أمين الاتحاد من أجل المتوسط: الاستدامة بمنطقتنا فرصة نمو وثورة مستقبلية خامسة

كامل أكد لـ «الشرق الأوسط» وعي الأعضاء بالمخاطر... وإعجاب واسع بتجارب السعودية والإمارات

السفير ناصر كامل أمين عام الاتحاد من أجل المتوسط
السفير ناصر كامل أمين عام الاتحاد من أجل المتوسط
TT
20

أمين الاتحاد من أجل المتوسط: الاستدامة بمنطقتنا فرصة نمو وثورة مستقبلية خامسة

السفير ناصر كامل أمين عام الاتحاد من أجل المتوسط
السفير ناصر كامل أمين عام الاتحاد من أجل المتوسط

في حدث مهم لمنطقة تحتل سُرّة العالم، اجتمع وزراء 42 دولة أعضاء في «الاتحاد من أجل المتوسط» بالقاهرة قبل أيام، في المؤتمر الوزاري الثاني للاتحاد حول البيئة والعمل المناخي؛ وذلك لإطلاق تقرير شديد الحساسية يتناول السيناريو الكابوسي حال التراخي في بذل الجهد واتخاذ القرارات الحاسمة لمواجهة التغير المناخي بشكل حاسم.
وكان لا بد لـ«الشرق الأوسط» أن تلتقي السفير ناصر كامل، الأمين العام لمنظمة «الاتحاد من أجل المتوسط»؛ وذلك لاستيضاح أحدث ما توصلت إليه الدول الأعضاء، وتقييمه مدى الالتزامات الخاصة بالإقليم، والإضاءة على بعض الخطط قريبة المدى في الاتحاد، وكذلك تأثر الإقليم بجواره القريب والبعيد، إضافة إلى التغيرات التي أسفرت عنها جائحة غيّرت كثيراً من الأوجه في ملامح العالم أجمع.
وكان الحوار التالي...

