«مرحبا أيها الغريب»... كيفية التواصل في عالم مفكك

ول بكنغهام يتأمل في متع وآلام العالم أثناء الجائحة

الضيافة تعلب دوراً مهماً في المجتمع العربي
الضيافة تعلب دوراً مهماً في المجتمع العربي
TT

«مرحبا أيها الغريب»... كيفية التواصل في عالم مفكك

الضيافة تعلب دوراً مهماً في المجتمع العربي
الضيافة تعلب دوراً مهماً في المجتمع العربي

إحدى أعمق صور الفقدان التي عانى الكثير منا أثناء الجائحة – لا سيما أولئك الذين كانوا محظوظين إلى درجة أنهم لم يفقدوا فرداً من أسرهم – كان الانقطاع عن الناس الذين لم نكن قريبين منهم. أحن إلى ضجيج المؤتمرات الأكاديمية، للأحاديث التي تدور أثناء استراحات القهوة مع أناس أراهم مرة في العمر. لقد تعلمنا من إدراك مدى ما نجنيه من قرب الناس الذين لا نحبهم ولكن حضورهم يمنحنا راحة وانتعاشاً.
في كتابه «مرحباً أيها الغريب» يقدم ول بكنغهام، وهو أكاديمي ومؤلف مشاء، استكشافاً متألقاً ومؤثراً في الغالب لما يعنيه الاتصال بالغرباء. نقطة انطلاقه الألم. يطارد كتابه موت زوجته (إلي) بسبب السرطان. يقول إنه بينما كان ينتظر مواساة أصدقائه في أعقاب تلك الحادثة «دهشت بالقدر الذي احتجت فيه إلى الغرباء – الناس الذين لم يعرفوا (إلي)، الذين لم يعرفوا شيئاً عن خصوصية معاناتي».
حتى قبل وفاة زوجته، أمضى بكنغهام حياته بين غرباء. أثناء نموه كان البيت الديني لوالده مفتوحاً للمصلين وحشد من المتسكعين والباحثين عن مأوى. وفي كبره سافر على نطاق واسع وأمضى فترات طويلة يعمل ويستكشف ويتعلم في إندونيسيا والصين وميانمار وأماكن أخرى. بل إنه بعد اكتشاف المرض لدى زوجته استمر في السفر معلماً في تشينغدو ولم يعد إلا بعد أن اتضح أن المرض في مرحلته النهائية.
يتجذر «مرحباً أيها الغريب» في تقليد عريق من التفكير حول ما يعنيه العيش في عالم نحاط فيه بالغرباء، ونحتاج مع ذلك إلى متعة البيت وراحته. تجربة بكنغهام الأنثروبولوجية من حيث هو كثير التجوال تمد الكتاب بالمعلومات بينما يتكئ العمل على معرفة المؤلف بالتواريخ والآداب والأساطير القديمة. يشكل هوميروس حضوراً دائماً في الكتاب وتمثل متاعب أوديسيوس في العودة إلى وطنه – واتكاؤه المشوب بالصعوبات على الغرباء لكي يستضيفوه على الطريق – متاعبنا بمعنى ما. وفي حين يأخذ بكنغهام في الاعتبار تاريخ الخوف من الأجانب والشك تجاههم، فإنه يؤكد التاريخ المقابل لـ«الفيلوكسينيا»، وهي كلمة يونانية في الإنجيل تحمل معنى حب الاستطلاع تجاه أولئك الذين لا يشبهوننا والرغبة في الاتصال بهم.
من المؤكد أن «الفيلوكسينيا» جديرة بالاحتفاء. للإنسان تاريخ ثري من الاستضافة والترحيب ومد العون لأولئك الذين ليسوا من الأقارب. بكنغهام نفسه جرب شخصياً المتع المدوخة والكامنة في الضغط عليه لكي يضع الطعام في يديه ويدعى للإقامة في البيوت حيثما كان، من بلغاريا إلى باكستان. وقد بادل ذلك بمعاملة مثيلة. في السنوات الأولى من زواجه، وبعد أن شعرا بالملل من هدوء حياتهما في برمنغهام، فتح بكنغهام وزوجته شقتهما للعالم من خلال تطبيق «كاوتشسيرفنغ».
«وبينما كان الضيوف يعبرون تخوم منزلنا، جاءوا حاملين هدايا غريبة ورائعة... زجاجات من اليونيكوم اللاذع، المشروب الكحولي الهنغاري ذي المذاق القوي الشبيه بالأدوية، وكتل من الجبن البارميجاني المجلوب من مزارع عائلية في إيطاليا. حلي منزلية. وفي إحدى المرات استضفنا طاهياً سورياً مختصاً بالبانكيك. وضع مقلاته في مطبخنا وأعد وليمة من الكريب والفطائر».
إن بدا كل ذلك نزوعاً اجتماعياً (هو كذلك بالتأكيد بالنسبة لي)، فإنه لا يعني أن «مرحباً أيها الغريب» يدعو إلى الحد الأقصى من الاختلاط الاجتماعي في كل الأوقات. بل إن بكنغهام يعترف أنه أثناء إقامته في قرية إندونيسية، حيث يعيش الناس حياة اجتماعية وعامة كان يحن أحياناً إلى سكينة الفندق وعزلته. كما أنه صارع لكي يتكيف مع الضيافة المهيمنة التي واجهها في باكستان، وفي تعلم كيف يكون «ضيفاً طيباً».
