي توصلنا إليها، باستتباب الأمن، ودحر الظلم، وترسيخ الشرعية الدولية، توازي، ولله الحمد، أضعاف ما أنفقناه في هذا السبيل»، بل إنه اجتمع بالعلماء والمواطنين ليهنئهم بتحرير الكويت عام 1991، وتحدث إليهم بأدق التفاصيل عن سيناريو ما جرى منذ محاولاته الجادة والصادقة لثني الرئيس العراقي عن نواياه حتى تحرير الشقيقة الكويت، وكان الحديث بمنزلة إطلاع للشعب السعودي على حيثيات حرب «عاصفة الصحراء»، فقد كان يعتمد الحقائق والتفاصيل في حديثه للشعب لدحض الشائعات المغرضة.
وبدأت صباح اليوم الخميس فعاليات اليوم العلمي الثاني والأخير للندوة العلمية عن تاريخ الملك الفهد، والتي واصلت البحث في السياسة السعودية في عهد الملك فهد بن عبد العزيز، وترأسها الدكتور عبد الله الربيعي عضو هيئة التدريس بقسم التاريخ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، إضافة إلى ورقة عمل سياسية أخرى قدمها الدكتور عويد المشعان من جامعة الكويت، تطرقت إلى دور الملك الفهد التاريخي في تحرير الكويت، وموقفه المشرف إبان الغزو العراقي، ودوره الدبلوماسي الحثيث لرد الحق الكويتي بعد حشده للمواقف العربية والإسلامية والدولية لتأييد هذا الحق، إضافة إلى دور القوات المسلحة السعودية في تحرير دولة الكويت.
وطرح الدكتور أحمد السعيدي من المملكة المغربية التعاون الثقافي والعلمي المغربي السعودي في عهد الملك فهد، ورصد أوجه التعاون الثقافي والعلمي على المستوى الأكاديمي بين البلدين، حيث جرى إنشاء جامعة الأخوين نسبة إلى ملك المغرب الراحل الحسن الثاني والملك فهد، كما استحضر الباحث أيضا شواهد أخرى لهذا التعاون، إضافة إلى ورقة علمية أخرى قدمها عبد الله منسي من جامعة الملك عبد العزيز عن المسار التاريخي لاتفاق الطائف الشهير عام 1989 بين أطراف الأزمة اللبنانية آنذاك، حيث كانت للملك فهد بن عبد العزيز الفكرة والدور الأكبر في جمع الفرقاء اللبنانيين في مدينة الطائف واتفاقهم على مجموعة مبادئ نصت إجمالا على أن لبنان وطن حر ومستقل، الأمر الذي يضاف إلى الملك الفهد ضمن المبادرات السلمية لحل المشكلات العربية.
وإلى جانبه، تحدث الدكتور محمد مراح، من جامعة قطر، عن السياسة الخارجية للملك فهد، من خلال تنمية العلاقات السعودية العربية في عهده، إضافة إلى جلسة أخرى وثقت جوانب تنموية في التعليم بصفة عامة على الصعيد المحلي، حيث تحدث الدكتور علي الغامدي من جامعة طيبة عن إسهام الملك فهد في نشر وتطوير التعليم العام، ورصد جهود الملك في بناء أسس التعليم النظامي في المملكة حين كان وزيرا للمعارف، وما بذله من دعم واهتمام بمجال التربية والتعليم حين تولى الحكم، الأمر الذي أثر على رقي الحياة المجتمعية في السعودية ووصولها إلى مصاف الدول المتحضرة والمتقدمة في العالم.
وفي الورقة الثانية من هذه الجلسة، استعرضت قماشة الحبيب من وزارة التعليم نماذج من الشعر العربي وثقت لكثير من الإنجازات الحضارية في عهد الملك فهد، مثل دوره في توسعة الحرمين الشريفين، واهتمامه بالمصحف الشريف والقفزة التعليمية التي شهدتها المملكة في عهد حكمه، بعدها سلط الباحث الدكتور أحمد الحسين بجامعة الإمام الضوء على تطوير تعليم الكبار ومحو الأمية. ومن وجهة إنسانية تناولت الباحثة منال خضري، من جامعة الحدود الشمالية، دعم الملك فهد لذوي الإعاقة من الموهوبين المعاقين في السعودية منذ أن كان وزيرا حتى تولى سدة الحكم، الأمر الذي جعل المملكة تتبوأ مكانة الريادة بين دول المنطقة في تربية ورعاية هذه الفئة الغالية من المجتمع.
وتختتم الندوة اليوم الخميس آخر جلساتها، بتخصيص جلسة للروايات والذكريات عن الملك الراحل فهد بن عبد العزيز، يتحدث فيها الأمير سعود بن فهد بن عبد العزيز، بمشاركة عدد من الوزراء السابقين والحاليين المعاصرين للملك الراحل، ليتحدثوا بشواهد تاريخية عن أبرز إنجازات الملك فهد والجوانب المضيئة عن شخصيته وسيرته.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!