نجلاء بودن رمضان... أول رئيسة حكومة عربية

أستاذة جامعية وإدارية تونسية «في خدمة الدولة»

نجلاء بودن رمضان... أول رئيسة حكومة عربية
TT

نجلاء بودن رمضان... أول رئيسة حكومة عربية

نجلاء بودن رمضان... أول رئيسة حكومة عربية

فاجأ الرئيس التونسي قيس سعيد غالبية المراقبين داخل تونس وخارجها بتعيين امرأة في الـ63 من عمرها رئيسة جديدة للحكومة بعد أكثر من شهرين من الجدل والصراعات، في أعقاب إبعاد حكومة هشام المشيشي وحل البرلمان وتعليق العمل بأغلب فصول الدستور بحجة تعرض البلاد لـ«خطر داهم». وكانت المفاجأة الثانية أن نجلاء بودن رمضان التي عُينت في هذا المنصب لم تكن ضمن قائمة المرشحات له، رغم تأكيد تقارير إعلامية كثيرة منذ شهرين أن «الخلف» المحتمل للمشيشي قد يكون سيدة. إذ توقع كثيرون أن تكون رئيسة الحكومة المقبلة الوزيرة نادية عكاشة، مديرة مكتب الرئيس وكبيرة مستشاريه في قصر قرطاج. وفي مطلق الأحوال، لم يكن يُعرف عن بودن الانخراط في الصفوف الأولى للحياة السياسية والشأن العام طوال مسيرتها العلمية والهندسية في المدرسة العليا للمهندسين، ثم منذ تعيينها في 2006 على رأس مسؤوليات في وزارة التعليم العالي.
بخلاف الغالبية الساحقة من رؤساء الحكومات الذين تداولوا على المنصب في تونس، منذ استقلال البلاد عن فرنسا في مارس (آذار) 1956، لا تنحدر نجلاء بودن رمضان من محافظات «الساحل» أو من العاصمة تونس، إذ إنها من أصيلات مدينة القيروان العريقة، العاصمة الأولى للبلاد ولكامل شمال أفريقيا والأندلس إبان العهدين الأموي والعباسي الأول.
وإذا تلتقي نجلاء بودن مع رئيس الحكومة السابق هشام المشيشي في كونها من أبناء الجهات الداخلية «المهمشة» مثل محافظات القيروان وسليانة وجندوبة، فإنها تختلف عنه اجتماعياً، كونها تنحدر من واحدة من أعرق وأغنى العائلات السابقة في القيروان، التي هاجرت إلى العاصمة أو إلى مدن منطقة «الساحل» التي ينحدر منها الرئيسان الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي ومعظم وزرائهما.
ومن ناحية أخرى، بودن أصيلة «قلب مدينة القيروان التاريخية، داخل الأسوار التاريخية، وليست من بنات أريافها الفقيرة أو أحيائها الشعبية». ثم إنها من عائلة حضرية ميسورة الحال نسبياً وليست من بنات القبائل والوافدين الذين أصبحوا غالبية السكان في المدينة وضواحيها بعدما توسعت أرجاؤها وتضاعف عدد سكانها عشرات المرات بفعل النزوح والهجرة. وأيضاً على المستوى الأسري، تزوجت نجلاء بودن بطبيب أصيل مدينة المهدية الساحلية السياحية، 180 كلم جنوبي العاصمة تونس، من عائلة رمضان.
- خريجة جامعات فرنسا
تعد نجلاء بودن واحدة من خريجات «مدرسة الزعيم الحبيب بورقيبة والدولة الحديثة»، عندما كان النجاح في المدارس العمومية شرطاً للدخول إلى جامعات العاصمة تونس والحصول على منحة دراسة في جامعة أوروبية. وبالفعل كانت نجلاء بودن واحدة من أبرز طالبات تونس المتألقات في «المدارس العليا الكبرى» الفرنسية للهندسة وعلوم المناجم بعد فوزها بمرتبة متقدمة في «المدارس التحضيرية لدخول كبرى الجامعات الفرنسية». ومن ثم، تخرجت نجلاء بالإجازة في الهندسة ثم حازت درجة الدكتوراه عام 1987 من جامعة فرنسية مرموقة متخصصة في علوم المناجم هي «الإيكول دي مين دو باريس».