استضافة الغرباء ليست مجرد غيرية. من الممكن أن تكون مسألة التزام، احترام، وكرامة. يتذكر بكنغهام لاجئاً إيرانياً اسمه رحيم، كان بكنغهام معلماً له في مادة حول الكتابة في ليستر. دعاه رحيم إلى بيته لتناول الشاي وفرش له مائدة من المؤكد أنها أضرت بإمكاناته المتواضعة. وفي حين خرج بكنغهام غير مرتاح في البدء لقبوله تلك الوليمة، علم أن «القدرة على القيام بدور المضيف ربما ساعده على بناء شعور بإنسانيته وقوة في وجه عالم بالغ القسوة».
لكن هناك حدود. حتى في أكثر تقاليد الضيافة تعقيداً، كما في الجزيرة العربية ومنغوليا، على الضيف واجبات أيضاً، ليس في قبول الطعام والمأوى بطريقة مناسبة فحسب، وإنما أيضاً في المغادرة في الوقت الصحيح وبالطريقة الصحيحة. ينطوي الانفتاح دائماً على المخاطر والثقة. ليس من المصادفة أن تكون رموز الضيافة مرتبطة غالباً برموز الشرف التي تحكم على أولئك الذين يخالفونها بأسوأ المصائر. ربما يمتد رمز «الكانون» الألباني الشمالي إلى أكثر من 3000 سنة، لكنه لا يزال يفرض سيطرته. يقتضي الشرف أن يتنازل المضيفون عن أسرتهم وأفضل طعامهم لمن يزورونهم. لكن حين يهان ذلك الشرف فإنه يؤدي إلى صراعات دموية قد تمتد لأجيال.
يحتفي كتاب «مرحباً أيها الغريب» بالمدني مثلما يحتفي بالريفي. حتى في المناطق الحضرية من تشينغدو، يجد بكنغهام في نهاية المطاف «بيتاً» ضمن شوارعها المكتظة بالبهجة. في الوقت نفسه، يؤدي الخطو المتسارع للتحول المدني إلى عزل أولئك المتخلفين عنه. أحب بكنغهام الفترة التي قضاها يعمل في يانغون وشارع الثقافة النابض الذي أحاط به في بورما. غير أن جارته التي يفترض أن تشترك معه في الباحة لم تتظاهر فقط بأنه لم يكن موجوداً، بل إن من المحتمل أنها فوق ذلك مسؤولة عن ترك إناء من «أبِن»، وهو نوع من الطين السحري الأسود اللزج، على عتبة بابه. يقر هو بأنها قد تكون محقة في عدم الثقة به، وذلك لأنه كان جزءاً من موجة من النزوع للاختلاف التي كانت تجتاح الحي والتي كانت هي مستَبعَدة عنها.
العيش مع الغرباء ليس سهلاً إذن. مع كل المتع الناجمة عن الاجتماع التي يصفها هذا الكتاب بحيوية، فإنه ليس مجرد مديح لدعوة الناس إلى العشاء.
ومع ذلك، فإن بكنغهام وإن بدا حذراً، فإنه في الواقع لا يناقش الصعوبات المترتبة على التواصل (أونلاين). وفي حين توجد على الشبكة تقاليد ترحيبية (تطبيق «كاوتشسيرفينغ» مثلاً، مع أنه حتى هنا ليس المكون الرقمي سوى البداية) فقد رأيت العديد من الناس يمزقون أنفسهم على شبكات التواصل لكي لا يشعروا أن الإنترنت تستدعي خوفنا من الآخرين أكثر من استدعائها سعينا إليهم.
شعرت أيضاً أن بكنغهام لم يعرف تماماً ما يفعل تجاه الوباء. في النص لا توجد سوى إشارات قليلة إليه، إلى جانب ملاحظة للمؤلف في نهاية الكتاب. هنا يتحدث عن ألوان القلق في حياته في بلد مثل بلغاريا تخرج من الحجْر، قبل أن يؤكد بثقة أن «الأوبئة تأتي وتذهب... فقط إن استطعنا أن نتمسك... بحاجتنا، بعضنا لبعض، عندئذٍ – حين تمر العاصفة - نكون مهيئين لفتح أبوابنا، لاستعادة التواصل، للعناق والمضي في بناء عالم مشترك يستحق العيش فيه».
ذلك شيء يستحق التمسك به فعلاً، لكن كما يعترف المؤلف نفسه، المرض أيضاً إحدى النتائج الحتمية للرغبة الإنسانية في العيش مع الغرباء. وقد أدهشتني الكيفية التي صارت بها إحدى النقاط البارزة في الكتاب – وهي وصف الكاتب لمتع مطاعم الطبخ الحار في تشينغدو – وصفاً أيضاً للحالات المثالية لانتشار الوباء. الطبخ السيشواني متعة مشتركة، فوضوية ومليئة بالضجيج، ظهرت في ثقافة تعلي من شأن الاحتشاد الحميم. الفيروسات تزدهر في أوضاع من التداخل الاجتماعي المفرط كتلك. لقد انتشر «كوفيد» من ووهان، وهي مدينة صينية ضخمة، ووجد بيئته الأكثر ترحيباً في المجتمعات التي يعيش فيها الناس في حشود اجتماعية.
لذلك نعم، الأوبئة تأتي وتذهب، ومع ذلك يظل الإنسان مدمناً للتجمع. لكننا اليوم نُمطَر كما لم يحدث من قبل بمعرفة مفصلة حول الثمن الذي تتقاضاه حياة كتلك. إن كان ثمة نهاية لهذا الوباء، فإن الصدمة التي نتجت عنه ستظل معنا في المستقبل. لذا فإن كان «مرحباً أيها الغريب» تأملاً جميلاً لمتع وآلام العالم الذي يحن الكثيرون منا للعودة إليه، فقد يكون مرثية لعالم سنفتقد لبعض الوقت.

* مراجعة لكتاب «مرحباً أيها الغريب» لـوِل بكنغهام (الغارديان)



الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.