«استجداء رغيف»... آخر تجليات الأزمة المعيشية في دمشق

أطفال يتجمعون أمام الأفران في العاصمة السورية

TT

«استجداء رغيف»... آخر تجليات الأزمة المعيشية في دمشق

تتزايد في العاصمة السورية ظاهرة «استجداء رغيف الخبز» أمام الأفران من قبل مواطنين من كافة الأعمار ومن ذوي الجنسين، في ظل تفاقم الأزمة المعيشية الخانقة للغاية، التي يعاني منها أغلبية الأهالي، وتعد الأسوأ خلال سنوات الحرب.
أحد الشبان، وبعد خروجه من أمام نافذة الفرن المزدحمة، وهو يحمل ربطتين أو ثلاثاً، تقدم منه طالب مدرسة في مرحلة «التعليم الأساسي»، وهو يحدق بأرغفة الخبز العليا المنتفخة والبخار يتصاعد منها، وقال له وشهوة تذوق الخبز الساخن تبدو عليه: «يا عمو الله يخليك أعطيني شقفة (قطعة من رغيف) خبز».
الشاب الذي يبدو من مظهره الخارجي، أنه من متوسطي الحال، لم يتردد أبداً بتلبية طلب طالب المدرسة لشعوره بأنه يشتهي أكل الخبز الساخن، وقال له: «خذ رغيفاً كاملاً، ألف صحة وعافية».
وبمجرد تلبيته طلب الطالب، ركض نحو الشاب طفل آخر وطلب منه ذات الطلب، لكن الأول هذه المرة أطال التحديق في مظهر الطفل ومن ثم لبى طلبه، ليبادر الطفل مباشرة إلى البدء في أكل الرغيف.
وبينما كان يبرد أرغفة الخبز على منشر بجانب الفرن توقف عند الشاب رجل وهو يقود دراجة هوائية ويبدو عليه الفقر والسقم، وطلب منه بخجل رغيف خبز، ليبادر الشاب دون تردد بتلبية طلبه والقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله»، بينما رد عليه الرجل بالدعاء له ووضع الرغيف في صندوق الدراجة.
لكن سيدة أربعينية، رفضت تلبية طلب فتاة بإعطائها رغيف خبز، وقالت بصوت سمعه كل من حولها عند المنشر: «أخذت ربطتين، ووزعت ثلاثة أرغفة للناس، شوفي (اطلبي من) غيري بدي (أريد) إطعام الأولاد».
سيدة أخرى عندما طلب منها طفل في الثالثة عشرة رغيف خبز، نهرته وقالت له: «عاملها شغلة (مهنة). كل يوم بشوفك (أراك) تشحد من هذا رغيف ومن هذا رغيف وتجمعها ومن ثم تبيع الربطة بـ1500».
وما زالت الأفران في دمشق وعموم مناطق سيطرة الحكومة تشهد حالات ازدحام خانقة، مع استمرار أزمة توفر الطحين التي اشتدت قبل نحو عام، وتخفيض حصة الفرد الواحد اليومية من 3 أرغفة إلى اثنين وأقل من النصف.
ويتم تسليم العائلات حصتها اليومية من الخبز المدعوم عبر «البطاقة الذكية» وفقاً لنظام الشرائح.
ورفعت الحكومة خلال سنوات الحرب سعر ربطة الخبز المدعوم (7 أرغفة وزن نحو 1100 غرام) عدة مرات إلى أن وصل حالياً إلى 200 ليرة سورية، على حين تباع في السوق السوداء ما بين 1000 – 1500، بعدما كان قبل سنوات الحرب بـ15 ليرة.
ويزداد تفاقم مشكلة الجوع في مناطق سيطرة الحكومة مع تواصل فقدان مداخيل العائلات الشهرية جزءاً كبيراً من قيمتها بسبب الانهيار القياسي لسعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الذي يسجل حالياً نحو 3500 ليرة، بعدما كان بين 45 و50 ليرة في عام 2010.
وباتت أغلبية المواطنين في مناطق سيطرة الحكومة تعيش أوضاعاً معيشية مزرية للغاية بسبب الارتفاع الجنوني للأسعار، خصوصاً المواد الغذائية، حيث ارتفعت أكثر من 80 مرة، بينما لا يتعدى متوسط الراتب الشهري لموظفي القطاع العام 25 دولاراً، ولموظفي القطاع الخاص 50 دولاراً، بعدما كان راتب الموظف الحكومي قبل سنوات الحرب نحو 600 دولار.
واعتادت سوريا قبل سنوات الحرب إنتاج 4 ملايين طن من القمح كل موسم، وكانت قادرة على تصدير 1.5 مليون طن سنوياً، لكن انخفاض الإنتاج خلال سنوات الحرب وضع الحكومة تحت ضغوط متزايدة لاستيراد الحبوب.
وتحتاج الحكومة إلى ما يتراوح ما بين مليون و1.5 مليون طن من القمح سنوياً لتوفير الغذاء للمناطق التي تسيطر عليها، على حين تقول أرقام صادرة عن المؤسسة السورية العامة للحبوب الحكومية، إن كمية القمح التي بحوزتها تقارب 400 ألف طن فقط، بينما تحتاج البلاد إلى 600 ألف طن إضافي خلال هذا العام.
وقال برنامج الأغذية العالمي في مارس (آذار) الماضي، إن عدداً قياسياً من السوريين بلغ 12.4 مليون نسمة أي أكثر من 60 في المائة من السكان يعاني من انعدام الأمن الغذائي والجوع، وهو ضعف الرقم المسجل في 2018.
وتعتبر مناطق شمال وشمال شرقي سوريا التي تسيطر عليها «الإدارة الذاتية» خزان البلاد من الحبوب وسلتها الغذائية، ويحصل في كل عام تنافس بينها وبين الحكومة بشأن الحصول على القمح من المزارعين.