هذه المؤهلات العلمية، إلى جانب الخبرة في الجامعات الفرنسية، أهلت بودن لأن تعين أستاذة في «المدرسة الوطنية للمهندسين» في «المركب الجامعي» الكبير في جامعة العاصمة تونس، وهي واحدة من جامعات النخبة في البلاد. ولقد حافظت الدكتورة بودن على موقعيها الأكاديمي والعلمي حتى 2006، وهو تاريخ تكليفها لأول مرة بمهمة إدارية وتعليمية بصفة مستشارة في ديوان وزير التعليم العالي وقتها والقيادي في الحزب الحاكم العميد الأزهر بوعون.
- مسؤولة «مخضرمة»
تابعت نجلاء بودن التدريس في المدرسة العليا للمهندسين المختصين في علوم المناجم والزلازل والمتغيرات الجغرافية، في الوقت الذي حافظت طوال السنوات الـ15 الماضية على منصب مستشارة بامتيازات مدير مركزي، أو مدير عام، مع كل وزراء التعليم العالي الذين تعاقبوا على الوزارة منذ عام 2006، بدءاً من عميدي كلية الحقوق السابقين الأزهر بوعون (2006 - 2010) والبشير التكاري (2010 - 2011). وأيضاً، بعد «ثورة يناير (كانون الثاني)» على حكم الرئيس بن علي 2011، وإسناد الحقيبة إلى وزراء من المعارضة السابقة بينهم أحمد إبراهيم، الزعيم السابق للحزب الشيوعي (حزب «التجديد» و«المسار» لاحقاً)، والمهندس المنصف بن سالم، القيادي في حزب «حركة النهضة» الإسلامي، والخبير التقني المستقل شهاب بودن، الذي يحمل اسمها العائلي نفسه وهو مثلها من مدينة القيروان وتخرج في جامعات فرنسية ثم عُين أستاذاً في «المدرسة الوطنية للمهندسين». ولقد عُين شهاب بودن وزيراً للتعليم العالي عام 2015 في الحكومة التي ترأسها المهندس الحبيب الصيد، وكانت في حينه ائتلافاً سياسياً بين حزبي «نداء تونس» بقيادة الباجي قائد السبسي و«حركة النهضة» بقيادة راشد الغنوشي وحزامهما البرلماني والسياسي.
في الواقع، تُعد نجلاء بودن من بين كوادر الدولة «المخضرمين» الذين تولوا مسؤوليات عليا في الدولة لسنوات عدة. وكلفت بملفات كثيرة للتعاون الدولي بين الوزارة ومؤسسات عالمية في عهد الوزيرة الحالية ألفة بن عودة صيود وسلفيها سليم خلبوص وتوفيق الجلاصي، اللذين عُينا بعد خروجهما من الوزارة في مؤسسات دولية خارج البلاد.
ولقد نوّه المؤرخ نور الدين الدقي، المدير العام السابق للتعليم العالي في الوزارة، خلال تصريح لـ«الشرق الأوسط»، بالخبرة العلمية والأكاديمية لـ«بودن»، مشدداً على خبراتها ومستعرضاً مناصبها التي شغلتها بكفاءتها، مديرة للتدريب في مدرسة المهندسين في 2004، ثم نائبة مدير، فمديرة ثم مستشارة بامتيازات مدير عام في مكاتب عدد من الوزراء قبل «ثورة 2011» وبعدها.