> دول البحر المتوسط إحدى أكثر المناطق المهددة نتيجة الاحترار، وفي الوقت ذاته هي إحدى المناطق المسؤولة على التلوث. ماذا يمكن أن تفعل المنطقة، سواء على مستوى تقليص الخطر الذاتي أو الضغط على الآخرين لإنقاذ نفسها والعالم؟
- أولاً، هذا التقرير مبني على فرضية عدم اتخاذ الدول الإجراءات اللازمة في مجال التكيف البيئي، ويظهر السيناريو الأسوأ. ويشير إلى عدد من الآثار السلبية على غرار ارتفاع منسوب المياه أو ارتفاع درجات الحرارة بنسبة 20 في المائة أسرع من المتوسط العالمي، والتي تؤثر على منطقة البحر المتوسط بشكل أكبر من غيرها. وهي الأولى من حيث الكثافة السكانية بـ500 مليون نسمة تقطنها.
كل هذه المؤشرات مبنية على فرضية عدم انخراط دولنا في شمال وجنوب المتوسط في اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمواجهة التغير المناخي... وفي تقديري، فإن المنطقة بمجملها منخرطة بشكل جدي في التعاطي مع، أولاً الالتزامات الوطنية وفق الاتفاقية الإطارية لتغير المناخ (اتفاقية باريس)، ومنخرطة إقليمياً. وهي على وعي وإدراك بحجم التحدي وحجم الخطر الذي تواجهه نتيجة لظاهرة التغير المناخي، ومن ثم الإجراءات متخذة بالفعل، وأرى تسارعاً في مدى تبني دول المنطقة جنوباً وشمالاً لهذه الإجراءات، حيث يوجد تعهد أوروبي صريح بما يسمى بالحياد الكربوني عام 2030 وصفر انبعاثات بحلول 2050. وهذا أمر جذري؛ لأن دول المنطقة هي الأكثر إنتاجاً لثاني أكسيد الكربون، وبالتالي الأكثر مساهمة في ظاهرة الاحتباس الحراري عالمياً وإقليمياً. ودول جنوب وشرق المتوسط أيضاً مدركة تماماً ومندمجة في تنفيذ التزاماتها.
> هل من مؤشرات على مثل هذا الوعي؟
- من بين الأدلة على هذا الإدراك والوعي، أن دول المنطقة هي الأعلى عالمياً في استيعاب التمويل المخصص لهذه الأنشطة ذات الأثر البيئي الإيجابي والخاصة بتقليص الانبعاثات والطاقة المتجددة. وهذا هو التقرير الأول من نوعه الذي يتعامل مع قضية التغير المناخي من منظور إقليمي، حيث إن التقارير السابقة تعاملت مع القضية من منظور دولي أو منظور وطني فقط.
> الدراسة الجديدة هي الأكبر من نوعها كما هو واضح... لكن هل هناك تحركاً من الاتحاد من أجل المتوسط بخطط مغرية (لا فقط تحذيرية) وذات منافع اقتصادية مباشرة لزيادة الحماس تجاه التعاون؟
- أولاً، الاستدامة اليوم أصبحت أحد المصادر الرئيسية للنمو الاقتصادي على صعيد الدول. وتشير إحدى الدراسات إلى أن التمويل الذي أصبح يخصص للصناعات المرتبطة بالاستدامة يصل إلى 30 تريليون دولار على الصعيد الدولي (ليس فقط الأنشطة الموجهة لمواجهة التغير المناخي، بل للأنشطة المستجدة غير الملوثة للبيئة، مثل إنتاج السيارات الكهربائية والطاقة المتجددة، والمباني قليلة الانبعاثات).
ونحن ننظر اليوم لدخول عناصر الاستدامة في الدوائر الاقتصادية الدولية أو الإقليمية باعتباره محفزاً للنمو. والخطاب السياسي لعدد من دول العالم أصبح شديد الوضوح في هذا الصدد. مثلاً، الرئيس الأميركي جو بايدن يقول صراحة أنا أرغب في زيادة معدل النمو الأميركي بالاستثمار في هذا الاتجاه. وبالتالي، أصبح عنصر الاستدامة وتفعيله في الأنشطة الاقتصادية كافة اليوم جاذباً لرؤوس الأموال في مجالات الاستثمار البيئي؛ وذلك لكون عائده الاقتصادي ذا جدوى ومربحاً، ولم يعد مجرد تمويل حكومي أو من مؤسسات تمويل دولية فقط. ولذلك أصبحنا اليوم نتكلم عن الاقتصاد الأخضر والاقتصاد الأزرق والتنمية المستدامة. وكونها تنمية؛ فبالتأكيد لها مردود إيجابي على الاقتصادات. وهذا أصبح واضحاً في حجم الاستثمار الخاص والصناديق الاستثمارية التي أصبح بعضها اليوم مخصصاً فقط - أو جانباً معتبراً من استثماراتها - لهذه القطاعات... وأنا في تقديري أن الاستدامة قد تعد «الثورة الصناعية الخامسة»؛ إذا جاز القول.
> ماذا عن ضريبة التحول من الاقتصاد التقليدي إلى الاقتصاد المستدام؟
- اتفاقية باريس ومؤسسات التمويل الدولية تخصص حجم تمويل للتعاطي مع بعض الأنشطة التي قد تحتاج إلى استثمارات من أجل التكيف مع المعايير البيئية الجديدة. والدورة الاقتصادية الطبيعية للمجتمع البشري دائماً يكون بها صناعات أكثر رواجاً وأخرى أقل رواجاً وفقاً للتطور التكنولوجي.
> هل هذا يعني أن هناك عوامل تحفيزية تتبنونها في الاتحاد؟
- الاتحاد من خلال الخطة الأولى التي اعتمدت في 2014 والاجتماع الأول لوزراء البيئة، أقرّ بما يسمى بـ«أفق 2030»، والذي ضخ 1.3 مليار يورو أسهمت في 84 مشروعاً في إطار إقليمي يضم دولتين أو أكثر من دول الاتحاد من أجل المتوسط. وهذا ليس مبلغاً كبيرا بالتأكيد؛ لكنها مشروعات بمثابة نماذج يحتذى بها وربطت التعاون الإقليمي بمشروعات حقيقية تسهم في مكافحة التلوث. وبالتالي، فإن الاتحاد كإطار مؤسسي لإدارة العلاقات الإقليمية بين جنوب وشرق وشمال المتوسط وضع مثالاً واضحاً فيما يتصل بالبعد العملي الفعلي للتعاون.
ومن بين أدوارنا الحاسمة، الإسهام في إنشاء أول صندوق للاستثمار البيئي الخاص بدعم من الصندوق العالمي للاستثمار المناخي، وبقيمة 750 مليون يورو؛ وذلك للاستثمار في مشروعات صغيرة ومتوسطة تهدف للربح وتخدم البيئة في الدول الأعضاء. وأيضاً الرقم ليس كبيراً، لكنه يهدف لخلق نماذج جادة تُحتذى.
