رسائل البسطاء وأحلامهم في معالجة بصرية

الفنان فتحي عفيفي يطلقها عبر فضاء معرضه «الكادحون»

فتحي العفيفي
فتحي العفيفي
TT

رسائل البسطاء وأحلامهم في معالجة بصرية

فتحي العفيفي
فتحي العفيفي

رسائل متعددة فنيا وإنسانيا على مستويي الرؤية والمضمون ترسلها أعمال الفنان فتحي عفيفي في معرضه «الكادحون» المقام حاليا بـ«جاليري مصر» بالقاهرة، والذي يستمر حتى نهاية الشهر الحالي. واللافت أن هذه الرسائل ربما لا يقصدها الفنان نفسه، إلا أن لوحات المعرض تؤكد عليها، فهي تتعاطى الفن بوصفه قيمة إنسانية في المقام الأول، ولذلك توحد بين فضائها التشكيلي، وفضاء الواقع المعيش، حيث تبدو اللوحة بمثابة جسر لفهم الواقع بكل تبايناته، والبحث عن نقاط مشتركة للتحاور معه، وفي الوقت نفسه، لا تنفصل حريتها جماليا عن حرية البشر الكادحين المهمومين بالعيش تحت وطأة هذا الواقع.
بهذه الروح ينوع الفنان استعارته البصرية للواقع في لوحاته، حتى تكاد تكون صدى لمعاناتهم اليومية، وإرادتهم في التشبث بالحياة، منطلقا من سياقات فنية تتسم بالبساطة والتلقائية، فلا يضع شخوصه وأشكاله في تعقيدات تشكيلية تسبح في فضاء صوري غير حقيقي، مشحون بعاطفة عابرة. وإنما يبدو التكوين في لوحات المعرض، وكأنه نابع من طينة الواقع، وبعاطفة مسكونة بهواجسه وأحلامه وأشواقه، تنعكس على طبيعة الرسم نفسه، فتجعله أكثر بروزا وإطلالة على الخارج العام، يتقاطع معه في معالجات وسيناريوهات بصرية شيقة للمشهد، سواء في سياقه الجماعي برصد حيوية الكتلة ودبيبها الفوار في حركة البشر والجموع، أو في سياقه المفرد بالعزف على أوتار حالات إنسانية خاصة، تنشعل اللوحة باصطياد ملامحها ونجواها الداخلية بشحنات تعبيرية شفيفة، فتبدو المعاناة الفردية واضحة ومكثفة في تفاصيل الوجه، وتتناغم مع بقية عناصر الصورة وكأنها بمثابة ترديد بصري لمعاناتها أصلا في علاقتها مع الواقع.
وعلى ذلك، ينشغل الفنان في لوحاته، بعنصرين أساسين، يشكلان - برأيي - بوصلته الفنية لتوازنات الشكل والمنظور والتكوين والفراغ. يتجسد هذان العنصران في الإضاءة واللون، بخاماته المتنوعة ما بين الزيت والأحبار والإكريلك. ففي بعض اللوحات يناور بالإضاءة لإبراز تأثير اللون على مسطح الصورة، وخلق مساحات تلقائية لتدرجات الظلال ومساقط النور والعتمة، يبرز هذا على نحو خاص في لوحات الجموع، حيت يتجاوز اللون ولطشاته المتناثرة قوام الرسم، بأبعاده التعبيرية المتقنة، ويتضافر مع تدرجات الظل كنواظم إيقاعية مرنة، تضيء الشكل من زوايا بصرية متنوعة، وتخفف من حدة خطوط الفرشاة الصريحة ومستوياتها الأفقية والرأسية في فضاء الصورة.. وفي اللوحات التي تأخذ طابع «الاسكتش» المفرد، يصفِّي الفنان هذه النواظم الإيقاعية، ويبعد حركة الظل عن الوجه، ليغري عين المشاهد بمحاولة التوغل داخل الوجه نفسه، وما يضمره وراءه من انفعالات وأفكار، يتردد فيها صدى الوجع والأرق الإنساني.
وأيضا لا تخلو لوحات المعرض من حس شعبي، مسكون بروح الحياة المصرية، فمشاهد الجموع المتراصة المنداحة في فضاء محطة المترو والقطار وفي المصانع وفي ساحات أخرى، وملامح أوجهها الضجرة الصامتة، لا يفارقها هذا التعبير حتى وهي تشاكس الحياة على دراجة، تمرق بها كثعبان يتلوى وسط الزحام، حاملة بيدها قفصا مليئا بأشياء من مستلزمات الحياة. كما لا تخلو اللوحات من الإحساس بحوار مكتوم في الداخل، إلى حد القمع في الواقع؛ ويتكثف هذا بصريا في معالجة الفنان فضاء المسطح أحيانا بألوان باردة، كئيبة، تبدو وكأنها انعكاس لحالة من التقشف والفقر الطاغية في الواقع. وفي بعض اللوحات، يبدو الحضور الإنساني هزيلا وقزميا، وسط أشكال ضخمة أشبه بالجدران والحوائط الصلدة، تتلاشى معها أي إمكانية للحوار، ليبدو التناقض واضحا في هوية كل منهما.
وهنا تبرز أهم الرسائل التي تحملها اللوحات في المعرض، وتكمن في انحياز الفنان لشخوصه، من منظور البحث عن حرية مفتقدة، محاصرة في الواقع، تمتد إلى فضاء اللوحة نفسه، وتلفت في الوقت نفسه إلى أن دلالة استعارته لهذه الشخوص في أعماله ليست من قبيل التوثيق الفني، أو البحث عن مضامين معينة لإحداث إثارة فنية على السطح، وإنما ليؤكد، أنه حين يحتفي بهم، يحتفي بنفسه، بالفن والحياة، وبالأمل في غد أكثر عدلا وحرية.



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.