اليوم الوطني السعودي... صفحات لم تكتب!

سيرة الرجال الذين صاغوا «النظام المقترح» لإعلان توحيد المملكة

اليوم الوطني السعودي... صفحات لم تكتب!
TT

اليوم الوطني السعودي... صفحات لم تكتب!

اليوم الوطني السعودي... صفحات لم تكتب!

في محاولة لاستجلاء الحقائق من خلال استنطاق الوثائق بحثاً وتنقيباً لتوثيق جانب مفصلي من التاريخ الوطني السعودي الحديث، ألا وهو «إعلان توحيد البلاد وتسميتها المملكة العربية السعودية»، أدلى الملك عبد العزيز لصاحب جريدة «صوت الحجاز» ومديرها محمد صالح نصيف بحديث نادر نشره تحت عنوان: «حديث خطير لجلالة الملك المحبوب» في العدد 23 الصادر يوم الاثنين 11 جمادى الأولى 1351هـ - 12 سبتمبر (أيلول) 1932م، تحدث فيه الملك المؤسس - قبل أيام من إعلان توحيد البلاد - عن عدد من القضايا ومما جاء فيه:
«إن أهم ما أسعى إليه هو تأمين الأمن في جميع أنحاء بلادي حاضرتها وباديتها، وحتى في القفار المنقطعة...».
وفي سياق آخر قال الملك المؤسس: «إن أول واجب علي هو السير في بلادي وأهليها سيرة السلف الصالح، من حيث إيصال كل ذي حق إلى حقه، وأن يكون الناس على اختلاف مراتبهم في رغد من العيش والأمن والسعي لترقى مرافق البلاد وتنظيم النظم اللازمة لإدارتها، سالكاً بذلك الطريق التدريجي الممكن...». وختم الملك حديثه بقوله: «إذا دعيت إلى أمر فيه عز العرب ويراد به خير العرب ووحدتهم وكانت الدعوة خالصة لوجه الله، فإني سأكون، كما هي عادتي، فرداً من أفراد الأمة العربية (...) وأقدم كل معونة ممكنة في هذا السبيل».
- قصة إعلان توحيد المملكة
بعد عشرة أيام، وتحديداً في الساعة التاسعة من صباح يوم الخميس 23 سبتمبر 1932م ومن دار الحكومة في قصر الحميدية بحي أجياد بمكة المكرمة، أعلن الأمير فيصل بن عبد العزيز نائب الملك في الحجاز عن ميلاد المملكة العربية السعودية رسمياً، وذلك بتلاوة الأمر الملكي رقم 2716 الصادر في 17 جمادى الأولى 1351هـ الموافق 18 سبتمبر 1932م، والمتضمن موافقة الملك عبد العزيز على تحويل اسم «مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها» إلى «المملكة العربية السعودية»، وأطلقت المدفعية 101 طلقة تحية لذلك اليوم المجيد.
الأمير فيصل كان قد وصل إلى مكة مساء الأربعاء قادماً من الطائف، وبعد الفجر، وصل عبد الله بن محمد الفضل معاون نائب الملك في الحجاز ونائب رئيس مجلس الشورى ونائب رئيس مجلس الوكلاء، وفؤاد حمزة مستشار الملك ووكيل وزارة الخارجية، الذي يروي في مذكراته التي نشرتها «دارة الملك عبد العزيز»: إنه في يوم الأربعاء 20 جمادى الأولى 1351هـ الموافق 22 سبتمبر 1932م «جاءت موافقة الملك على برقياتنا بشأن ترتيب الإعلان عن توحيد المملكة، وكذلك برقية لإبلاغ الذين رفعوا برقيات الاستعطاف إلى جلالته شكره على ذلك وموافقته على الفكرة. أحضرت صورة (النظام) الواجب نشره. كذلك تعليمات للأمراء في الملحقات مع بيان عن العمل المطلوب منهم. أبلغت المفوضيات حضورياً عن حصول التبديل. كتبت مذكرة لتوفيق (يقصد توفيق حمزة رئيس قلم المطبوعات) بالنظام وبعثت بها للممثلين (سفراء الدول الأجنبية). قر القرار على النزول إلى مكة لإعلان هذا الأمر رسمياً».