والآن بنك الإنشاء والتعمير الأوروبي وبنك الاستثمار الأوروبي يفكران في إنشاء صندوق متخصص للمنطقة في المجالات البيئية المرتبطة بالبحر المتوسط.
> كيف يمكن أن تقدر حجم هذا التحول والاستفادة بالمنطقة؟
- دراسات التمويل المناخي، التي تعتمد على مشروعات تساعد على مواجهة التغير المناخي، تشير إلى أن إحدى أكثر المناطق استفادة من هذه التوجهات هي منطقة شمال أفريقيا وشرق المتوسط. وأكثر 3 دول استفادت من هذا النمط التمويلي هي مصر والمغرب وتركيا، ما يشير إلى أن هذه الدول منخرطة جداً ولديها خطط وتصورات جادة لوضع مشروعات قابلة للتنفيذ، وبالتالي فالمنطقة تحصل على حصة أكبر من حصة أميركا اللاتينية على سبيل المثال.
> هل غيَّرت الجائحة من أولوياتكم في الاتحاد؟
- بالفعل، الصحة أصبحت على رأس الاهتمامات. والصحة مرتبطة أيضاً بالمناخ والتلوث، وبالتالي عندما اعتمدنا البرنامج الأورومتوسطي للبحث العلمي، بميزانية تصل إلى نحو 170 مليون يورو، كانت الأولوية لتغير المناخ والصحة.
كما ركزنا على مسألة «إعادة البناء والتعافي بعد كورونا»، والتي تعتمد الأن على أسس أكثر استدامة وليس وفقاً للقواعد القديمة التي تستهدف النمو فقط دون معايير مستدامة.
أيضاً، فكرة المساواة المجتمعية؛ لأن «كورونا» أحد أبرز ما أظهرته وبشكل صادم هو حجم التفاوت بين دولنا وداخل دولنا، وبالتالي أفكار المساواة والتضامن والشمول الاجتماعي أصبحت أولويات.
وقد رأينا جميعاً حجم أزمة اللقاحات، والتفاوت غير المبرر في تخزين اللقاحات في شمال المتوسط، بينما دول الجنوب غير قادرة على توفير الحد الأدنى منها لحماية الفئات الأكثر تعرضاً للمضاعفات الخطيرة. وبعد تعالي الأصوات عالمياً ظهر ما يسمى بـ«دبلوماسية اللقاحات» وبدء تخلي عدد من دول الشمال عن جزء من المخزون الهائل لديها لصالح الجنوب.
وجزء من يقين الاتحاد هو أن هناك قضايا لا تعرف الحدود، مثل المناخ والبيئة والصحة... ووجود تفاوت كبير في هذه القضايا يخلق أوضاعاً جيوسياسية غير مريحة؛ لأن الهجرة ترتبط بها جنباً إلى جنب مع التوظيف ومعدلات النمو. فإذا نظرنا إلى أكثر الدول تصديراً للهجرة والطاردة للسكان سنجد أنها دول الساحل جنوب الصحراء نتيجة لأسباب مناخية.
> هل هناك جديد يخص التعاون مع منطقة الخليج العربي؟
- الخليج منطقة مهمة جداً، أولاً، هناك اتصال مؤسسي مع مجلس التعاون الخليجي، فهو منطقة جوار مباشر ذات أولوية لمنطقة البحر المتوسط. وأيضاً هناك عدد من مشروعات الاتحاد من أجل المتوسط تنخرط فيها مؤسسات خليجية، فمثلاً بنك التمويل الإسلامي منخرط بفاعلية - إلى جانب جهات أخرى دولية - في أحد أهم المشروعات المتوسطية وهو إنشاء محطة تحلية مياه البحر في غزة وهي قضية وجودية. وكذلك صندوق التنمية الكويتي مثلاً.
> كيف ترون إذن تبني السعودية والإمارات على وجه الخصوص مشروعات بيئية ضخمة والتحول في مجال الطاقة؟
- ننظر بإعجاب شديد للتجربة؛ لأن أكبر منتجي الطاقة الأحفورية ينخرطون في الطاقة الجديدة، وخطة التنمية الشاملة «رؤية 2030» التي تبناها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بما تحمله من بعد بيئي واضح جداً وإدراك بأن العالم في سبيله إلى التحول.
والإمارات كذلك كانت سابقة حين سعت لإنشاء منظمة الطاقة الجديدة والمتجددة (ايرينا) واستضافتها مدينة أبوظبي، ثم إعلانها الأخير الالتزام بهدف الوصول إلى صفر انبعاثات بحلول عام 2050، مع استثمار نحو 165 مليار دولار في مجال الطاقة النظيفة بحلول ذلك الوقت.
وكل هذا يؤشر إلى أن هناك رهاناً من المنطقة والعالم على الاستدامة، وعلى الرفاه والنمو مع توفير حياة رغدة للأجيال المقبلة.
> نظراً لأهمية الولايات المتحدة كلاعب عالمي، فإن توجهاتها وإشاراتها تهم الجميع. وتصلنا أحياناً رسائل مختلطة من الإدارة الأميركية حول المناخ... فكيف تقيّم الأمر من وجهة نظرك؟
- لا أرى بشكل شخصي تعارضاً في موقف الإدارة الأميركية الجديدة فيما يخص ملف التغير المناخي والبيئة، فهناك أهداف بيئية واضحة بعيدة المدى؛ خاصة حين ننظر إلى خطط التنمية والبنية التحتية المقترحة حاليا، ولا يعارض ذلك بعض «القرارات اليومية» قصيرة المدى المرتبطة بإمدادات الطاقة وخلافه؛ مما يعطي أملاً كبيراً في نجاح قمة الأرض (كوب 26) المقبلة في غلاسكو، وأن تصل إلى قرارات حقيقية وعملية فيما يتصل بالالتزام الأطراف بالاتفاقية الإطارية.
> خلال عام الجائحة... هل هناك نموذج اقتصادي مشرق خطف عينك على أي مستوى؟
- الأرقام تتحدث عن نفسها. وإحدى الدول القليلة التي نجحت خلال أزمة «كوفيد - 19» في تحقيق نمو إيجابي وبنسبة معتبرة هي مصر. وهذا مؤشر على أن مصر انتهجت سياسة متوازنة ورشيدة، سواء بتحفيز الحفاظ على معدلات جيدة للنشاط الاقتصادي مع اتخاذ الإجراءات اللازمة للحفاظ على السكان.
ولو تناولنا المنطقة في المجمل، فسنجد أنها من بين الأقل عالمياً من حيث تراجع نسب النمو خلال الأزمة. وجزء من هذا النمو والنجاح مرتبط أيضاً بإدارة الملف البيئي والمشروعات الصديقة للبيئة.