- استقلالية عن الأحزاب
في المقابل، في حين شكك البعض في فرص نجاح رئيسة الحكومة المعينة في تأدية مهمتها بسبب استقلاليتها عن الأحزاب الكبرى والنقابات المتحكمة في المشهد السياسي بتونس، ناهيك عن مؤسسات الدولة منذ 2011، أثنى عدد كبير من الحقوقيين والناشطات السياسيات على استقلاليتها. بل رأى هؤلاء في هذه الاستقلالية الميزة و«الورقة الرابحة» التي راهن عليها الرئيس قيس سعيد المستقل بدوره عن كل الأحزاب عند اختيارها.
وفي هذا السياق، شبّهت كلثوم كنو، رئيسة جمعية القضاة السابقة، رئيسة الحكومة المعينة بالمستشارة الألمانية المودعة أنجيلا ميركل... مع التذكير بتشابه الأسماء والأحرف بين «نجلاء» و«أنجيلا»... وسارت في هذا المنحى عديد صفحات المواقع الاجتماعية التي أطلقت حملة «نجلاء التونسية تخلف أنجيلا الألمانية».
من جانب ثانٍ يجمع مؤيدو نجلاء بودن وخصومها على أن كفاءتها العلمية والمهنية وحيادها السياسي والحزبي واستقلاليتها حقائق تفسر وتؤكد نجاحها في مسيرتها الإدارية رغم التغيرات وإبعاد عدد من المسؤولين السابقين في الوزارة والدولة بعد 2011، وهنا تحدث شكري النفطي، المستشار السابق لوزير التعليم العالي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، عن «السمعة الطيبة» التي تحظى بها نجلاء بودن وبما عُرفت به من «مثابرة في العمل صباحاً ومساءً»، وهو ما فسّر تكليفها برئاسة قطاعات استراتيجية في قطاعات التعليم العالي والبحث العلمي والتعاون الدولي، من بينها: «مراقبة الجودة» وتنفيذ مشاريع إصلاح التعليم العالي والشراكة مع المؤسسات الدولية كالبنك الدولي، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم «اليونيسكو»، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «الألكسو»، وهيئة المسح الجيولوجي الأميركية، والمركز الأوروبي المتوسطي لرصد الزلازل.
وفي الاتجاه ذاته، تكلم عدد من زملاء الرئيسة المعينة السابقين في ديوان وزارة التعليم العالي لـ«الشرق الأوسط»، منهم المدير العام للتعليم العالي نور الدين الدقي، ومدير عام ديوان قطاع الخدمات الجامعية سعيد بحيرة، وبالأخص، عن التزامها و«مثابرتها على العمل من دون كلل من الثامنة صباحاً إلى الثامنة مساءً».
- خبرة دولية
وفضلاً عما تقدم، ووفق شهادات عدد من الوزراء والمسؤولين السابقين في وزارة التعليم العالي ممن عملوا مع نجلاء بودن قبل مفصل 2011 وبعده، مما يميز رئيسة الحكومة المعينة إتقانها اللغات الأجنبية وبطلاقة، خاصة الفرنسية والإنجليزية، وهو ما أهّلها لأن تُعين على رأس قطاع العلاقات مع البنك الدولي والمؤسسات الأجنبية المعنية بالشراكة مع تونس في العديد من القطاعات مثل التربية والتعليم، والبحث العلمي، والتدريب. مع أن هذا الاختصاص دفع عدداً من خصومها ومعارضي تعيينها إلى شن حملة ضدها في المواقع الاجتماعية. كذلك، شنّت بعض المجموعات التي تصف نفسها بـ«المستقلة» حملة ضدها، متهمة إياها بسوء التصرف في منحة حصلت عليها الوزارة سابقاً من البنك الدولي قيمتها 60 مليون دولار أميركي (أي نحو 180 مليون دينار تونسي) بهدف تحسين مستوى التعليم والدراسات في جامعات تونس!