- ما وراء الإعلان
قد تكون هذه بعض عناوين قصة إعلان توحيد البلاد وتسميتها المملكة العربية السعودية، التي يُحتفل بذكراها الحادية والتسعين هذه الأيام، غير أن هناك كثيراً من التفاصيل التي تستحق أن يتعمق فيها بحثاً وتوثيقاً ودراسة وتحليلاً. حيث إنه مما يلفت الانتباه أن هذا الموضوع يتم تناوله عادة بصورة مجملة دون تعمق أو تفصيل أو حتى تساؤل أو بحث في الخلفيات والظروف المحيطة؛ بل وفي سياق موضوعات رئيسية لبحوث ودراسات أخرى، ولم أطلع على أي دراسة تناولت هذا الموضوع بشكل شمولي مستقل حتى الآن. كما أن أبطال هذه القصة وصناع أحداثها لم يتم توثيق سير عدد منهم؛ بل إن المصادر عن بعضهم شحيحة.
والقصد من هذا التمهيد هو تبيان جوانب مهمة لهذه القصة وخلفياتها من خلال تتبع المصادر التاريخية، فبالرجوع إلى الجريدة الرسمية (أم القرى) نجد أنها نشرت في العدد رقم 406 الصادر يوم الجمعة 22 جمادى الأولى 1351هـ الموافق 23 سبتمبر 1932م، خبراً مفصلاً في صدر الصفحة الأولى، تحت عنوان «تحويل اسم مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها إلى المملكة العربية السعودية»، ومضمونه أن مجموعة من الذوات عقدوا عدة اجتماعات في منزل عبد الله الفضل بالطائف، واتفق رأيهم على رفع التماس للملك عبد العزيز بطلب موافقته على:
1- تحويل اسم البلاد إلى المملكة العربية السعودية.
2- سن نظام للحكم وتوارث العرش.
وأنهم نشروا هذه الفكرة في سائر مدن مملكة الحجاز لحشد التأييد الشعبي لها، فرفعت مئات البرقيات المؤيدة للمقترح، وصدرت موافقة الملك عبد العزيز على ذلك.
وفي تقديري أنه يجب النظر أولاً إلى الخلفيات التاريخية والظروف المحيطة والحوادث والأحداث التي سبقت وتزامنت مع هذا الإعلان محلياً وإقليمياً ودولياً، إضافة إلى ضرورة النظر بتمعن في تعامل الملك المؤسس مع الجوانب النظامية والدستورية منذ دخوله الحجاز، والتطورات التنظيمية المتكاملة التي أدت إلى استقرار نظام الحكم في مملكتي الحجاز ونجد ومهدت إلى إعلان توحيد البلاد، وذلك وفق التسلسل الآتي:
1- انتخاب «مجلس الشورى الأهلي1» برئاسة الشيخ عبد القادر الشيبي، وكان ذلك في منتصف عام 1343هـ - 1924م.
2- انتخاب «مجلس الشورى الأهلي2» برئاسة السيد محمد المرزوقي، وكان ذلك مطلع عام 1344هـ - 1925م.
3- تأسيس رئاسة القضاء مطلع عام 1344هـ - 1925م.
4- تعيين الأمير (الملك) فيصل نائباً للملك في الحجاز وتشكيل مجلس استشاري لمساعدته، وكان ذلك في منتصف عام 1344هـ - 1926م.
5- انتخاب «الهيئة التأسيسية الاستشارية» برئاسة الشيخ عبد القادر الشيبي، في منتصف عام 1344هـ - 1926م، وكانت بمثابة «لجنة صياغة الدستور».
6- تشكيل «مجلس الشورى الاستشاري»، برئاسة الشريف شرف عدنان، وكان ذلك في نهاية عام 1344هـ - 1926م.
