لبنى وقيس بن ذريح... السرير الزوجي الذي عصفت به رياح الفقدان

علاقتهما الفريدة تؤكد أن الحب العذري ليس «استبعاداً» للجسد ولا رديفاً للعذرية

صورة تخيلية لقصص العذريين
صورة تخيلية لقصص العذريين
TT

لبنى وقيس بن ذريح... السرير الزوجي الذي عصفت به رياح الفقدان

صورة تخيلية لقصص العذريين
صورة تخيلية لقصص العذريين

لم يكن لقصة قيس بن ذريح وحبيبته لبنى بنت الحباب أن تدخل في سياق هذه السلسلة من المقالات المتعلقة بزواج المبدعين، لو لم تتوج علاقة الثنائي العاشق بالزواج، خلافاً لكل العلاقات المماثلة التي لم يظفر خلالها شعراء بني عذرة الآخرون بغير سراب الحبيبة المعشوقة المفضي إلى الجنون والموت. ولعل قصة الشاعر الذي أُلحق اسمه بحبيبته لبنى على غرار أترابه من العذريين، هي إحدى أكثر قصص ذلك الزمن مصداقية، وقدرة على الإقناع. لا أقول ذلك من منطق التشكيك العميق بكل ما نقله إلينا الرواة من قصص الحب المماثلة، أو الدحض الكامل لإحدى أنبل الظواهر الشعرية والإنسانية التي عرفها العرب في تاريخهم، بل لأن وقائع القصة تتغذى من عناصر واقعية قابلة للتصديق، بقدر ما هي قابلة للحدوث، ولو بنسخ مختلفة، في غير زمان ومكان. ولعل هذه العناصر المشار إليها هي التي دفعت الكاتب المصري طه حسين إلى القول في كتابه «حديث الأربعاء» إن قصة حب قيس للبنى هي «قصة جيدة حقاً، ولا ينبغي أن تقرن بهذا السخف الذي تحدث الرواة به عن المجنون، ولا إلى هذا الفتور الذي ذكروا به حب جميل لبثينة». على أن وضع الأمور في نصابها يستوجب العودة إلى ما حفظه تاريخ الأدب من سيرة الحبيبين، اللذين بدا ارتباطهما الزوجي خروجاً عن السياق المألوف للحب العذري، قبل أن تذهب الأمور مرة ثانية إلى مآلها المأساوي.
قد يكون أبو الفرج الأصفهاني في كتاب «الأغاني»، هو أحد أكثر مؤرخي الأدب الذين أولوا عناية خاصة بسيرة قيس بن ذريح وتعقب أخباره مع لبنى، وصولاً إلى الاستشهاد بالكثير من نصوصه الشعرية التي تنضح بالحزن الشفاف واللوعة الصادقة. أما الخطوط العامة للقصة فتبدأ مع مرور قيس بإحدى خيام بني كعب بن خزاعة مستسقياً الماء، وقد استبد به العطش. وما إن خرجت إليه لبنى بنت الحباب لتعطيه حاجته، وهي «امرأة مديدة القامة، شهلاء وحلوة المنظر والكلام» حتى وقعت في نفسه ووقع في نفسها في الآن ذاته. وبعد أن دعته إلى الخيمة ليبترد، أقبل أبوها فأكرمه وأطعمه، حتى إذا عاد إلى منزله وأخبر أباه بالأمر، طالباً منه خطبتها له، رفض الوالد الثري ذلك، لأنه كان يخطط لتزويج ابنه الوحيد بإحدى بنات عمه، كي لا تقع ثروته وميراثه في قبضة الغرباء. وإذ يستعين قيس لتحقيق مأربه بالإمام الحسين بن علي، الذي كان أخاً له في الرضاعة، استجاب الحسين لطلبه وزار كلاً من الطرفين المعنيين بالمصاهرة، فاستجابا له دون تردد، بما سمح للعاشقين الفتيين أن يطفئا بالزواج اللوعة التي لم يتمكن من إطفائها أي ثنائي مماثل من بني عذرة. ولكن السعادة التي ظللت الزوجين الوالهين سرعان ما تبددت، مخلية بريقها الآسر للكثير من الكوابيس.
