حنه أرنت... النسوية بين العنف والقوة

جاكلين روز
ترجمة: سعد البازعي

يضغط الزمن الذي نعيش فيه على أي نسوية أن تتعامل مع ما نلاحظه من العنف المزداد، أو ما يمكن مشاهدته على أنه بالتأكيد عنف متزايد، ضد النساء. في عام 2019، وصل عدد حالات القتل المنزلية للبالغين في المملكة المتحدة رقماً لم تبلغه منذ خمسة أعوام، وثلاثة أرباع الضحايا كن من النساء. في فبراير (شباط) 2020، قالت التقارير إن عدد النساء اللاتي قتلن على يد شريك حالي أو سابق ارتفع بمعدل الثلث، ليصل إلى رقم لم يبلغه منذ 14 عاماً. ومما يقلق أن حوادث العنف هذه ضد النساء لا تنقص، كما يبدو، مع ازدياد المساواة. العنف ضد النساء في الدنمارك وفنلندا والسويد، التي يُثنى على مستوى المساواة الجندرية في كل منها، تجاوزت نسبته ما في المملكة المتحدة.
الإحصائيات مروعة. لكني لا أريد الاستمرار في إيراد كل أشكال العنف العالمي المزداد ضد النساء، كما في أحد أنواع التكتيك النِسوي. إن مما لا يخدم النسوية أن يحول العنف إلى ابتهال، كما لو أن الطريقة الوحيدة لجعلنا نفكر برعب كهذا هي في إبرازها بالكلام. حين ننظر إلى صورة امرأة ماتت في 11 سبتمبر (شباط) يجب ألا يكون السؤال النسوي، في رأيي، من تسبب في إيذائها قبل ذلك؟ ولا أود منا، حين ننظر إلى عظام امرأة من حضارة قديمة، أن نراها مكسورة بالضرورة. استراتيجية كتلك لا تعيينا في التفكير على نحو نقدي.
في اعتقادي أن العنف ضد النساء من أكثر أنواع الجرائم طيشاً. إنه مؤشر على أن العقل أغلق نفسه بوحشية. الطريقة المثلى للنسوية لمواجهتها هي في التعامل معها بما يستطيعه العقل البشري. العنف جزء من النفس. إنه جريمة يتوجب رفضها، ولكنه أيضاً شيء يجعله أحد أنواع النسوية، في رفضه لها... شيء يستعصي على التفكير. في تلك اللحظة تغدو النسوية شريكة في العمليات النفسية التي تؤدي إلى ممارسة العنف.
أستعير فكرة الطيش من حنة أرنت، التي أستدعيها هنا لأنها تقترح طريقة جديدة في التفكير حول العنف ضد النساء في عصرنا.
تقترح أرنت أن في عملية التفكير الإنساني هناك غالباً ما لا يطاق، ويعود ذلك بصفة خاصة إلى أن التفكير يمارس دور الكابح للتصور الفانتازي أن العالم يحتاج إلى من يسيطر عليه، ويحول بذلك دون أن تحقق تلك الفانتازيا الخطرة ضرراً غير معروف حين تمضي على هواها. فالعنف بالنسبة لها لون من الخداع الذاتي - أو «عجز الضخامة»، لو استعدنا عبارتها الموحية - الذي يعاقب العالم، يعاقب النساء، كما يمكننا القول، لمحدودية القوة البشرية. (المضامين الجندرية لعبارتها واضحة بقوة وإن لم تبرزها بنفسها). تقول في مفتتح كتابها «الوضع البشري»: «ما أقترحه، لهذا السبب، بسيط جداً. إنه ليس أكثر من التفكير بما نفعل».
كما هي الحال مع أرنت، بساطة كهذه خادعة. لا بد من معركة من أجل التفكير. فالتهديد يأتي من كل جانب، وليس أقل مصادر الخطر المعرفة الوهمية التي تتركنا تحت رحمة كل جهاز صغير يمكن الحصول عليه، «بغض النظر عن مدى قدرته على القتل». العقل تحت الحصار، والتفكير هو الكابح الوحيد ضد خبرات القتل والصمت القاسي في العنف الصرف الذي يُسكت نفسه كما يُسكت ضحاياه.