كيف أخفقت «وول ستريت» في فهم ترمب؟

الرئيس الأميركي دونالد ترمب (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب (رويترز)
TT
20

كيف أخفقت «وول ستريت» في فهم ترمب؟

الرئيس الأميركي دونالد ترمب (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب (رويترز)

في منتصف فبراير (شباط)، اصطف بعض من أقوى المستثمرين ورجال الأعمال في «وول ستريت» - الذين يسيطرون على مئات المليارات من الثروة الشخصية والتريليونات من الأصول - وكانوا أشبه بمراهقين في حفل موسيقي، بحسب تقرير لصحيفة «فايننشال تايمز».

وكان دونالد ترمب هو العنوان الرئيسي. في قاعة ميامي بيتش الضيقة، انتظر الأثرياء والرؤساء التنفيذيون ما يصل إلى ثلاث ساعات لأول خطاب شخصي للرئيس عن عالم الأعمال.

هتف الحشد، الذي ضم روبرت سميث من «فيستا إكويتي»، والرئيس التنفيذي لشركة «بريدج ووتر» نير بار ديا، والمؤسس المشارك لشركة «أبولو» جوش هاريس، عندما صعد الرئيس الأميركي أخيراً على المسرح، متأخراً ساعة.

قال ترمب: «إذا كنت تريد بناء مستقبل أفضل، فادفع الحدود، وأطلق العنان للاختراقات، وحول الصناعات، واجمع ثروة. لا يوجد مكان على وجه الأرض أفضل من الولايات المتحدة الأميركية الحالية والمستقبلية في عهد رئيس معين يُدعى دونالد ترمب».