كانت الحمى التي أصيب بها الزوج العاشق في أحد الأيام هي الذريعة الملائمة لمفاتحته من قبل والديه بشأن تطليقه للبنى، التي لم تنجب له طفلاً تؤول إليه ثروة ذريح الطائلة. وحين رفض قيس الانصياع للضغوط أقسم الأب بألا يظلله أي سقف قبل أن يقوم ابنه بتطليق زوجته، ثم راح لأسابيع لاحقة يقضي أيامه تحت الشمس اللاهبة لصحراء الحجاز، حيث يروي أبو الفرج أن قيساً الممزق بين عشقه لامرأته وبين خوفه على أبيه، كان يحرص على الوقوف إلى جانب هذا الأخير ساعات عديدة من النهار لكي يظلله من وهج الشمس، قبل أن يستسلم في لحظة ضعف لاحقة للأمر الواقع، ويقوم بتطليق لبنى. ولم يكد أهل الزوجة المهانة يرحلون بابنتهم بعيداً، حتى كان الزوج المغلوب على أمره ينتبه إلى الكارثة التي ألحقها بنفسه، ثم يشحذ على سكين الندم والحسرة كل ما أوتيه من ملكة النظم الشعري. بعد ذلك يشكو والد لبنى أمره إلى معاوية، وقد شعر بالإهانة والحرج بسبب تشبيب قيس العلني بابنته المطلقة، فطلب الخليفة من والي المدينة مروان بن الحكم إهدار دم الشاعر، كما طلب من والد لبنى أن يبحث عن زوج آخر لابنته، وهو ما حدث بالفعل، حيث تم تزويجها لخالد بن حلزة الغطفاني، وهو ما أفقد قيس توازنه العقلي ودفعه إلى محاولة اللقاء بها دون طائل. لكن الصدفة تفعل فعلها في هذا الصدد، إذ إن قيساً نزل بعد ذلك في المدينة المنورة عارضاً ناقة له للبيع، فاشتراها أحد الأشخاص طالباً إليه أن يوافيه إلى منزله ليدفع له المال. ويصدف أن يكون الشاري هو زوج لبنى بالذات، حتى إذا التقى الحبيبان على غير موعد، أصابهما من الاضطراب والذهول ما جعل الزوج الغافل ينتبه إلى ما يجري، وصولاً إلى الوقوف على الحقيقة الصادمة.
وكما هو الحال في الكثير من قصص العذريين، تتعدد الروايات بعد ذلك. فثمة من قال إن قيس بن ذريح عمد إلى الاستعانة مرة أخرى بالإمام الحسين، الذي أقنع خالد بن حلزة بتطليقها لتعود ثانية إلى الرجل الذي أحبته. وثمة من نفى ذلك جملة وتفصيلاً، ليؤكد أن قيساً ما لبث أن هام، بعد لقائه الأخير بلبنى، على وجهه، ولم يجد له مهنة، وفق أكثر الرواة، سوى البكاء والنشيج والتمرغ ونظم قصائد الندم على ما فات من أيام سعادته الآفلة. حتى إذا قضت لبنى نحبها بفعل مرضٍ أصابها لاحقاً، لم يصمد العاشق الملتاع سوى أيام معدودة، قبل أن يواجه المصير نفسه.
ثمة الكثير بالطبع مما يمكن قوله بشأن هذه القصة المؤثرة التي يجمعها بالشعر العذري إخلاص الشاعر العاشق لامرأة واحدة، ووقف كل ما ينظمه من شعر على ذكرها والتغزل بمحاسنها، والتحسر على ما فات من أيام وصالها الوردية. لكن ارتباط العاشقين بعلاقة زوجية طويلة استمرت وفق بعض الرواة لسنوات عشر، يمنح هذه التجربة طابعها المتفرد، ليس فقط من زاوية دحض الجناس الشائع حول علاقة الحب العذري بالعذرية والتبتل التام، والنأي به بالتالي عن أي شبهة جسدية وشهوانية، بل من الزاوية المتعلقة بقدرة الحب على الصمود في وجه الأعاصير، وعلى البقاء مشتعلاً رغم انتقاله إلى خانة الزواج، وما يرتبه ذلك من حالات الضجر وانتفاء الدهشة وتصادم الأمزجة. إذ لطالما تغذى الحب العذري من سحر المسافة الفاصلة بين الطرفين، التي تتيح لكليهما أن «يخترع «الآخر من عنديات أحلامه وهواماته الشخصية. حتى إذا أخلت هذه المسافة مكانها للحضور المحسوس، فقدت العلاقة الكثير من وهجها وسحرها السابقين. وهو ما يؤكده قول جميل بن معمر عن بثينة:
يموت الهوى مني إذا ما لقيتُها
ويحيا إذا فارقتُها فيعود
كما أننا لا نستطيع في هذا السياق أن نُغفل الأبعاد الاجتماعية والطبقية والدينية لهذه التراجيديا العاطفية والإنسانية التي دفع الزوجان العاشقان ثمنها الباهظ. فالتفاوت الطبقي الواضح بين عائلتي قيس ولبنى هو الذي وفر لمأساتهما المشتركة عناصر الاكتمال. صحيح أن المقدس الديني، ممثلاً بالإمام الحسين، هو الذي تكفل بردم الهوة الفاصلة بين العائلتين، إلا أن فترة التعايش القلق لم تدم طويلاً قبل أن ينجح أهل قيس في دفعه أخيراً إلى تطليق زوجته، بدعوى عجزها عن إنجاب طفل يحفظ لعائلة الأب ميراثها وثروتها الطائلة. أما الشاعر الذي غلبه الندم فقد راح ينشد بحرقة بالغة:
يقولون لبنى فتنةٌ، كنتَ قبلها
بخيرٍ، فلا تندمْ عليها، وطلّقِ
فطاوعتُ أعدائي وعاصيتُ ناصحي
وأقررتُ عين الشامت المتخلّقِ
وددتُ وبيتِ الله أني عصيتُهم
وحُمّلتُ في رضوانها كل موبقِ
فتنكرُ عيني بعدها كلّ منظرٍ
ويكره سمعي بعدها كلّ منطقِ
واللافت هنا أن المسؤولية عن عدم الإنجاب قد تم تحميلها إلى الزوجة لا الزوج، دون أي يمتلك والدا قيس الثريان أي دليل قاطع على ذلك، وهو ما يعكس القيم الاجتماعية السائدة آنذاك، حيث كان على المرأة بوجه عام أن تدفع الكلفة الباهظة للغلبة الذكورية بمستوياتها المختلفة. ولعل هذا الواقع بالذات هو ما يجعل من الحب العذري، إضافة إلى جمالياته الفنية وعذوبته الآسرة، إعلاءً غير مسبوق لمكانة المرأة المعشوقة، كما لجوهر الأنوثة الكونية، وسط عالم الصحراء المثخن بالعنف و«العطش» الروحي والخوف من المجهول، بما يكسب طلب الماء واستسقاءه من قبل قيس، وتلبية لبنى لذلك الطلب، قيمة رمزية بالغة الأبعاد والدلالات. وإذا كان العطش قد تجدد ثانية يتجدد مع فراق الحبيبين، فلأن الأسطورة لا تقبل لبطلها أن يرتوي، ولأن «العالم العذري هو صحراء من السراب، لا يموت فيها الإنسان إلا من الظمأ»، وفق ما يقوله الطاهر لبيب في كتابه المميز «سوسيولوجيا الغزل العربي».
وللتراب أيضاً رمزيته الخاصة في هذه التراجيديا العاطفية. فإذ ينتبه قيس فجأة إلى غياب لبنى، لا يجد في الشعر وسيلة كافية لاستردادها من عهدة الفقدان، فيتعقب بداية أثر خف بعيرها على الرمل ويشرع بتقبيله، ثم يذهب إلى حيث كان يطيب لها الجلوس فيقبل أثر قدمها هناك، ممرغاً وجهه بالتراب الذي لا تزال ذراته تتضوع بعبق لبنى وحضورها الدافئ، حيث يقول في ذلك:
وما أحببتُ أرضكمُ ولكنْ
أقبّل إثْر مَن وطئ الترابا
لقد لاقيتُ من كلَفي بلبنى
بلاءً ما أُسيغ به الشرابا
إذا نادى المنادي باسم لبنى
عييتُ فما أطيق له جوابا
وإذا كان لهذه الحادثة من دلالة، فهي تدل على الأبعاد السحرية التي تكتسبها الأماكن المُخلاة من سكانها في نفوس البشر، بحيث تبدو وكأنها الامتداد الطبيعي لأجساد من غادروها، ويبدو الاحتفاظ بها نوعاً من التعويض الرمزي عن غياب ساكنيها. ولعل هذه الرمزية بالذات هي التي جعلت من البكاء على الأطلال أحد التقاليد الأكثر رسوخاً في الشعر العربي القديم. لا بل إن فكرة الطلل، بما هي تعبير عن الفقدان، تكاد تكون الفكرة الأكثر جوهرية التي ينهض فوقها مفهوم الأدب والفن.
فبعد مرور قرون عديدة على مأساة قيس ولبنى، يخبرنا الشاعر الأميركي المعاصر آرتشي أمونز بأن المشهد الأقوى الذي حرضه على الكتابة، ليس مشهد أخيه المتوفى زمن الطفولة، بل مشهد الأم التي لم تكد تعثر على آثار قدميه في حديقة المنزل، حتى قررت أن تبني حولها ما يقيها هبوب الريح، كي يظل من الحضور الملموس لابنها الراحل ما يعصمه من الاضمحلال.
على أن المأزق الذي يعيشه قيس بن ذريح، بكل ما يكتنفه من مشاعر الندم وخواء الحياة وانسداد الأفق، لن يجد طريقه إلى الحل النهائي إلا بالموت، حيث سيتكفل هذا الأخير بتلبية نداءات الشاعر الذي كان يهتف من قلب المأساة:
لقد عنّيتني يا حبّ لبنى
فقعْ إما بموتٍ أو حياةِ
فإن الموت أهونُ من حياةٍ
منغّصةٍ، لها طعم الشتاتِ
وقال الناصحون: تخلّ عنها
فقلتُ: نعم، إذا حانت وفاتي



عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

عبد الزهرة زكي
عبد الزهرة زكي
TT

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

عبد الزهرة زكي
عبد الزهرة زكي

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة، وإسهامه على مدى أربعين عاماً في المشهد الشعري العراقي.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة وتجربته الروائية:

> أنت شاعر مكرس، ولك حضور مهم في راهن الشعر العراقي. وأخيراً فاجأت القراء والنقاد برواية جديرة بالوقوف عندها، ما الذي دفع بك إلى ذلك؟

- الشعر، أتوقع الشعرَ وليس سواه، هو ما دفع بي إلى الرواية، أو بتعبير آخر هو ما ألجأني إلى السرد، وكان سرداً روائياً. للشعر فضائل كثيرة على مَن يقيم فيه، والكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر حين فتح لي أفقاً آخر في الكتابة، وهو أفق الكتابة الروائية.

منذ أكثر من عشرين عاماً كان الشعر يستدعي مني، من خلال ما كتبت من دواوين، اعتماد تقنيات «السرد الشعري» في كتابة الكثير من نصوص تلك الدواوين، حتى تكرّس هذا بشكل خاص في ديوان «شريط صامت»، وهو ديوان مكرس تماماً لرؤية الحياة في ظروف الحرب والعنف التي عاشها العراقيون، ثم ما تلاه من دواوين.

لكن الشعر، في جانبٍ مهم من صيانيته، عادة ما يحصّن نفسه من الانسحاق، ومن مواراة هويته، وذلك كلما كان بصدد الانفتاح على السرد وسواه، بهذا كنت أميّز بين السرد، كما هو في مواطنه بالرواية والقصة القصيرة وسواهما من فنون السرد النثري، وبين الطابع الخاص، التقني والبلاغي والتخييلي، لما سميته قبل قليل بـ«السرد الشعري».

