رياض مصاروة.. شخصية العام الثقافية في فلسطين لعام 2015

عمله الأخير كان عن راشيل كوري

رياض مصاروة
رياض مصاروة
TT

رياض مصاروة.. شخصية العام الثقافية في فلسطين لعام 2015

رياض مصاروة
رياض مصاروة

اختارت وزارة الثقافة الفلسطينية، في حفل احتضنه قصر رام الله الثقافي مساء أمس، الكاتب والمسرحي الفلسطيني رياض مصاروة، شخصية العام الثقافية، وذلك بمناسبة يوم الثقافة الوطنية الفلسطينية، الذي اعتادت الوزارة في السنوات الأخيرة على إعلان شخصية العام الثقافية فيه.
ولد رياض مصاروة عام 1948 في قرية الطيبة في المثلث بالداخل الفلسطيني المحتل، وأتم دراسته الابتدائية في قريته، والثانوية في مدرسة زراعية قبل أن يسافر إلى ألمانيا الشرقية حيث درس الإخراج المسرحي في معهد الفنون المسرحية، وحصل على الماجستير في الإخراج المسرحي.
عمل بعد تخرجه مديرا للمركز الثقافي البلدي في مدينة الناصرة، فيما ألّف وأخرج الكثير من المسرحيات، كما ترجم مختارات من أعمال برتولد بريخت من الألمانية إلى العربية ونشرها في مجلتي الاتحاد والجديد.
ومن أبرز إنتاجه المسرحية مسرحية «رجال في الشمس» عام 1979. في عكا، عن رواية الروائي الفلسطيني غسان كنفاني، وفي عام 1982 خرج من الناصرة بمسرحية «الطفل الضائع»، تلاها في عام 1983. ومن حيفا، مسرحية «محطة اسمها بيروت»، فيما كان له عام 1986. مسرحية «جيفارا أو دولة الشمس» المترجمة عن مسرحية للكاتب الألماني فولكر براون، بينما أنتج أغاني غجرية مترجمة عن الألمانية بعنوان «أفعى الحب»، عام 1983، كما كان له الكثير من الأعمال المسرحية والمؤلفات في تسعينيات القرن الماضي من أبرزها «سرحان والسنيورة»، ومع دخول الألفية الثالثة كان له المزيد من الأعمال.
ومؤخرا نجحَ مصاروة في إنجاز أهم أعماله ألا وهو «راشيل كوري» ذلك العمل المسرحي الذي أبدعَ فيه إلى جانب الممثلة المتميزة لنا زريق، ومعا نجحا في ترجمة العمل وفي تقديم واحدة من روائع المسرح الفلسطيني.
وكانت أولى تجارب مصاروة التمثيلية حين كان في الصف الثامن الابتدائي (14 عاما)، حين التحق بمدرسة زراعية، طلب منه معلمه فيها الانضمام لحلقة درامية لتقديم المسرح، وبعدها التحق بكلية المسرح في إحدى مناطق الداخل الفلسطيني المحتل، قبل الحصول، كما يقول على منحة من الحزب الشيوعي لدراسة المسرح في ألمانيا الشرقية، وهي الدراسة التي أنهاها في عام 1977. مشيرا إلى أن «رجال في الشمس» كان أول أعماله، وشهد نجاحا جماهيريا كبيرا لا يزال يتذكره كل من شاهد العمل.
وأعرب مصاروة الذي عبر عن سعادته باختياره شخصية فلسطين الثقافية لعام 2015، قائلا بأن «الطريق لم تكن سهلة، ليس لي فقط، بل لزملائي في تلك الفترة، أي في نهاية سبعينات القرن الماضي، حيث كانت الإمكانات المادية شحيحة جدا، ولكن رغم ذلك استطعنا، مع إمكانات محدودة أن ننجز الكثير من النجاحات.. وحسب اعتقادي فإن الفضل يعود في ذلك للجمهور الذي كان مسيّسا ومثقفا، ما ساعد كثيرا في العملية الفنية التي خضتها أنا وأبناء جيلي».
وأضاف: «نعم كانت هناك نجاحات وورود، لكن بالمقابل كانت هناك إخفاقات وإحباطات وأشواك وأحجار، وكل المصطلحات التي تندرج في هذا الإطار، لكن التصميم والإرادة جعلتنا نمارس الفن بنهم وعزيمة ونصل إلى تحقيقِ إنجازاتٍ تُسجل. والفضل الكبير يعود للعمل الجماعي الذي ميّز أبناء جيلنا».
ومن أشهر مقولات مصاروة: في العمل الفني لا يوجد حظ، إما أن يكون جيدا أو سيئا، من الممكن أحيانا أن تكون الاختيارات السليمة هي التي تساعد على النجاح، فاختياري في عام 1977 لمسرحية «رجال في الشمس» كانت اختيارا صائبا وضروريا، لهذا السبب كان هناك نجاح هائل للمسرحية.. على المخرج المسرحي أن يعرف كيف يختار العمل المسرحي في الوقت المحدد وفي الزمن المحدد، وهذا هو سر النجاح حسب اعتقادي، ولا تكون الاختيارات عشوائية بل مدروسة.
وفي حديث صحافي سابق معه، وصف مصاروة عمله المسرحي الأخير «راشيل كوري» بأنه «من أهم وأفضل الأعمال، حيث تطورت علاقة خاصة بيني وبين النص وبيني وبين الشخصية، وعندما تسأل أي الفنان عن أفضل عمل، تكون الإجابة صعبة جدا، فكل عمل له ميزته، وله وجبة حب خاصة من قبل الفنان».. وتابع: بخصوص المميز في العمل فأعتقد أنه يشير إلى الشخصية غير العادية، راشيل إنسانة حقيقية استشهدت وضحّت من أجل الشعب الفلسطيني وقتلت تحت عجلات البلدوزر وهي تحاول أن تمنع الجنود الإسرائيليين من هدم بيت فلسطيني في قطاع غزة. والمسرحية كانت مبنية على مذكراتها، وكانت الصعوبة أن نصل إلى ما قصدت به راشيل، ماذا كان في قلبها وذهنها؟ وماذا كانت تقصد من وراء الكلمات؟