ووفق التقرير، يبدو أن الأسواق المالية المرتفعة تؤكد ذلك. كان من المقرر أن تنطلق «الغرائز الحيوانية» للنخبة المالية الأميركية بعد أربع سنوات من الفحص والتوبيخ من قبل إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن.

لم يشعر الكثيرون بالقلق من العناصر الأكثر جرأة في خطاب ترمب، مثل تهديده بفرض رسوم جمركية متبادلة على أي دولة شعر أنها تعامل الولايات المتحدة بشكل غير عادل.

قال أحد الحاضرين المرتبطين بترمب في ذلك الوقت: «لم يذكر أي شخص كلمة ركود أو كساد. أعتقد أن هذا يرسل لك إشارة قوية جداً إلى تفاؤل وواقعية قادة الأعمال والمستثمرين».

بعد أقل من ثمانية أسابيع، انقلبت الأمور. أولئك الذين شهدوا خطاب ترمب هم الآن في وضع محاولة السيطرة على الأضرار، حيث أدت الحرب التجارية التي أطلقها في 2 أبريل (نيسان) إلى زعزعة استقرار الأسواق المالية وتسببت في مخاوف من التضخم والركود الوشيك.

ولكن حتى قبل ذلك، كان القطاع المالي يترنح. انخفضت عمليات الاستحواذ على الشركات إلى أدنى مستوى لها منذ حوالي عقد من الزمان، وفقدت شركات الاستشارات العملاقة عقودها الحكومية، وألغت شركات، من «دلتا» إلى «وول مارت»، توقعات أرباحها.

ويخشى الكثيرون أن تُبطئ الرسوم الجمركية المحرك الاقتصادي الأميركي بشكل كبير.

وقال أحد المسؤولين التنفيذيين في «وول ستريت» لـ«فايننشال تايمز»: «لم نصدقه. افترضنا أن شخصاً في الإدارة لديه خلفية اقتصادية سيخبره أن الرسوم الجمركية العالمية فكرة سيئة». وأضاف: «نحن على وشك أن نواجه تقلبات حادة».

ورأت الصحيفة أن تصريح المسؤول هو بمثابة اعتراف بأن حتى العديد من أشد مؤيدي ترمب في عالم الأعمال قد أخطأوا في فهم مدى تصميم الرئيس البالغ من العمر 78 عاماً على إجراء إصلاح جذري للسياسة الاقتصادية الأميركية وعكس عقود من العولمة.

في مناسبات لا تُحصى خلال حملته الانتخابية، صرّح ترمب وأقرب مستشاريه بأنهم لن يصمموا سياسات تُرضي أغنى سكان البلاد.

وقد أوضح جيه دي فانس، مرشحه لمنصب نائب الرئيس آنذاك، خلال مؤتمر الحزب الجمهوري في يوليو (تموز) أن «رؤية الرئيس ترمب بسيطة للغاية، لكنها قوية للغاية. لقد انتهينا، سيداتي وسادتي، من تلبية احتياجات (وول ستريت). سنلتزم بدعم العمال».

أثبت إعلان التعريفات الجمركية أنه منعطف حاسم بالنسبة لـ«وول ستريت»، بحسب التقرير.

وعلى مدار يومين فقط، فقد مؤشر S&P 500 أكثر من 5 تريليونات دولار من قيمته. وفي تناقض صارخ مع هوس ترمب بسوق الأسهم خلال فترة ولايته الأولى، تجاهل الرئيس في بعض الأحيان أسئلة الصحافيين، قائلاً إنه لم يتحقق من الأسواق في الوقت الذي كان بحر من اللون الأحمر يجتاح «وول ستريت».

وعندما بدأت أسهم المؤسسات المالية القوية مثل «بلاك روك» و«أبولو» و«جيه بي مورغان» في الانخفاض، تغير السرد القادم من البيت الأبيض، فقالت كارولين ليفيت، السكرتيرة الصحافية للبيت الأبيض: «لأي شخص في (وول ستريت) هذا الصباح أود أن أؤكد على ثقتي بالرئيس ترمب».

بدأ يدرك المصرفيون والمحامون والمديرون التنفيذيون الأعلى أجراً في البلاد أن الإدارة الجديدة لا تكترث إذا ما عانى قصر التمويل العالي من تصدعات في أساسه نتيجة السياسة التجارية الجديدة للبلاد.