7- صدور «التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية» مطلع عام 1345هـ - 1926م، التي تعد الأساس الدستوري وبداية التكامل التنظيمي الإداري والسياسي للدولة.
8- تشكيل «مجلس الشورى العام» برئاسة نائب الملك في الحجاز، وكان ذلك مطلع عام 1345هـ - 1926م.
9- تشكيل «لجنة التفتيش والإصلاح» مطلع عام 1346هـ - 1927م، وتعد مخرجاتها أول برنامج للإصلاح الإداري.
10- صدور نظام مجلس الشورى، وإعادة تشكيله برئاسة النائب العام، وكان ذلك مطلع عام 1346هـ - 1927م.
11- استمرار عملية إعادة تنظيم الأجهزة والهياكل الحكومية من خلال إنشاء لجان وهيئات ذات مهام محددة، وتأسيس عدد من المديريات والوزارات وصدور عشرات الأنظمة والتشريعات التي أسست للبناء النظامي والقانوني لعمل الحكومة، واستكمال بناء السلطات الثلاث (القضائية والتنظيمية والتنفيذية).
12- تأسيس مجلس الوكلاء منتصف عام 1350هـ - 1931م.
وصولاً إلى إعلان توحيد البلاد وتسميتها المملكة العربية السعودية عام 1351هـ - 1932م، ذلك الحدث الذي يمكن القول إنه كان أمراً مفصلياً في بناء الدولة، وإنه تم التخطيط له بشكل دقيق، وإن الشخصيات الموقعة على الوثيقة أو الفكرة التي يصفها فؤاد حمزة بـ«النظام» تم اختيارهم بعناية.

- شخصيات خلف الإعلان
وأجد أنه من الأهمية بمكان تحديد أولئك الذوات الذين وقعوا على «النظام المقترح» بدقة، خصوصاً أن «أم القرى» نشرت أسماء بعضهم ثنائية فقط، وتلك الأسماء تتشابه مع أسماء شخصيات أخرى، كعبد الله الفضل مثلاً، وجميعهم من الشخصيات السياسية والوزارية والشورية والإدارية والاقتصادية الرائدة خلال تلك المرحلة. لكن اللافت هو مستوى تعليمهم وتنوع خلفياتهم وتخصصاتهم (الشريعة، الإدارة، القانون، التجارة، الأنظمة والدساتير، المالية، الاقتصاد، التعليم، الأمن، السياسة والعلاقات الدولية، الصحافة والإعلام).
لقد حرصتُ على تتبع سيرهم وتوثيق جوانب من حياتهم العملية والمناصب التي تولوها، ما يوضح أسباب اختيارهم لتولي هذه المهمة ونوعية الخبرات التي كان يتمتع بها كل منهم، وهم:
1- فؤاد حمزة: هو الأستاذ فؤاد (بك) بن أمين بن علي حمزة... تلقى تعليمه في لبنان ونال شهادة دار المعلمين ثم التحق بالجامعة الأميركية في بيروت. عمل بالتدريس ثم نال إجازة في الحقوق، يجيد اللغتين الإنجليزية والفرنسية. التحق بخدمة الملك عبد العزيز بعد ضم الحجاز، وتولى عدداً من المناصب منها: معاون مدير الشؤون الخارجية، وعضو لجنة التفتيش والإصلاح ولجنة سن النظامات والأنظمة واللجنة التنفيذية لمعاونة النائب العام. كما عمل مستشاراً في الشعبة السياسية بالديوان الملكي. أول وكيل لوزارة الخارجية بعد إنشائها، وعضو مجلس الوكلاء. تم تعيينه وزيراً مفوضاً فوق العادة (سفير) لدى فرنسا ثم لدى تركيا، ثم عين وزير دولة منتدباً للأعمال الإنشائية والعمرانية وشركات الاستثمار في وزارة المالية. شارك في رئاسة وعضوية عدد من الوفود واللجان وكلف بعدد من المهام.
