سعيد بن سلطان البوسعيدي: استراتيجية القطاع الثقافي تنطلق من رؤية عُمان 2040

وكيل وزارة الثقافة يتحدث لـ«الشرق الأوسط» عن مشروعات تترجم الأهداف والتوجهات

سعيد بن سلطان البوسعيدي
سعيد بن سلطان البوسعيدي
TT

سعيد بن سلطان البوسعيدي: استراتيجية القطاع الثقافي تنطلق من رؤية عُمان 2040

سعيد بن سلطان البوسعيدي
سعيد بن سلطان البوسعيدي

أكد وكيل وزارة الثقافة والرياضة والشباب في سلطنة عُمان، سعيد بن سلطان البوسعيدي، أن الخطة التنفيذية للاستراتيجية الثقافيّة 2021 - 2040 التي اعتمدها الشهر الماضي، السيّد ذي يزن بن هيثم آل سعيد وزير الثقافة والرياضة والشباب، تسعى لتوحيد الجهود لتحقيق التنمية الثقافية وتحويل المشهد الثقافي العماني إلى واجهة للإبداع والتنوع الثقافي، ما يعكس الوجه الحضاري للسلطنة من خلال منظومة ثقافية متكاملة مصدّرة للإبداع ومنفتحة على الثقافات الإنسانية الأخرى.
«الشرق الأوسط» أجرت الحوار التالي مع سعيد بن سلطان البوسعيدي عبر التواصل الإلكتروني.

(*) هلّ لكم أن تحدثونا عن الخطة التنفيذية للاستراتيجية الثقافيّة للسلطنة (2021 - 2040) التي اعتمدها السيّد ذي يزن بن هيثم آل سعيد وزير الثقافة والرياضة والشباب؟
- تمثل الاستراتيجية الثقافية أحد المشاريع التي سعت الوزارة إلى تنفيذها؛ وهي تتكون من جانبين: الأول يتمثل في الإطار التنظيمي الخاص بمحددات العمل الثقافي وأهدافه وتوجهاته؛ والبعد الآخر يتمثل في الخطة التنفيذية، والتي هي محور سؤالكم.
تعد الخطة التنفيذية المنفّذ لمسار الاستراتيجية، وهي - أي الخطة - تتخذ أبعاداً ثقافية مختلفة؛ سواء كانت ضمن النطاق المحلي أو الدولي. ووفق منظومة عمل الاستراتيجيّة؛ ثمة عشرة مشروعات ثقافية تترجم أهداف وتوجهات الاستراتيجية، وكل مشروع يتضمن مجموعة من البرامج والفعاليات وفقاً لأهداف وتوجهات المشروع.
(*) هل نذكر مثالاً؟
- نعم، نذكر مثلاً مشروع «روابط»، وهو مشروع يختص بالمشاركات الثقافية الخارجية وإقامة علاقات ثقافية دولية، والذي ينفذ مجموعة من البرامج والفعاليات الثقافية كالأسابيع الثقافية والمهرجانات الثقافية والفنية والشراكات التي تتم مع المؤسسات الثقافية العربية والدولية. وبالتالي فإن كل ما يتعلق بالبرامج أو الشراكات الخارجية ينطلق من خلال هذا المشروع. الأمر نفسه لباقي المشروعات التي يختصّ كلّ منها بتحقيق مجموعة من أهداف الاستراتيجيّة الثقافيّة للعشرين سنة المقبلة.