الوطن في التجارب السردية السعودية

الوطن في التجارب السردية السعودية
TT

الوطن في التجارب السردية السعودية

الوطن في التجارب السردية السعودية

حكاية الإنسان على الأرض ومسيرته في الحياةِ تتعددُ باختلافِ الألسنِ وتباينِ الثقافاتِ، وتتحدُ بالمقابلِ في لغةٍ كونيةٍ جامعةٍ عندَ تعبيرها عنْ مفهومِ الأوطانِ. فالوطنُ حقيقةٌ فطريةٌ، ونزعةُ ذاتية اليقينِ، تتماهى فيها الأنا بموضوعها بما يشكلُ هويتها ويرسمُ مسارها، فيصبحُ الوطنُ هوَ جسد الإنسانِ الكبيرِ الممتدِ باتساعِ حدودهِ. وللسردِ تقنيتهُ الخاصة وطرقه المختلفة في التعبير عن مشاعر القاص الحميمية وقيمه النبيلة التي يرفعها عالياً ويحتفي بها كما هو نهجه اتجاه وطنه. فتارة، تُبرق العواطف على شكل غنائية تنتشي بها حروفه وتتضوع بها جمله وتتشرب بها حكاياته. وأخرى، تنكشف العواطف مسرودة بكثير من التفاصيل في نسيج من الحكايات التي هيضها الحنين إلى زمن ماضٍ في بقعة كانت مسرحاً لتلك العواطف وحاضنة لها.

من جانب آخر، نلحظ أن السرد، خصوصاً في جنس القصة القصيرة، وعند تناوله لموضوع الوطن، يفضل أن يختار - في الغالب - بين ثلاث طرق عند استعراضه لعواطفه: الوطن مختزلاً في مكان، أو الوطن من خلال أحد رموزه وشعاراته، والثالث عندما يوظف القاص تقنية «التجريد» ليتناوله من زاوية الوجدان. وفي جميع طرق التناول، نجد أن السرد بتعدد أساليبه، يستعير من الشعر بعض أدواته مثل الكناية والمجاز وأحياناً الاستعارة، ليخلق من ذلك صوراً شعريةً يتقارب فيها مع جنس القصيدة بصيغتها النثرية.

قبضة من تراب، نثار الذهب:

في النموذج الأول «الوطن برمزية المكان» يطالعنا تركي الرويثي في قصته «طمية»، بإحدى تقنيات السرد بتدوير الزوايا لخلق منظور مختلف لرؤية الموضوع. ففي قصته، يتأنسن المكان، ويكتسب صفة الأنثى، ويصبح الجبل كائناً أسطورياً، واعياً متكلماً: «أنا جبل، أنثى جبل، هل قلت لكم هذا من قبل، ذاكرتي أكلتها الأيام والليالي، هل قرأتم قصتي؟». بل يمتلك الجبل المقدرة على الحركة والترحال في مساحة شاسعة من الجغرافيا: «حدث أن جبلاً يقال لها (طمية)، تمردت وسارت في ليلة ظلماء... فرأت جبلاً أبيض يقال له (قطن) يختلف عن جبال منطقتها السوداء». يبوح الجبل بعواطفه متحدثاً عن نفسه وعن مشاعر من سكن بجواره بصيغة سردية مبتكرة: «إني أنتظركم، فتعالوا بسرعة، عن أي سرعة أتحدث، من مضى على مكوثها قرون، بأي قياس تقاس السرعة عندها؟ هذه الأمور نسبية، السرعة والحقيقة وكل المحسوسات والمعارف، اسألوني فأنا التي أعرف، لا يهم، المهم أن تأتوا وتحيوني، لا تنسوا».

ما يحاول القاص إثارته من خلال أسطرة المكان، أن يعبر عما يجيش في وجدان الجماعة ومخيالها إزاء نظرتها وحفاوتها بعظمة الطبيعة الحاضنة للإنسان والمترفقة به، وباعتبار أن ذلك اللاوعي الجماعي، بمثابة المستودع الذي تتوارثه الأجيال، ويشتمل على صور مترابطة وزخارف رمزية كثيرة تكمن لا شعورياً في أنفسهم، كما يراه عالم النفس يونغ.

سليل النخلة، حفيد الوطن:

أما ناصر الحسن في قصته «تباريح الصرام» - كنموذج لتوظيف الرمز الوطني - فهو يتناول مفهوم عشق الوطن من خلال أحد رموزه التي شكلت جزءاً من علامته وشعاره، أي النخلة، باعتبارها رمزاً وطنياً بامتياز، وذلك من خلال توظيفه لها في حكاية. لون من التذكير بالماضي الذي هو إحدى مهمات الكاتب «للتذكير بمجد الماضي من أجل الإبحار نحو المستقبل»، كما يقول ويليام فوكنر.

ناصر الحسن يصف العلاقة بالنخلة بصيغة سردية - شاعرية في نصه: «جذبه حفيف السعف وهو يختلط مع أصوات البلابل كمقطوعة كونية، شنفت أسماعه وهو يلف (كرّ) النخل حول خصره النحيل، استعداداً لصعوده، رفع رأسه مبتسماً ينظر إلى هام النخلة كمن يستأذن سيدة نبيلة للرقص، يتأكد من ربط الحبل جيداً، يقبض عليه بسواعد قروية جافة كتربة قبر منسي، ثم يضع رجله على جذعها المموج الدافئ بحكايا الأجداد، أخذ في الصعود وهو يستذكر موطئ قدم أبيه وجده، وفي كل مرة يباعد (الكر) عن جذع النخلة، يلتحم معها كمن يريد ضم معشوقته لأول مرة، يتنشق عبق تمرها يخطو في مدارجها وصوته يبح عن همهمة خفيضة، يبتعد عن الأرض فيصغر الحقل في عينيه كطائر مسافر، يقترب من نصفها فتهرب العصافير من سعفاتها، يتردد صدى الذكريات في رأسه: النخلة أمنا يا ولدي، تغذينا وتطعمنا صيفاً وشتاءً، وإن كنت باراً بها، فاحرص على رعايتها كحرصك على عينيك».

الهوية... المجرد والحسي:

قد لا يكون الإيحاء بالمعنى ميزة سردية بشكل مطلق، لكن عندما يستعير السرد هذه الأداة من الشعر، فهو في حقيقة منزعه محاولةً لاستطالة أفق انتظار القارئ للمعنى المراد إيصاله. ففي القصة القصيرة بشكل خاص، تقوم هذه التقنية أو الأداة بمناورة المتلقي ولا تمنحه المعنى بسهولة؛ كحبل طويل في نفق مظلم يمسك به القارئ حتى نهايته للوصول إلى المحطة التي استدرج فيها القاص قارئه. بينما تقنية الإيحاء بالمعنى في القصيدة الكلاسيكية لا تتعدى نطاق البيتين حتى تتضح قصدية الشاعر.

فمحمد الراشدي في قصته «بطاقة هوية» - كنموذج ثالث - يوظف هذه التقنية بمهارة شديدة، وينوع على مفهوم «الهوية الوطنية» باصطناع مفارقات لفظية وحبكات درامية مختلفة. يستعرض فيها مدلولات المعنى وفق أحداث يمتزج فيها الخيالي بالواقعي، مشكلاً مشاهد فانتازية. فالقاص، يستعرض في سرده عمق وتجذر الهوية الوطنية في الوجدان، وينزلها من مفهومها «التجريدي» إلى الحسي الملموس.