بهذا، وفي موازاة اندفاعي باعتماد السرد في الشعر، كانت كتابتي في النثر تنمّي قدراتها حتى صار السرد في أحيان كثيرة من مستلزمات كتابتي المقالة، وحتى بعد ذلك حين أنجزت كتاب «واقف في الظلام»، وهو كتاب أقرب إلى السيرة الشخصية ممتزجة بسيرة مجتمع خلال سنوات أواخر القرن الماضي، وحتى كتابتي بعد ذلك «طريق لا يسع إلا فرداً»، وهذا كما تعرف كتاب نظري في الفكر الشعري. كلا الكتابين كانا يعتمدان بشكل أساس على الإفادة من السرد. لقد عدّ بعض النقاد والقراء كتاب «واقف في الظلام» رواية سيرية، وهذا ما لم أكن مخططاً له، لكني كنت خلال العشرين عاماً الأخيرة أروي الأفكار والرؤى والوقائع، والقصائد أيضاً كحكايا، كوقائع سيرة للأفكار والأحداث.

> لم تشر، في هذا السياق والاستذكار، إلى كتابك الأخير «في نبض العالم»، وهو كتاب مكرس بالكامل عن الحياة في العمى، لقد امتزج فيه السرد بالشعر بشكل حاد، أعتقد أنه حمل عنواناً فرعياً تصف به نصوصه على أنها «سيرة الأعمى، وقد رأى كل شيء»...

- نعم، هذا الكتاب ما كدت أكمله، وقد استغرق مني عاماً، حتى وجدته يسلمني مباشرة إلى كتابة الرواية، «غريزة الطير».

> تريد أن تقول إن الرواية كانت بوحي من هذا الكتاب؟

- لا، أبداً... لكن كتاب «في نبض العالم» كان قد مضى بي إلى السرد، إلى أقصى ما مضيت به في السرد، لقد خرجت منه وأنا مشبع بروح السرد وطاقته.

في الحقيقة بقيت سنوات طويلة كنت آملاً خلالها أن أكتب رواية، ولم أستطع ذلك، لم أجرب، لم أحاول. فجأة وجدتني أكتب وأستمر أكتب بلا انقطاع. كنت أشعر أني ممتلئ بطاقة كبيرة على السرد، كما لو أن سنوات التمني كانت خزانة ملؤها تلك الطاقة، لقد انفتحت الخزانة ومعها تدفقت كتابة السرد.

> كيف حصل هذا؟

- الحكمة التي خرجت بها تفيد ألا تقسر نفسك على الكتابة إن استعصت، ولا تتمنّع عليها إن أقبلت.

هذا ما يحصل عادة في كتابة الشعر، وأجد أنه قابل للتعميم على أي كتابة جادة ومنطلقة من دافع حقيقي.

> قوبلت «غريزة الطير» باستحسان من قبل النقاد والكتّاب، هل ستكون نقطة افتراق عن الشعر، خصوصاً أنك أصدرت كتاب «الأعمال الشعرية» بعد فترة قصيرة على صدور الرواية؟

- لا، لماذا نعتقد أنه لا تعايش ما بين الأجناس المتنوعة في الكتابة والفن؟ لماذا نعتقد ألا ينهض جنس كتابي لدى كاتب إلا على دفن جنس آخر؟ نحن بشر بأرواح ووجدان في تغير مستمر، والحاجات هي، لا نحن، التي تستدعي تقديم فن كتابي حيناً وتأخير آخر. وواقعاً حتى من دون الانشغال بالرواية من الممكن عدم الإقبال على كتابة الشعر، والعكس صحيح أيضاً. لا مشكلة في ذلك ما دامت الكتابة تعبيراً عن حاجة، تكفُّ الحاجات ربما فتكفّ معها الرغبة بالكتابة، سواء في الشعر أو في سواه.

> ولكن كلما فكّر شاعر بكتابة رواية فغالباً ما يقال إن اللجوء للرواية نتاج للإحساس بإزاحتها الشعرَ من عرشه، خاصة مع تطور هذا الفن «أعني الرواية» في العراق، في العقدين الأخيرين؟

- كلانا كما أعتقد نتحدث هنا عن الأدب الجاد، عن الكتابة الجادة. وإزاء جدية الحياة في الكتابة، شعراً أو رواية، لا أعتقد أن التنافس ما بينهما انتحاري، أي لا يقوم فن إلا بنحره فناً آخر.