- منهج تشاركي
(*) ماذا تضيف هذه الخطة الثقافية في توحيد الجهود الوطنية لتحويل المشهد الثقافي العماني إلى واجهة للإبداع والتنوع الثقافي؟
- لا بد من الإشارة أولاً إلى أن العمل على إعداد استراتيجية شاملة للقطاع الثقافي انطلق بشكل أساسي من التوجهات الاستراتيجية لرؤية عمان 2040، وتأخذ في الاعتبار أهمية وجود منهجية عمل ثقافي واضحة تتواءم مع التطلعات الوطنية لتحقيق أهداف رؤية عمان 2040. وعليه، تكوّن هذه الاستراتيجيّة الإطار الذي ينظّم العمل الثقافي في المرحلة المقبلة؛ والمسار التنموي الذي يحدد ملامح المشهد الثقافي العماني.
من هذا المنطلق؛ تبنت الوزارة إعداد هذه الاستراتيجية بمنهج تشاركي داخل المؤسسة وخارجها مع كثير من المؤسسات الحكومية؛ كجامعة السلطان قابوس، والنادي الثقافي، ومؤسسات المجتمع المدني كالجمعية العمانية للكتاب والأدباء، والمبادرات الثقافية، والمكتبات والمراكز الثقافية الأهلية، والجمعيات الفنية، إضافة إلى المؤسسات الخاصة كمؤسسة بيت الزبير، وبعض دور النشر العمانية، فضلاً عن الاستبانات التي وزعت على مختلف شرائح المجتمع. كل ذلك من أجل رصد المشهد الثقافي العماني بواقعه وتطلعاته بمختلف المؤسسات المعنية بالعمل الثقافي. وبذلك جاءت الخطة التنفيذية لتحقق تلك التطلعات الخاصة بالمشهد الثقافي باتخاذها «الإبداع والتطوير الثقافي» محوراً رئيسياً في الاستراتيجية وفق منظومة عمل تحقق التمكين والتجديد والإبداع والابتكار والرعاية والدعم؛ وهي العناصر التي تعزز العمل الثقافي.
(*) ألا ترون أن المدى الزمني للخطة (20 عاماً) طويل نسبياً لتحقيق هذه الاستراتيجية؟
- صياغة الاستراتيجية الثقافية جاءت لتتواءم مع أهداف رؤية عمان 2040، لذلك أخذت هذا البعد الزمني. وما يميز هذه الاستراتيجية أنها مرنة تستوعب التطوير والتعديل. يمكن رسم خطة تنفيذية لمشاريع قصيرة الأمد ومشاريع طويلة الأمد ترتكز على التوجيهات والأهداف الخاصة بالاستراتيجية.
(*) كيف تترجمون هذه الأهداف؟
- لترجمة الأهداف والتوجهات الاستراتيجية للخطة؛ فإن الخطة التنفيذية تصوغ مشروعات استراتيجية متعددة تتوافق مع المرحلة المستقبلية للقطاع وتتكامل مع الأهداف التي وضعتها الاستراتيجية، كما أن هذه المشروعات ستدار من قبل إدارة منهجية وفق مؤشرات أداء تسهم في المتابعة والتنفيذ والتقييم، ومن خلال إنشاء «لجنة استشارية» للإشراف على مكونات الخطة الاستراتيجية وتعيين مديرين للمشروعات لمتابعة التنفيذ وسير الأداء. وستخضع المشروعات لنظام متابعة وتقييم من قبل المديريّة المعنية بالوزارة وفقاً للمؤشرات المحددة للمشروعات. هذا التقييم سيتخذ إطاراً زمنياً سنوياً وكذلك كل خمس سنوات.
(*) تقول إن الخطة تعتمد منهجاً تشاركياً بين الوزارة والمؤسسات الثقافية والمهتمّين بالشأن الثقافي بالسلطنة... كيف يمكن تحقيق هذه الشراكة؟
- الاستراتيجية بنيت في صياغتها على هذه الشراكة ضمن المرحلة الأولى الخاصة بإعدادها، ولذلك فإن الشراكة بين الوزارة والمؤسسات الثقافية قائمة ضمن هذا السياق وحاضرة كذلك في مرحلة التنفيذ، حيث إن المؤسسات الثقافية هي سواعد الوزارة في تنفيذ برامجها المستقبلية.
هذه الشراكة كانت حاضرة في كثير من المهرجانات والمعارض الثقافية، فحينما نتحدث عن المهرجانات المسرحية على سبيل المثال، فالجمعية العمانية للمسرح حاضرة، وينطبق الحال على المهرجانات السينمائية التي كانت تدار من قبل الجمعية العمانية للسينما في ذلك الوقت وتموّل من قبل الوزارة، وينطبق الأمر أيضاً على المعارض والمهرجانات الثقافية.