2- صالح شطا: هو السيد صالح بن أبو بكر بن محمد شطا... تلقى تعليمه على يد أعلام العلماء من أسرته ومن علماء الحجاز وحصل على إجازة بالتدريس في المسجد الحرام. أول من تولى مديرية المعارف بعد تشكيلها في العهد السعودي، أسند إليه منصب معاون نائب الملك في الحجاز، وانتخب عضواً في الهيئة التأسيسية الاستشارية، كما عين عضواً في لجنة التفتيش والإصلاح، وعضواً في مجلس الشورى، ثم عضواً في مجلس الوكلاء وأصبح نائباً لرئيس مجلس الشورى.
3- عبد الله الشيبي: هو الشيخ عبد الله بن عبد القادر بن علي الشيبي (ثاني كبير لسدنة بيت الله الحرام في العهد السعودي)... تلقى تعليمه في المسجد الحرام على يد علماء عصره. تولى رئاسة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعين عضواً في مجلس الشورى العام، تولى رئاسة جمعية المطالبة بأوقاف الحرمين الشريفين، ورئاسة هيئة الإسعاف الطبي، عين عضواً في مجلس الشورى وأصبح نائباً ثانياً لرئيس المجلس.
4- محمد شرف رضا: هو الشريف محمد شرف بن رضا بن منصور آل يحيى... تلقى تعليمه على أيدي أساتذة خاصين كعادة أبناء الأشراف وقتذاك، ثم واصل تعليمه على يد عدد من علماء المسجد الحرام، شغل عدداً من الوظائف والأعمال في العهد الهاشمي. أول من تولى إدارة المالية العامة (وزارة المالية فيما بعد) بعد دخول الملك عبد العزيز الحجاز. عين عضواً في مجلس الشورى العام، ثم عضواً في مجلس الشورى وأصبح نائباً ثانياً لرئيس المجلس، ومستشاراً للملك ثم عين عضواً في مجلس الوكلاء.
5- عبد الوهاب نائب الحرم: هو السيد عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الوهاب نائب الحرم... تلقى تعليمه على يد علماء عصره وتولى التدريس في المسجد الحرام، رحل إلى تركيا ودرس القانون، يجيد اللغة التركية. عاد للحجاز بعد ضمها للحكم السعودي، انتدبه الملك عبد العزيز لتنظيم الأمور المالية في عسير. انتخب رئيساً لأول مجلس بلدي في مكة بالعهد السعودي، وتولى رئاسة دائرة البلدية في مكة المكرمة. صدر الأمر بتعيينه عضواً في مجلس الشورى، ثم تولى إدارة الأوقاف في مكة المكرمة.
6- إبراهيم الفضل: هو الشيخ إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله الفضل... تلقى تعليمه في كتاتيب عنيزة وعلى يد عدد من علماء عصره ثم واصل تعليمه في الهند. يجيد اللغتين الإنجليزية والأوردية، عمل في وكالة آل فضل (وكلاء الملك عبد العزيز) في الهند. عاد إلى الحجاز وعمل في وكالة المالية، ثم تولى عدداً من المناصب؛ منها المعاون الثاني لنائب الملك في الحجاز، ورئيس ديوان نائب الملك ورئاسة مجلس الوكلاء، وعضو مجلس الوكلاء، وعضو مجلس الشورى. إضافة إلى عضوية عدد من اللجان، كما كلف بعدد من المهام التفتيشية.
7- محمد عبد القادر مغيربي: هو الشيخ محمد بن عبد القادر مغيربي فتيح... حصل على شهادة البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية من الجامعة الأميركية في إسطنبول والزمالة في الحقوق والسياسة الدولية من جامعة لوزان، يجيد اللغات الإنجليزية والتركية والإيطالية والألمانية والفرنسية. عمل مستشاراً لأمير حائل سعود بن عبد العزيز الرشيد، وتنقل في عدد من الدول بسبب عدم استقرار الأوضاع في الحجاز. استدعاه الملك عبد العزيز بعد ضم الحجاز وشارك في تنظيم المؤتمر الإسلامي واختير عضواً في الوفد الذي يمثل الملك عبد العزيز في المؤتمر. عين عضواً في مجلس الشورى، كما كلف بعدد من المهمات وشارك في عضوية كثير من المجالس واللجان مثل مجلس المعارف ولجنة المطالبة بأوقاف الحرمين الشريفين وهيئة مراقبة النقد.