نحن نحيا في عالم مستمر بتغيراته السريعة، تغيرات تلقي بظلالها على كل شيء... فرص الإمتاع تتنوع، بما يدفع بملايين البشر إلى أن ينشغلوا باهتمامات قد لا تطرأ في بالنا.

لا ينبغي لنا، نحن بشر هذه السنوات، أن نتأسى على بشر المستقبل لافتقادهم ما نراه الآن ضرورة لا تستقيم الحياة من دونها.

الشعر والأدب والفن عموماً يجري إنتاجها استجابة لحاجات منتجيها أولاً وإن انتفت حاجة المحتاجين لهذا الإنتاج مستقبلاً فلا ضير في ذلك.

أكتب الشعر كحاجة شخصية، وكتبت الرواية كاستجابة لحاجة أخرى مقابلة. في الحالين كنت أتنفّس متعتي الوجدانية والذهنية، وبالتالي فلا أقف كثيراً عند من سيبقى أو سيموت من الفنون والآداب.

> ما زلت بصدد الصلة ما بين الشعر والسرد... لكن بدا لي أثناء قراءتي الرواية أنك كنت حذراً من الوقوع في أسر الشعر بلغتك، فاعتمدت لغة واضحة، أتساءل: ما إذا كان ذلك بسبب واقعية الكثير من أحداث الرواية؟

- فعلاً كانت هذه مشكلة أثناء الكتابة. ليس من اليسير أن تعرف أنك، كشاعر، ما زلت مستمراً بلغة الشعر فيما أنت تكتب رواية. هذه مشكلة كثير من الشعراء الذين كتبوا الرواية، وهي أيضاً مشكلة كاتب الرواية غير الشاعر حين يريد «تزيين» لغة الرواية ببلاغة شعرية، هذه بلاغة غالباً ما تكون فجّة لمجيئها خارج سياقها المألوف.

سوى هذا التعمد هنالك اللاوعي، فبعد سنوات طويلة من كتابة الشعر تأخذ بلاغة اللغة الشعرية فرصها للعمل والظهور في الكتابة النثرية بتلقائية دونما وعي من الشاعر.

قد تساعد الخبرة الصحافية، لكاتب مثلي، في ضبط اندفاع لغة الشعر، لكن الكتابة الصحافية شأن آخر. ففي الرواية يكون الكاتب أمام وضع آخر لا صلة له بلغة الصحافة، إنه أمام رواية، وهي نص أدبي، تحتاج بلاغة أدبية نثرية، وهذا ما يضاعف مسؤولية الكتابة في نص أدبي روائي. كان خياري أن أرجئ التفكير في هذه المشكلة لما بعد الانتهاء من الرواية، وفعلاً قمت بأكثر من مراجعة لها، كنت أسعى خلالها لاصطياد أي أثر بلاغي شعري جاء في غير محلّه، وبالمقابل عملت على تنمية البلاغة النثرية الأدبية في نص الرواية. في كل حال هي مهمة ليست باليسيرة لكنها لم تكن مستحيلة، وكان لصبري على الرواية أثر مهم في هذا الجانب.

> هل كنت متعمداً تناص عنوان الراوية، «غريزة الطير»، بشكل أو بآخر مع «منطق الطير» لفريد الدين العطار، خاصة أن هناك تماثلاً بينهما في الثيمة المركزية، كما تتجلى سردياً في الرواية، مما يوحي بأنها نص موازٍ؟

- حقيقة لم أكن أفكر بهذا، لقد جاء هذا العنوان «غريزة الطير» متأخراً بعد إنجاز مراجعتها وبعد أكثر من عنوان لم تصمد جميعها أمام تبرّمي منها لحين ما استقررت على العنوان الأخير، وهو مستلّ من متن الرواية.

أعتقد أن اهتمامات «غريزة الطير» كانت أرضية، وثيقة الصلة والانشداد إلى حياة أفراد ومجتمع ومدينة بخلاف ما عني به كتاب «منطق الطير» من اهتمامات متعالية. الطير يتعالى في كتاب فريد الدين بينما طائر الرواية أوّاب منشدّ إلى مدينته وأرضه.