- وجهة ثقافية
(*) لاحظنا أن الخطة الثقافية تتحدث عن رؤية بأن تصبح «عُمان وجهة ثقافية رائدة بهوية راسخة»... ما الذي تنوي السلطنة القيام به لتحقيق هذه الرؤية، في أن تكون وجهة ثقافية في المنطقة؟
- تتميز سلطنة عمان بإرث ثقافي، وتاريخ عميق ينحو نحو مرحلة مضيئة للمشهد الثقافي العماني، ويعدّ مرتكزاً لمشاريع ثقافية ترسّخ مبادئ الهوية الثقافية العمانية، وتبرز امتداد الإبداع الثقافي للإنسان العماني على مر العصور. وتمثل الثقافة بمجالاتها المتعددة أحد القطاعات الحيوية التي تحظى باهتمام كبير من قبل الحكومة وكذلك من مختلف شرائح المجتمع. وتسعى وزارة الثقافة والرياضة والشباب من خلال قطاع الثقافة إلى تحقيق تنمية ثقافية مستدامة يتجلى فيها النمو والتطور والتجديد كعناصر أساسية في تحول المشهد الثقافي العماني إلى واجهة للإبداع والتنوع الثقافي. وهذا الطموح في تحقيق هذا التحول يتطلب وجود عمل ممنهج واستراتيجية واضحة وواقعية في تنفيذها من خلال منظومة برامج ثقافية متكاملة مصدّرة للإبداع ومنفتحة على الثقافات الإنسانية الأخرى. ولذلك جاءت هذه الرؤية «عمان وجهة ثقافية رائدة بهوية راسخة» لتعكس هذا الطموح المؤسسي للوزارة، بحيث يكون هناك اشتغال حقيقي على المستوى الداخلي من خلال مشروعات عدة تعمل وفق منظومة متجانسة على المستويين المحلي والخارجي.
(*) هل تذكر أمثلة لهذه المشاريع؟
- نعم، نذكر منها مشروع «تكوين» الذي يرتبط بالبُنى والمرافق الثقافية في مختلف محافظات السلطنة، وبخط متوازٍ هناك مشروع «زوايا» الذي يختص بتهيئة البيئة المحفزة للإبداع الثقافي من خلال الملتقيات والمعارض والمهرجانات الثقافية، إضافة إلى المسابقات والجوائز الثقافية التي يقابلها مشروع «روابط» الذي يُعنى بالبعد الخارجي، وينطلق في ذلك من هدف رئيسي ضمن أهداف الاستراتيجية وهو التواصل الثقافي.
(*) تناولت الاستراتيجية 11 مجالاً يعكس النشاط الثقافي في السلطنة، بمحاور ترى أنها تتواءم مع التحوّلات العالميّة، ما هذه المحاور؟
- ركزنا على أن تكون المجالات مواكبة للواقع العالمي الذي يعيشه القطاع الثقافي، لذلك فإن المتتبع للاستراتيجية الثقافية يجد كثيراً من المجالات الثقافية التي أبرزتها هذه الاستراتيجية، مثل: الإبداع والتطوير الثقافي والثقافة والمجتمع، والصناعات الإبداعية الثقافية، والهوية الثقافية، والتنمية الثقافية، واللوائح والتشريعات الثقافية، والتواصل الثقافي.
كما أنه وحرصاً على تعظيم الاستفادة من كل مجال؛ أتت المجالات منبثقة عن المحاور التي بنيت عليها الاستراتيجية، فقد تم وضع تحليل منهجي لهذه المجالات وخلق أهداف استراتيجية لكل منها للمساهمة في تعزيز تلك المجالات وتنويع مفرداتها، كما أنها يمكن أن تستوعب المجالات الأخرى الخاصة بالاستراتيجية.