«جمعة رجب»... مناسبة حوثية لفرض الإتاوات وابتزاز التجار

مسلحون حوثيون ضمن حشدهم الأسبوعي في صنعاء بأمر من زعيم الجماعة (رويترز)
مسلحون حوثيون ضمن حشدهم الأسبوعي في صنعاء بأمر من زعيم الجماعة (رويترز)
TT

«جمعة رجب»... مناسبة حوثية لفرض الإتاوات وابتزاز التجار

مسلحون حوثيون ضمن حشدهم الأسبوعي في صنعاء بأمر من زعيم الجماعة (رويترز)
مسلحون حوثيون ضمن حشدهم الأسبوعي في صنعاء بأمر من زعيم الجماعة (رويترز)

استهلت الجماعة الحوثية السنة الميلادية الجديدة بإطلاق حملات جباية استهدفت التجار وأصحاب ورؤوس الأموال في العاصمة اليمنية المختطفة صنعاء، بغية إجبارهم على دفع الأموال لتمويل احتفالات الجماعة بما تسميه «جمعة رجب».

وتزعم الجماعة الحوثية أن دخول اليمنيين في الإسلام يصادف أول جمعة من شهر رجب الهجري، ويستغلون المناسبة لربطها بضرورة الولاء لزعيمهم عبد الملك الحوثي تحت ادعاء أن نسبه يمتد إلى علي بن أبي طالب الذي أدخل اليمنيين في الإسلام قبل أكثر من 14 قرناً هجرياً. وفق زعمهم.

وذكرت مصادر مطلعة في صنعاء لـ«الشرق الأوسط»، أن مشرفين حوثيين برفقة عربات ومسلحين يتبعون عدة مكاتب تنفيذية تابعة للجماعة، نفذوا حملات واسعة ضد متاجر ومؤسسات تجارية في عدة مديريات في المدينة، وأجبروا ملاكها على دفع جبايات، بينما أغلقوا عدداً من المتاجر التي رفض ملاكها التبرع.

وأكدت المصادر أن الانقلابيين شرعوا في توسيع أنشطتهم الاستهدافية في تحصيل الإتاوات أكثر مما كان عليه قبل أشهر ماضية، حيث لم تستثنِ الجماعة حتى صغار التجار والباعة المتجولين والسكان الأشد فقراً.