التزم معظمهم الصمت، متذمرين سراً ليس فقط من ارتفاع المعدلات، بل أيضاً من الطريقة الغامضة وغير المنتظمة لحسابها، وفق التقرير. لكن مديري صناديق التحوط المليارديرات مثل بيل أكمان ودان لوب وكليف أسنس أعربوا عن إحباطهم على منصة «إكس»، بينما صرّح وزير التجارة السابق في عهد ترمب، ويلبر روس، لصحيفة «فاينانشيال تايمز» بالقول: «إنها طريقة غير تقليدية إلى حد ما لقياس التعريفات الجمركية».

وتحدث البعض بصراحة أكبر، وقال أنتوني سكاراموتشي، مؤسس شركة الاستثمار «سكاي بريدج كابيتال»، والذي شغل لفترة وجيزة منصب مدير الاتصالات في البيت الأبيض في عهد ترمب خلال ولايته الأولى: «إنه (ترمب) يريد إنهاء نظام التجارة العالمي وإضعاف الولايات المتحدة. يريد عزل الولايات المتحدة عن بقية العالم». وأضاف: «هذه أغبى سياسة اقتصادية انتهجتها الولايات المتحدة على الإطلاق».

في البداية، اعتبرت نخبة رجال الأعمال الرسوم الجمركية ثمناً لا بد من دفعه للحصول على مزايا أخرى من البيت الأبيض في عهد ترمب، بما في ذلك التراخي في تطبيق قوانين مكافحة الاحتكار وتخفيضات ضريبية كبيرة.

ومع ذلك، فإنّ استعداد ترمب لزعزعة «وول ستريت» من خلال تصعيد حرب تجارية قد زرع الثقة وأثار مخاوف من أن النماذج المالية التي توجه الأعمال لم تعد قادرة على التنبؤ بما سيأتي بعد ذلك، حسبما قال أكثر من اثني عشر مستثمراً ومديراً تنفيذياً لصحيفة «فايننشال تايمز».

وأشار هوارد ماركس، المؤسس المشارك لشركة «أوكتري كابيتال»، إلى أنه «بالنظر إلى حالة الجهل لدينا وكل ما لا نعرفه، فإن (الاستثمار الآن) يشبه الرهان على نتيجة السوبر بول عندما لا تعرف الفرق التي تلعب أو أيا من لاعبيها».

وقال: «يعتمد الاستثمار إلى حد كبير على افتراض أن المستقبل سيبدو مثل الماضي، ويبدو أن هذا الافتراض أضعف من المعتاد».

وبصفته ابن مطور عقاري في نيويورك وخريج كلية وارتون للأعمال المرموقة، فقد طور ترمب منذ فترة طويلة علاقة شخصية مع «وول ستريت». لكنها غالباً ما كانت محفوفة بالمخاطر.

وبحسب أولئك الذين يعرفونه، فإن ترمب شعر بانتظام بالتهميش من قبل أعلى مستويات «وول ستريت». «تجنبته النخبة المالية في الثمانينيات عندما احتاج إلى مساعدتهم لتمويل مشاريع عقارية، أو سخروا منه لكونه بين المشاهير لا وزن له»، وفقا لما قال شخص مقرب من ترمب غير مسموح له بالتحدث رسمياً للصحيفة.

وأضاف: «لم يكن ترمب ليصبح رئيساً لـ(وول ستريت) أبداً».

ومع ذلك، في ولايته الأولى، أدخل ترمب القطاع المالي في قلب إدارته. فقد عيّن ستيفن منوشين وجاري كوهن، المخضرمين في «غولدمان ساكس»، وزيراً للخزانة وكبيراً للمستشارين الاقتصاديين على التوالي.

كما دعا إلى عقد مجموعة تسمى المنتدى الاستراتيجي والسياسي، والتي ضمت عمالقة «وول ستريت» مثل جيمي ديمون من «جي بي مورغان»، ولاري فينك من «بلاك روك»، وستيفن شوارزمان من «بلاكستون».

وكان ترمب يعقد معهم جلسات استماع بانتظام، غالباً تحت أضواء كاميرات التلفزيون. لكن تلك العلاقة توترت خلال رئاسته، وأدت أعمال الشغب في الكابيتول في 6 يناير (كانون الثاني) 2021 إلى قطيعة تامة.