الحكاية تبتدأ بهذا المشهد: «اكتشفت ذلك أول مرة مصادفة؛ حين ناولني موظف الأحوال المدنية بطاقة الهوية الجديدة. كانت أنيقة وصقيله وبياناتها مخطوطة بحروف وأرقام واضحة. راجعت البيانات على عجل وحين تأكدت من صحة المكتوب فيها، قمت أحاول إدخالها في الجيب المخصص لها من المحفظة. كان مقاسها أكبر قليلاً من مقاس جيب المحفظة، وعندما حاولت أن أضغط طرفها قليلاً لأسلكها عنوة في الجيب؛ انغرس الطرف المرهف في إبهامي حتى نضحت قطرة دم صغيرة على حافة البطاقة. عرفت لحظتها أن بطاقة الهوية الجديدة تلك لا تشبه بقية البطاقات في محفظتي؛ فهي إلى جانب أنها لامعة جداً، وأنيقة جداً؛ هي كذلك مرهفة الحواف جداً إلى الحد الذي يمكن معه أن تجرح وتنهر الدم...».

إذن، هذا هو مشهد التهيئة والمدخل إلى المفهوم العميق للهوية باعتبارها عاطفة فطرية سامية غالباً، ولها جانبها الآيديولوجي الذي يجب التعاطي معه بحذر. ولعل ذلك المعنى يتضح بتقدمنا في قراءة النص: «كان استخدامي لتلك (الْهَوَيَةْ) كما ينطق الناس اسمها مختصراً هنا - في مواضع القطع والبتر والجرح أكثر بكثير من استخدامها فيما أعدت لأجله، وفي المرات القليلة التي كان فيها شرطة نقاط التفتيش يطلبون فيها أوراقي الرسمية؛ كنت أضحك في نفسي حين أتخيل أنهم سيعتقلونني بتهمة حيازة سلاح أبيض وإشهاره أمام رجال الأمن».

وفي الجزء الأخير من الحكاية، يعود الخطاب السردي إلى التجريد في المفهوم مجدداً؛ ويكون فضاؤه هذه المرة هو الحلم، حيث المساحة التي تمهر فيها المخيلة وتنشط للبوح: «وفي المساء كنت أراني في المنامات دائماً في حشود من البشر تحتدم بينهم طبول مجنونة الإيقاع. وهويتي في المنام تستحيل خنجراً طويلاً معقوفاً وفاخراً... كنت أشق الجموع... أرقص بينهم العرضة وخنجري يبرق كالشهاب فوق هامتي. وفي المنام أيضاً كنت أنازل بخنجري غرباء أراهم في الحلم أشراراً تتمزق أوصالهم بحد هويتي».

رؤية قيد الاختبار

بهذه النماذج الثلاث، يمكننا الوصول إلى استنتاج واضح فيما يخص الأسلوب السردي في القصص القصيرة عند تناوله لموضوع الوطن؛ فهو يصبح عاطفياً، شاعرياً، تجمح فيه العواطف بمحرضات الحنين إلى زمان «طوباوي»، وتتقاطع مع أمكنة أثيرة مكونة حدثاً ورؤية متخيلة؛ لوصف مشاعر الذات إزاء موضوع تُعلي من شأنه ويسكن عميقاً في حناياها؛ فتترجمه في جنس أدبي يمتزج فيه السردي بالشعري. فالتناول بوحي الحنين «نوستالجيا» كان مدلوله في السابق «مرضاً منغمساً في الماضي»، بينما ينظر إليه اليوم «باعتباره عاطفة مبهجة تعيد صياغة المستقبل»، كما ترى ذلك المؤرخة في تاريخ الطب أغنس أرنولد فوستر.

وفيما عدا النماذج السابقة، يتم تناول الموضوع الوطني في القصص القصيرة السعودية بطريقة غير مباشرة، وعلى شكل إشارات تبرز التحولات الجذرية في حياة الفرد السعودي، وحقبة دخوله في العصرنة والحداثة بفعل خطط التنمية والإنجازات الكبرى المتحققة، وهو تعبير عن الامتنان والشعور بالعرفان، وتطلعات لاستشراف المستقبل. وبهذا، يكون القاص، كما هو الشاعر في نظمه، قد عبر عن مجتمعه بأسره؛ لأن القصة لا تكتفي بسرد مغامرات أفراد فحسب، إنما سرد «المجموع الذي ندعوه (مجتمعاً)، وهو لا يتألف من أناس، بل من كل ما هو مادي وثقافي»، كما يقول ميشيل بوتور.

كاتب سعودي