في كل حال، لا أدري، ربما يجد قارئ ما يمكن أن يؤكد الصلة التناصية التي تشير إليها ما بين الكتابين.

> إلى أي مدى ظلت «غريزة الطير» تتحدث عن إشكالية الهوية الاجتماعية، وعلاقتها بالآخر الذي يقاسمها المكان، والوجود، من خلال الشخصيات التي أرى أنها استحدثت بقصدية واضحة؟

-ـ كنت منشغلاً في الرواية، بجانب أساس منها، بمصائر الأرستقراطية الوطنية العراقية، التي نشأت في أربعينات وخمسينات القرن العشرين وبدأت بالاندحار ما بعد ذلك. الأب سليمان زيني كان عضواً فاعلاً، في شبابه بالبصرة، بالحزب الوطني الديمقراطي، وكنت أرى فيه معبّراً إلى حدٍّ ما عن مصير الليبرالية العراقية، وهذا جانب من سيرورة المجتمع لم يحظَ باهتمام يذكر سواء في الأدب أو الفكر السياسي.

نحن بشر بأرواح ووجدان في تغير مستمر، والحاجات هي، لا نحن، التي تستدعي تقديم فن كتابي حيناً وتأخير آخر

> الشخصية المحورية آدم زيني، تقدمه بوصفه المرشد والحكيم، فالجميع يخطب وده وينشد حمايته، حتى (الأب) سليمان زيني يقول عنه: «هو معلمي»، هل هناك قصدية ما في بناء هذه الشخصية، أم هو اعتراف، وانحياز منك، لحكمة ودراية الآخر ذي النسب الإنجليزي؟

- سعيت كثيراً من أجل أن أضمن لشخصيات الرواية حريتها، استقلاليتها عني. من هنا تمتع آدم بقدر وافٍ من الحرية التي جعلت منه شخصاً يبدو مستقراً آناً ومضطرباً في آنٍ آخر. كل شيء واضح في ذهنه، لكن التعبير عن كل شيء يظل بالنسبة له غير ممكن وغير واضح وحتى ملتبساً بالنسبة للآخرين.

لا أستطيع هنا التحدث عن شخصية مثل شخصية آدم. ثمة الكثير لم تقله الرواية، وهو مما ظل يعتمل في دخيلة آدم، وبعض هذا الكثير يستعصي فهمه وإدراكه علي أنا المؤلف الذي متّع شخصيات روايته بحريتها واستقلالها عنه. لم يكن هذا خللاً في البناء الروائي، إنما هو تعبير صامت عن طبيعة شخصية آدم، وهي طبيعة كتوم.

شخصية آدم هي من نسج جهده الشخصي في أغلب طباعها. بالتأكيد هو وَرِثَ جانباً من خصال أمه، المحافظة الإنجليزية وبعضاً من طبائع أبيه الليبرالي العراقي، لكن آدم ظل ماهراً في صنع شخصيته كما أرادها هو وحرص عليها.

> حكاية (جاسم السماك)، وهو شخصية ثانوية في الرواية، حول رؤيته رفض الكلاب نهش جثث القتلى عام 1991. هل ترى ذلك إحالة واضحة للواقعية السحرية، والتي يرى الكثير من النقاد التأثر الواضح للروائيين العراقيين بها؟

- حكاية جاسم حقيقية، روى لي صديق بصري واقعتها. في أحيانٍ كثيرة كان واقعنا أغرب من الخيال. ثمة الكثير من الكنوز السوداء التي ينبغي للأدب أن يخرجها من خزائن الألم العراقي، ما زال أدبنا زاهداً بهذه الكنوز.

> قبل أن أودعك، هل من رواية أخرى؟

- أنجزت بشكل أولي رواية قصيرة «السيدة مفسّرة الأحلام»، أبقيتُها بعيدة عني منذ أسبوعين، ربما أحتاج إلى أسبوع آخر لأعود بعده إليها بهدف المراجعة قبل دفعها للنشر.