ليست أرنت، بتعبير مخفف، مشهورة بمساهماتها النسوية. لكن يمكن النظر إليها، رغماً عن نفسها تقريباً، على أنها رائدة لنوع من التحليل النسوي الذي يتتبع إخضاع النساء والعنف الذي ينتج غالباً عن توزيع العمل - أو بالأحرى تخصيص مكان المرأة - في المنزل. أنموذجها السياسي المثالي هو الفضاء الإغريقي المتمثل في المدينة - الدولة. هناك «كان رأس الأسرة يحكم بقوة مستبدة». الحرية محصورة في العالم السياسي، في حين كانت الأسرة المكان الذي لا غنى عنه، البيئة الأساسية والفوضوية لحياة المخلوقات (وليس العمل المنزلي كما نفهمه اليوم). إنه المكان الذي تجب السيطرة عليه لكي يتحرر الرجل. ومن هذا التمييز القسري كان من المؤكد أن يأتي العنف. يصير، كما تكتب أرنت، «الفعل ما قبل السياسي لتحرير الذات من ضرورة الحياة وصولاً إلى حرية العالم». ذلك هو السبب في أن الرق لا يعني فقط فقدان الفرد حريته، وإنما أن يكون خاضعاً لعنف صنعه الإنسان. وهذا أيضاً السبب وراء غياب التقسيم الجنسي للعمل، لأن تلك الفكرة تتكئ على الأقل على فرضية المساواة الرسمية بين الرجال والنساء، في حين أن فرضية كتلك غير موجودة. النساء والرقيق - وأرنت بكل تأكيد لا توافق على المساواة بينهم - يقفون في ومن أجل المكان الذي تكون فيه ضرورة العالم خاضعة للاستبداد المتوحش.
الكلمة المفتاح هنا هي «التسيد» الذي تراه أرنت هوساً، سواء كان في العالم أو في القلب. لذا فإنها حين تقيم تمييزها الشهير بين العنف والقوة في قلب كتابها «حول العنف»، فإن ما يهم هو أن الحكومات ستلجأ إلى العنف بقدر ما تنحدر سيطرتها وقوتها، انحدارٌ يسعى ذلك العنف يائساً إلى معالجته. (العنف يائس دائماً). تكتب أرنت: «يُمارس الحكم بالعنف الخالص حين تُفقد القوة». يمكننا القول إن عنف الدولة هو الملاذ الأخير لما هو إجرامي (كالقسوة البالغة التي رأينا نتيجة لاحتجاجات ميدان التحرير). تقول مصرّة: «إننا نعرف أو يجب أن نعرف أن كل نقص في القوة هو دعوة مفتوحة للعنف - على الأقل، لأن أولئك الذين يمسكون بزمام القوة ويشعرون بأنها تنزلق من أيديهم... كانوا دائماً يجدون أن من الصعب مقاومة إغراء استبدال العنف بها».
تمييز أرنت الشهير بين العنف والقوة مهم حين نتأمل النسوية التي سبقت الإشارة إليها - تلك التي ترغب في ربط العنف بقوة الرجل، ليكون العنف بذلك التعبير الحتمي عنها». (يجعل هذا من قوة الأنثى، بتعبير كاثرين ماكينون الشهير، «تناقض في العبارة»). تعيننا أرنت على رؤية معادلة كتلك على أنها الكذبة التي يكرسها العنف، على أساس أنه سيفعل كل ما يستطيع - أن يدمر النساء والعالم - بدلاً من أن يعترف بأن قوته لم تعد مضمونة. تصير النساء ضحايا لمعرفة الرجال اللاواعية بنقطة ضعفهم المشتركة. نقطة ضعف كتلك، كما تقول أرنت، تأخذنا إلى أكثر ممرات الحياة والعقل ظلمة، إلى «فضاء الولادة والموت» التي لا بد من استثنائها من الفضاء العام لأنها «تؤوي الأشياء المخفية عن أعين الرجال والتي لا تستطيع المعرفة البشرية أن تخترقها. إنها مخفية لأن الإنسان لا يعلم من أين أتى حين ولا أين يذهب حين يموت». العنف هو رد فعل الرجل على خدعة قوته وحدود معرفته.
إنها ضخامة عاجزة فعلاً.
إن لم نخصص وقتاً للتأمل في هذا الارتباط بين العنف والقوة فلن نفعل شيئاً لإنهاء العنف في العالم، وسنمارس العنف بالتأكيد على أنفسنا.
* باحثة بريطانية وأستاذة الإنسانيات في كلية بيركبيك.
من كتابها «حول العنف وحول العنف ضد النساء».
مجلة «هاربرز (Harpers)»
(أبريل، 2021)