ووصف شوارزمان، الذي ترأس منتدى ترمب للأعمال، التمرد بأنه «مروع». وفي عام 2022، قال شوارزمان إن الوقت قد حان «للتحول إلى جيل جديد من القادة» للحزب الجمهوري، مشيراً إلى أنه لن يدعم ترمب في عام 2024.

لاحظ حلفاء ترمب هذا الازدراء. وقال أحد الممولين المخضرمين المقربين من ترمب: «لم يأخذه هؤلاء الرجال على محمل الجد أبداً. أين كانت معظم (وول ستريت) عندما تعرض ترمب لهجوم من القضاة على مدى السنوات الأربع الماضية؟ من اختارته (وول ستريت) خلال الحملة؟ كامالا هاريس، وليس ترمب. لماذا يجب أن يهتم بـ(وول ستريت) الآن؟».

لم تختفِ تلك المعارضة لترمب إلا عندما بدا أنه قادر على الفوز في عام 2024. عاد شوارزمان إلى المجلس في مايو (أيار) من ذلك العام، واصفاً التصويت لترمب بأنه «تصويت من أجل التغيير». وتبعه آخرون.

بعد فوزه في عام 2024، قال الرئيس التنفيذي لشركة غولدمان ساكس، ديفيد سولومون، إنه «متفائل للغاية» بشأن أجندة ترمب المؤيدة للنمو. دافع ديمون عن الرسوم الجمركية الجديدة باعتبارها إجراءً للأمن القومي، قائلاً لشبكة «سي إن بي سي» إن على الناس «تجاوز الأمر».

تبرعت شركات الاستثمار الخاصة التي دعمت منافسي ترمب بملايين الدولارات لصندوق تنصيبه على أمل استعادة نفوذها. لكن قلّة منها اليوم تحظى باهتمام الرئيس.

وقال رئيس شركة استثمار خاصة: «لقد أحاط ترمب نفسه بغرفة صدى. باستثناء بيسنت، لا يوجد أشخاص حقيقيون، ولا آراء معارضة. الأمر مختلف تماماً عما كان عليه الحال عندما حقق غاري كوهن التوازن».

أظهر ترمب نفسه استعداده لاستهداف من يُعتقد أنهم أظهروا ولاءً غير كافٍ. غريزته الانتقامية تتجلى بوضوح في معركته مع كبرى شركات المحاماة.

وقدرت صحيفة «فايننشال تايمز» أن بول وايس وسكادن أربس وآخرين تعرضوا لضغوط لتقديم ما يقرب من مليار دولار من العمل التطوعي لقضايا تدعمها الإدارة، خوفاً من أن يؤدي تجاوز البيت الأبيض إلى شلل أعمالهم.

كبار المديرين التنفيذيين الآن حذرون للغاية في كلماتهم، نظراً لأن تعليقاً مرتجلاً قد يثير توبيخاً من البيت الأبيض. إنهم يخشونه... لا يريدون أن ينتهي بهم الأمر إلى أي إجراء قانوني ضد بنكهم أو عائلاتهم. وقد نصحتهم مجالس إداراتهم: «ابقوا صامتين»، وفق سكاراموتشي.

وألمح مايكل سيمباليست، رئيس قسم استراتيجية السوق والاستثمار في «جي بي مورغان»: «بالمناسبة، ليس لدينا حتى مكاتب محاماة قادرة على الدفاع عنكم، لأن جميع مكاتب المحاماة الكبرى قد غرقت في قبضة الرئيس».

عندما قرر ترمب التراجع عن الرسوم الجمركية، لم يكن ذلك لأن كبار رجال «وول ستريت» قد حرّكوا خيوطه. فبحلول فجر التاسع من أبريل (نيسان)، كانت الأسواق المالية العالمية في حالة هبوط حاد، وقد لاحظ الرئيس ذلك.

وقال ترمب لاحقاً: «كانت أسواق السندات تُصبح مُتوترة بعض الشيء، ومُضطربة بعض الشيء»، مُعترفاً بأنه كان يُراقب الاضطرابات المُتزايدة من كثب. استمع إيلون ماسك والرئيس السابق لشركة «غوغل» إريك شميدت وآخرون إلى خطاب دونالد ترمب في ميامي في فبراير (شباط).