- التنمية الثقافية
(*) تحدثت وزارة الثقافة حين تدشين الخطة، عن عزمها «تحقيق تنمية ثقافية مستدامة يتجلى فيها النمو والتطور والتجديد كعناصر أساسية في تحول المشهد الثقافي العماني» وعن الطموح في «تحقيق هذا التحول وعياً فكرياً ومعرفياً مجتمعياً قادراً على التعامل مع التحولات التي يشهدها العالم»... ما أسس هذا التحوّل الذي تنشدون الوصول إليه؟
- التنمية الثقافية تعتمد اعتماداً كلياً على المجتمع، فإذا تم تمكين المجتمع وتهيئة الظروف المناسبة، فإن نتائج التنمية ستكون جلية وواضحة، ولذلك فان الأسس التي ستبنى عليها التنمية ستكون من خلال تمكين المعرفة بمختلف وسائلها، وتوفير البيئة الإبداعية المناسبة، بالإضافة إلى رفع كفاءة المتعاملين مع الشأن الثقافي بالمؤسسات الثقافية، وهذا سيسهم بشكل كبير في خلق حراك تنموي وثقافي يتكامل مع توفير مرافق ثقافية حاضنة للبرامج والأنشطة الثقافية بمختلف محافظات السلطنة.
ولذلك فإن التمكين الحقيقي للمجتمع من خلال توفير مقومات التنمية الثقافية التي تمت الإشارة إليها سيسهم في خلق وعي معرفي بمنظور نقدي بناء يستطيع تقييم المشهد، وفقاً لمنظور معرفي حقيقي يواكب التحول ويحسن التعامل معها.
(*) تؤكدون كذلك الحرص على بناء «منظومة ثقافية متكاملة مصدرة للإبداع ومنفتحة على الثقافات الإنسانية الأخرى»، إلى أي مدى تقدرون أهمية الانفتاح على الثقافات في السلطنة خصوصاً؟
- الجميع يعلم بأن الإرث الحضاري والثقافي للسلطنة قد انعكس على فكر الإنسان العماني بشكل إيجابي وبناء، وعلى انفتاحه بشكل واضح على مختلف الثقافات، والتعامل بإيجابية مع التنوع الثقافي المحيط.
ولذلك فإن الاستراتيجية الثقافية قد تبنّت في توجهاتها الاستراتيجية رفع مستوى التبادل الثقافي مع مختلف دول العالم انطلاقاً من مبدأ تعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي الذي نصت عليه الاتفاقيات الدولية، التي تأتي في مقدمتها اتفاقية حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي لعام 2005م باليونسكو. ولذلك فإن تقدير هذا الانفتاح ليس بجديد على الواقع الثقافي بالسلطنة، خصوصاً أن السلطنة تعد من أوائل الدول التي انضمت إلى هذه الاتفاقية، بالإضافة إلى التبادل الثقافي الكبير الذي كان حاضراً في المشهد الثقافي خلال المرحلة الماضية. والاستراتيجية التي تم اعتمادها مؤخراً جاءت لتعزيز هذا الجانب والتأكيد على ثقة السلطنة بمبدأ التبادل والحوار الفكري بين الحضارات والثقافات المختلفة التي تأتي في إطار تصدير الإبداع والانفتاح عليه.
(*) هل لديكم الموارد الكافية لتنفيذ هذه الاستراتيجية؟ وإلى أي مدى تعولون على القطاع الخاص والمبادرات الأهلية في دعم هذه المبادرة ما دمتم تعتمدون منهجاً تشاركياً كما تنص الخطة؟
- الاستراتيجية طويلة المدى، وبالتالي فإن كلفة المشاريع الاستراتيجية بطبيعة الحال تكون مرتفعة التكلفة؛ ولكنها مستدامة. وما يحسب للاستراتيجية الثقافية أنها جاءت مرنة، بحيث يمكن أن تخضع للمراجعات المستمرة ومواءمة أهدافها مع الإمكانات والظروف المختلفة، وبالتالي ننظر إلى الموارد اللازمة للتنفيذ على أنها تحدٍ يمكن التعامل معه بالشكل الذي يمكّن السلطنة من تحقيق أهدافها الاستراتيجية في القطاع الثقافي بالشكل المأمول.
أما فيما يخص دعم القطاع الخاص في بعض الجوانب، فإننا ندرك ونقدر دور هذا القطاع في دعم كثير من المبادرات الثقافية والأهلية، ونعتقد بأن دوره تكامليّ مع القطاعات الحكومية، حيث لمسنا مؤخراً كثيراً من التجاوب فيما يخص دعم القطاع الثقافي، والذي عادة ما يكون جزئياً؛ ما يجعلنا نؤمن بأن الشراكة والتعاون مبدأ لتحقيق الأهداف.
(*) تهدف الخطة لتحقيق «التنمية الثقافية»، كيف يمكن تعزيز منظومة الاستثمار في الأصول الثقافية؟
- لدينا في وزارة الثقافية والرياضة والشباب برنامج لتعزيز منظومة الاستثمار في القطاع الثقافي؛ حيث سيبدأ العمل على إعداد منظومة تشريعية محفزة وجاذبة للاستثمار الثقافي في السلطنة، مع تعزيز منظومة الإجراءات المرنة التي نهدف من خلالها لأن يكون للقطاع الثقافي دور محوري في تحقيق الأهداف الوطنية على الصعيد الاستثماري.
وفي إطار الحديث عن الاستثمار فإننا في الوزارة سنجعل من استثمار الأصول جزءاً من منظومة استثمار متكاملة تشمل مختلف مجالات الإبداع الثقافي ولا تكون محصورة فقط في الأصول الثقافية، وبالتالي سيتم تحقيق التنمية الثقافية على أصعدة عدّة من بينها الصناعات الثقافية الإبداعية، والعمل على تحفيز المبادرات الاستثمارية المختلفة وتبني كل ما هو مناسب لخدمة الأهداف التنموية للقطاع. ومن هنا يمكن القول إن إعداد منظومة استثمار متكاملة للقطاع الثقافي وبالتعاون مع الجهات ذات الاختصاص سيكون هو المعزز لتحقيق هذه الأهداف.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.