وذهب أشرف العيادي، رئيس منظمة «أنا يقظ»، غير الحكومية التونسية المدعومة مالياً من مؤسسات أميركية وأوروبية، إلى حد الكلام عن «وجود ملف تحقيق ضد نجلاء بودن» في تلميح عن «شبهة فساد» مزعومة. وكانت تقارير هذه المنظمة تسببت سابقاً في إسقاط حكومة إلياس الفخفاخ عام 2020 بعدما اتهمته بالتورط في «شبهة تضارب مصالح». وادعى العيادي أن رئيسة الحكومة المعينة شخصية «لقيت دعماً من قِبل السيدة الأولى حرم رئيس الجمهورية القاضية إشراف شبيل سعيد رغم معارضة محيط الرئيس». وأعرب عن «تخوفه» من أن يكون مصيرها مثل مصير رئيس الحكومة السابق هشام المشيشي الذي عُزل بعد «الإجراءات الاستثنائية» التي قررها الرئيس التونسي يوم 25 يوليو (تموز) الماضي، رغم الدعم القوي الذي لقيه أول الأمر من قبل قصر قرطاج عند تعيينه وزيراً للداخلية، ثم رئيساً للحكومة.
- وزيرة أم رئيسة حكومة؟
في المقابل، إلى جانب تنويه عدد من خصوم الرئيس سعيد وأنصاره بقراره تعيين نجلاء بودن على رأس الحكومة، فإنهم تساءلوا عما إذا كان سيسمح لها بأن تلعب دور «رئيس الحكومة» حسب الصلاحيات التي ينص عليها دستور البلاد الصادر في 2014، أم ستكون مجرد «وزيرة أولى» في «فريق حكومي» يرأسه رئيس الجمهورية شخصياً، حسب المرسوم 117 الذي أصدره يوم 22 سبتمبر (أيلول) الماضي.
إذ قال وليد الجلاد، البرلماني والقيادي في حزب «تحيا تونس»، إن رئيسة الحكومة المعينة «شخصية جامعية محترمة سبق أن كرمها من قبل الرئيس الأسبق الباجي قائد السبسي»، لكنه استطرد قائلاً: «... ولكن لا بد من التراجع عن المرسوم 117 الذي جعل من رئيس الدولة رئيساً فعليا للحكومة، وألغى الفصل بين السلطات والسلطة الرقابية للسلطة التشريعية المنتخبة على الحكومة والسلطة التنفيذية». كذلك رحب غازي الشواشي، زعيم حزب «التيار الديمقراطي» المعارض، بتعيين امرأة رئيسة للحكومة، ولكن مع مطالبة الرئيس سعيد بالتراجع عن المرسوم 117 وعن كل القرارات التي ألغت دور البرلمان والمؤسسات المنتخبة والدستور.
وفي المقابل، مع ثناء الوزير السابق والقيادي المنشق عن «حركة النهضة» سمير ديلو على مبدأ تعيين امرأة على رأس الحكومة، فإنه أعرب عن «أسفه» لأن هذه الخطوة جاءت في مرحلة تواجه فيها كل مؤسسات الدولة أزمة شرعية قانونية ودستورية «داخلياً وخارجيا» منذ القرارات الرئاسية الصادرة يوم 22 سبتمبر الماضي.
هذا، بينما وقع عشرات من أعضاء البرلمان الذي علق الرئيس التونسي أشغاله، لوائح تطالب بـ«استئناف العمل البرلماني والمسار الديمقراطي» في رد على هذه القرارات، رحّب أعضاء في الكونغرس الأميركي وسياسيون أوروبيون بارزون بتعيين بودن. إلا أن هؤلاء اعتبروا في تصريحات جديدة أن نجاحها مشروط بمعالجة الملفات الاقتصادية الاجتماعية المتراكمة وبأن تكون الحكومة «خاضعة لرقابة مؤسسة تشريعية منتخبة». فهل يؤدي تعيين حكومة نجلاء بودن إلى إخراج تونس من أزمتها... أم يعمق الأزمات المتراكمة منذ سنوات؟



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.