في ذلك الصباح، قدم ديمون، رئيس «جي بي مورغان»، حجة لطيفة ولكنها مقنعة في النهاية حول سبب وجوب توقف الرئيس عن حربه التجارية.

لكن ديمون تواصل مع ترمب ليس في محادثة خاصة في «مار إيه لاغو» أو البيت الأبيض. لقد ظهر على قناة «فوكس بيزنس نيوز». تجاوزت ظروف السوق السلبية إلى العدائية.

وقال لورانس سامرز، وزير الخزانة السابق والرئيس السابق لجامعة هارفارد: «كانت حقيقة أن سوق السندات كانت تتحرك في اتجاه الإنذار بدلاً من اتجاه التأمين هي العامل الحاسم الذي جعل الجميع في (وول ستريت) على مستوى مختلف تماماً من التوتر».

وأضاف أن سندات الحكومة الأميركية كانت تتداول فجأة في نمط يشبه ديون الأسواق الناشئة. كان الدولار يضعف في الوقت نفسه.

نتج انهيار سوق السندات جزئياً عن قيام صناديق التحوط في اليابان والولايات المتحدة بتصفية «الصفقات الأساسية» المحفوفة بالمخاطر على سندات الخزانة - وهي استراتيجية غامضة وعالية الاستدانة لطالما تم الإشارة إليها كمحفز محتمل في أوقات الذعر.

في هذه الأثناء، بدأ المستثمرون الأجانب، خوفاً من موقف ترمب العدائي، في سحب أموالهم من الولايات المتحدة. ظهرت الشقوق في أماكن أخرى. تجمدت أسواق الإقراض التي تستخدمها عادةً الشركات منخفضة التصنيف وشركات الأسهم الخاصة، وحتى التكتلات الكبرى تم استبعادها من سوق السندات - وهو أمر نادر.

بعد أسبوع من الاضطرابات، أوقف الرئيس جزئياً تعريفاته الجمركية المتبادلة. وصرح شخص مقرب من ترمب لصحيفة «فايننشال تايمز»: «ترمب لا يمانع في تعرض (وول ستريت) لضربة، لكنه لا يريد انهيار المنزل بأكمله».

حقيقة أن سوق السندات كانت تتحرك في اتجاه الإنذار بدلاً من اتجاه التأمين كانت هي العامل الحاسم في كسر النمط. حقيقة أن الأسواق هي التي أجبرت ترمب على التصرف تؤكد أن مصيره لا يزال مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بثروات النخبة المالية، حتى لو استمر تهميشهم في إدارته.

وحتى مع تحرك ترمب لإعادة تشكيل التجارة العالمية، فإنه يواجه ألغاماً أرضية أخرى في النظام المالي. إن صناعة رأس المال الخاص التي تبلغ قيمتها 13 تريليون دولار، والتي تسيطر على حصة متزايدة من الاقتصاد الأميركي وتوظف أكثر من 10 ملايين أميركي، مبنية على الديون.

لقد تركت سنوات من الاستدانة قطاعات واسعة من الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم هشة ومعرضة بشدة للصدمات. مع تباطؤ النمو وارتفاع التضخم، من المرجح أن تستجيب شركات الأسهم الخاصة بخفض التكاليف والوظائف، مما يزيد من الألم الاقتصادي.

ترتفع معدلات التخلف عن السداد وقد تقفز قريباً، مما يؤدي إلى موجة من حالات الإفلاس. قد تتعرض صناديق التقاعد الكبيرة، التي تستثمر بكثافة في الأسواق الخاصة، أيضاً لضغوط.

ويقول ترمب إنه على استعداد لتحمل الألم الاقتصادي لرؤية خططه تتحقق، «هذه ثورة اقتصادية وسننتصر»، نشر على وسائل التواصل الاجتماعي.

يبدو المستقبل، في الوقت الحالي، متقلباً. وقال جوزيف فودي، أستاذ الاقتصاد في كلية ستيرن للأعمال بجامعة نيويورك إن الرسوم الجمركية كانت «بمثابة ضربة أساسية لثقة (وول ستريت) في قدرتهم على التنبؤ بما ستفعله الإدارة على الإطلاق. لقد أدركوا الآن أن كل هذا غير مؤكد وغير قابل للتنبؤ».