الانقلابيون سيطروا بالقوة على مبنى الغرفة التجارية في صنعاء (إعلام محلي)

وفي ظل تجاهل الجماعة المستمر لفقر السكان في مناطق سيطرتها، أقرت ما تسمى اللجنة العليا للاحتفالات والمناسبات في اجتماع لها بصنعاء، إطلاق برنامج الفعاليات المصاحب لما يُسمى ذكرى «جمعة رجب»، بالتوازي مع بدء شنّ حملات جباية على التجار والسكان الذين يعانون من ظروف معيشية حرجة.

وهاجم بعض السكان في صنعاء كبار قادة الجماعة لجهة انشغالهم بابتكار مزيد من الفعاليات ذات المنحى الطائفي وتخصيص ميزانية ضخمة لأعمال الدعاية والإعلان، ومكافآت ونفقات لإقامة الندوات وتحركات مشرفيها أثناء حشد الجماهير إليها.

وكانت تقارير محلية اتهمت في وقت سابق قيادات حوثية بارزة في الجماعة يتصدرهم حمود عباد وخالد المداني بجباية مليارات الريالات اليمنية من موارد المؤسسات الحكومية الخاضعة لسلطات الجماعة في صنعاء، لافتة إلى أن معظم المبالغ لم يتم توريدها إلى حسابات بنكية.

تعميم صوري

في حين زعمت وسائل إعلام حوثية أن تعميماً أصدره القيادي في الجماعة حمود عباد المعين أميناً للعاصمة المختطفة، يقضي بمنع إغلاق أي محل أو منشأة تجارية إلا بعد اتخاذ ما سماها «الإجراءات القانونية»، نفى تجار وأصحاب مؤسسات تجارية بصنعاء توقّف عناصر الجماعة عن مداهمة متاجرهم وإغلاقها بعد رفضهم دفع جبايات.

تجمع للمارة في صنعاء أثناء محاولة اعتقال مالك أحد المطاعم (الشرق الأوسط)

وفي مسعى لتلميع صورتها عقب حملات التعسف كانت الجماعة أصدرت تعميماً يُلزِم قادتها في عموم المديريات والمكاتب التنفيذية في صنعاء بعدم إغلاق أي منشأة تجارية إلا بعد اتخاذ «الإجراءات اللازمة».

وحض التعميم الانقلابي كل الجهات على «عمل برامج شهرية» لتنفيذ حملات نزول ميداني لاستهداف المتاجر، مرة واحدة كل شهر عوضاً عن تنفيذ حملات نزول يومية أو أسبوعية.

واعترفت الجماعة الحوثية بوجود شكاوى لتجار وملاك منشآت تجارية من قيام مكاتب تنفيذية في صنعاء بتحصيل مبالغ مالية غير قانونية منهم بالقوة، وبإغلاق مصادر عيشهم دون أي مسوغ قانوني.

توسيع الاستهداف

اشتكى تُجار في صنعاء لـ«الشرق الأوسط»، من تصاعد كبير في حملات الاستهداف وفرض الإتاوات ضدهم عقب صدور تلك التعليمات التي يصفونها بـ«غير الإلزامية».

ويتهم عدد من التجار القياديَين حمود عباد وخالد المداني، والأخير هو مشرف الجماعة على المدينة، بتكثيف الأنشطة القمعية بحقهم وصغار الباعة وإرغامهم في كل حملة استهداف على دفع جبايات مالية مقابل السماح لهم بمزاولة أنشطتهم التجارية.

الحوثيون يستهدفون المتاجر والشركات لإجبارها على دفع الأموال (إعلام حوثي)

ويتحدث (أحمد.و)، مالك محل تجاري بصنعاء، عن استهداف متجره بسوق شعبي في حي السنينة بمديرية معين بصنعاء من قِبَل حملة حوثية فرضت عليه دفع مبلغ مالي بالقوة بحجة تمويل مناسبة «جمعة رجب».

وذكر أن عناصر الجماعة توعدته بالإغلاق والاعتقال في حال عدم تفاعله مع مطالبها غير القانونية.

وتحدث أحمد لـ«الشرق الأوسط»، عن إغلاق عدد من المتاجر في الحي الذي يعمل فيه من قِبَل مسلحي الجماعة الذين قال إنهم اعتقلوا بعض ملاك المحلات قبل أن يتم الإفراج عنهم بعد أن رضخوا لدفع الجبايات.