ما يجب أن يبقى سراً في الرواية

الكاتب الحسَّاس يعرف كيف يترك للقارئ فراغات يملأها بنفسه

من أجواء «ألف ليلة وليلة»
من أجواء «ألف ليلة وليلة»
TT

ما يجب أن يبقى سراً في الرواية

من أجواء «ألف ليلة وليلة»
من أجواء «ألف ليلة وليلة»

في القصة الإطار لـ«ألف ليلة وليلة» نعرف أن مملكة الشقيق الصغير الزائر تقع في «سمرقند العجم»، لكننا لا نعرف مكان مملكة شهريار الذي تدور القصة في مخدعه. لا نعرف كيف أدار شؤون مملكته خلال سنوات ثلاث، وماذا جرى في الليالي غير الكلام؟ لكننا نعرف في النهاية أنه أنجب ثلاثة أولاد من شهرزاد التي تلازمها أختها دنيا زاد، لم يذكر السرد شيئاً عن ذلك، كما لم يذكر أن شهرزاد قد عانت يوماً من ضجر الحمل ولم تنل إجازة وضع!
يختفي شاه زمان من السرد بعد أن خلق العقدة، كما يختفي الوزير والد الصبيتين بعد وضع العقدة على طريق الحل، عندما توجه في الصباح الأول حاملاً كفن ابنته ووجدها حية، ولم يظهر الرجلان بعد ذلك إلا في الختام السعيد لليالي!
وفي الحكايات التي ترويها شهرزاد نلتقي دائماً بالمخفي داخل النص. قد يكون الإخفاء بقصد الإرجاء والكشف لاحقاً أو يكون إخفاء تاماً متروكاً لتأويلات المتلقي.
في ذلك النص العبقري تنمسخ المدن لأسباب منها الضلال والكفر ومنها كيد العشَّاق، بينما كانت مدينة النحاس مدينة فاضلة غنية، ومحكومة بالعدل. المدينة مهيبة جامدة، كل بشرها جامدون على الهيئة التي كانوا عليها لحظة موتهم. الذهب والفضة والتحف بالقناطير، وفي كل ركن منها تحذير من غرور الدنيا، نجده مكتوباً على الأسوار، وعلى مائدة الطعام، ثم يصل المستكشفون إلى صبية كالقمر تبدو حية، لكنها «صورة مدبرة بالحكمة وقد قُلعت عيناها بعد موتها وجُعل تحتهما زئبق، وأعيدتا مكانهما فهما تلمعان كأنما يحركهما الهدب - الليلة السادسة والسبعون بعد الخمسمائة، طبعة بولاق»، من الذي صنع هذه الحيلة، ولأي غرض؟ للعبرة؟
بجوار الملكة الميتة لوح مكتوب عليه ما يستكمل قصة المدينة. اسم الفتاة مكتوب على اللوح: «أنا ترمز بنت عمالقة الملوك من الذين عدلوا في البلاد، ملكت ما لم يملكه أحد من الملوك». في بقية اللوح نعرف أنها من عائلة ملوك لم تظلم ولم تكفر؛ ولم تُمسخ المدينة، لكن أصابها قحط لسبع سنوات، فأحضرت الملكة المال وكالته بمكيال وأرسلت به الثقاة من الرجال فطافوا به جميع الأمصار في طلب شيء من القوت فلم يجدوه.
اسم الملكة «ترمز» هل هذا مجرد تغريب، أم أنه تنبيه إلى رمزية القصة؟
اهتم مبدعو ألف ليلة المجهولون بمساحة الشريك؛ لأن الكتابة ليست عملاً مستقلاً عن القراءة، بل شيء واحد كالحب؛ يقوم على تضامن وتوافق الكاتب والقارئ. والكاتب الحسَّاس يعرف كيف يترك للقارئ فراغات يملأها بنفسه وتجعله حريصاً على الاحتفاظ بالكتاب لقراءات تالية.
في القراءة الأولى يستمتع المتلقي بالواضح من المذاق والرائحة والشكل، لكنه يعود لاحقاً بحثاً عن ذلك الشيء المستعصي على التعيين. للفضول طعم حريف، يدفع المتذوق إلى العودة لاكتشاف ذلك المخفي، وفي كل مرة يقف على سر يجعله أكثر تمسكاً بالرواية، ومن حسن الحظ أن فضول القارئ لا يُعرِّضه للمخاطر التي يتعرض لها أبطال الليالي عندما يدفعهم فضولهم إلى فتح باب أو فض ختم قمقم.
أحياناً ما يكون الإيهام بوجود السر أقوى من السر. هذه الحيلة تكاد تكون يابانية، خصوصاً لدى الكبيرين ياسوناري كاواباتا ويوكيو ميشيما، هناك دائماً تهديد أو وعد أو شروع في عمل لا يتحقق أبداً.
في رواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ نتذوق نكهة حارة من الغضب بينما نلاحق تحركات سعيد مهران للانتقام من أعدائه: زوجة خانته وتابع لم يحفظ له هيبته وصديق الدراسة الذي زرع فيه الغضب ضد التفاوت الطبقي وأقنعه بأن سرقة الأغنياء مشروعة، بينما انسجم معهم وصار صحافياً مشهوراً وثرياً، ولو تمكن من الوصول إلى نبوية وعليش ورؤوف، لصارت الرواية واحدة من روايات القتل المتتابع وسط ملاحقات الشرطة وضمنت رواجاً كبيراً لمرة واحدة، لكن نجيب محفوظ أخفى فيها ما أنقذها من هذا المصير: القدَر!
الدرس الأول للنجاح في عالم الجريمة هو التخلي عن العاطفة، ويمكننا بشكل جزئي إرجاع إخفاق سعيد مهران إلى العاطفة؛ رغبته في استعادة ابنته وحبه لنبوية الذي لم يبرأ منه جعلاه يتحرك للانتقام سريعاً فور خروجه من السجن، بينما كان عليه أن يمنح أعداءه الأمان ببعض الهدوء عقب خروجه من السجن، حتى يتصوروا أن ما يعنيه هو بدء حياة جديدة مسالمة.
لكن القدر كان أساسياً في ذلك الإخفاق؛ جعله محفوظ بطلاً - والقدر خفاء بطبعه - الخطة محكمة في المرتين لكن القدَّر يضع ضحية بريئاً مكان الشخص المقصود؛ فتتضاعف نار الغضب في قلب سعيد مهران بسبب هذه الخسارة المزدوجة: إفلات العدو وقتل بريء!
مرة بعد مرة، أصبح واضحاً أن خصم سعيد مهران ليس حفنة أشرار، بل القدر. لا تقول الرواية ذلك صراحة، لكن خروجه من مخبئه في شقة «نور» كان قراراً باسلاً بتحدي القدر. يعرف أن الخسارة مؤكدة، لكنه لم يتحمل العيش في ذعر كلما سمع وقع خطوات على السلم خارج الشقة، فخرج ليلقى قدره كما يليق بالخاسرين الكبار.
شخصية «نور» فتاة الليل من أولها إلى آخرها تجرنا للحديث عن المهارة في إبداع الشكل. هي طاقة الحب الحلو في الرواية، وجودها ضروري لمعادلة طعم الحقد المالح. أرجأ محفوظ ظهورها حتى ضاقت الأرض على سعيد مهران، ولم يقبل بإيوائه أحد سواها، وسنعرف أنها كانت تعشقه قبل أن يدخل إلى السجن، ولم يلتفت إليها، حتى هداياها كان يعيد إهداءها إلى نبوية التي لم تكن بائعة هوى مثل المخلصة نور.
وتواصل «نور» تفانيها في حب سعيد من طرف واحد، وترحب باستضافته في شقتها، وهي تعرف أنها بذلك تؤوي قاتلاً تطارده الشرطة. من فتوره تجاهها تكتشف المخفي وراء نار الانتقام المشتعلة في قلبه: لم يزل سعيد مهران يحب المرأة التي تركته وتزوجت أحد صبيانه وتراهن على قوة حبها لتخليصه من شره وكسبه حبيباً. تغيب طوال النهار في أقسى عمل في التاريخ، وتعود مثقلة بالجراح إثر اعتداء شباب عابثين، أو منهكة بعد ساعات طويلة من الاحتجاز بقسم الشرطة، دون أن تخلو يداها من الكباب الساخن والشراب. وذات يوم تخرج ولا تعود. ويبقى مصيرها مجهولاً: هل ماتت على يد بعض زبائنها؟ هل اختطفها أحدهم؟ هل انتهت سجينة؟
تتنوع الأشياء المخفية التي يتركها الكاتب الحساس للقارئ كي يكمل بنفسه ذلك الخط المقطوع أو يسعى لاكتشاف معنى لا ينبغي أن تقوله الرواية صراحة.
في بعض الأحيان يكون الخفي جوهر الرواية وكل الظاهر في السرد تكون مهمته إبراز خفاء هذا الخفي. في محاكمة كافكا ولجنة صنع الله إبراهيم لا نعرف التهمة، ولا نرى وسائل قهرية لإرغام المتهم، لكننا نستشعر ثقل المحاكمة في انصياع الشخص البريء الذي يرى نفسه ملزماً بالخضوع للمحاكمة.
التهمة في الروايتين خفية، كخفاء الجبلاوي في «أولاد حارتنا»، وخفاء «غودو» صمويل بيكيت، وخفاء جيش العدو المجهول في «صحراء التتار» لدينو بوتزاتي.
الخفاء أعلى سلطة في الكون، وكذلك في الرواية.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.