8- رشيد الناصر: هو الشيخ رشيد (باشا) بن ناصر بن رشيد بن ليلا... تلقى تعليمه في كتاتيب حائل ثم على يد عدد من علماء عصره. يجيد اللغة التركية، تولى عدداً من المناصب وكلف بمهمات في عهد إمارة آل رشيد على حائل وعين وكيلاً لهم في إسطنبول. وفد على الملك عبد العزيز الذي اصطفاه وكلفه بعدد من المهام، شارك في عضوية المؤتمر الوطني، كما عين عضواً في مجلس الشورى، ثم صدر الأمر بتعيينه قنصلاً عاماً وقائماً بالأعمال لدى العراق، ثم عين قنصلاً عاماً ووكيلاً معتمداً للملك عبد العزيز لدى سوريا.
9- أحمد باناجة: هو الشيخ أحمد (أفندي) بن عبد الرحمن بن يوسف باناجة... تلقى تعليمه في المدرسة الرشدية بجدة وواصل تعليمه على يد علماء عصره، يتحدث اللغتين التركية والإنجليزية. عمل أميناً لصندوق البلدية في مكة المكرمة، وتولى وزارة المالية في العهد الهاشمي، وكان له دور كبير في إنشاء دار سك النقود في مكة المكرمة والإشراف على أعمالها. حظي برعاية الملك عبد العزيز وظل قريباً من الدوائر الرسمية، إلا أن المصادر لم تُشِر إلى توليه أي منصب حكومي في العهد السعودي سوى عضويته في بعض اللجان المتعلقة بالأمور التجارية والاقتصادية.
10- عبد الله الفضل: هو الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الله الصالح الفضل... درس في كتاتيب عنيزة ثم رحل إلى الهند وواصل تعليمه هناك وعمل في وكالة آل فضل، تفتحت مداركه السياسية في بومباي حيث النفوذ البريطاني وقتذاك، يجيد اللغتين الأوردية والإنجليزية. التحق مبكراً بخدمة الملك عبد العزيز وأصبح وكيلاً له في عدن. كلف بعدد من المهام ورأس عدداً من الوفود واللجان وعين عضواً في اللجنة الدائمة بالديوان الملكي، يعد أحد أبرز مساعدي الأمير (الملك) فيصل، إذ شغل منصب معاون نائب الملك في الحجاز والنائب الأول لرئيس مجلس الشورى ونائب رئيس مجلس الوكلاء.
11- خالد القرقني: هو الشيخ خالد (أبو الوليد) بن أحمد بن عياد آل هود القرقني نسبة إلى جزيرة قرقنة التونسية، كناه الملك عبد العزيز بأبي الوليد... تلقى تعليمه في طرابلس الغرب وتخرج في المدرسة الرشيدية، يجيد اللغات الفرنسية والإيطالية والتركية، شارك في مناهضة الاستعمار ثم قدم للحجاز وعمل في التجارة. التحق بخدمة الملك عبد العزيز، وعين معاوناً أول لنائب الملك في الحجاز، كما عين مستشاراً في الديوان الملكي، رأس عدة وفود وكلف بعدد من المهام التفتيشية. كان مبعوثاً خاصاً من الملك عبد العزيز إلى ألمانيا وقابل الزعيم الألماني هتلر.
12- محمد شرف عدنان: هو الشريف محمد شرف (باشا) بن أحمد عدنان بن عبد المطلب آل غالب... تلقى تعليمه الأولي على عدد من المعلمين الخاصين، ثم واصل نهل العلم على يد علماء عصره. غادر الحجاز وواصل تعليمه في مصر وتركيا، وتشير المصادر إلى إجادته عدة لغات. عاد فور دخول الملك عبد العزيز مكة المكرمة، وأُسند إليه عدد من المناصب: منها مستشار نائب الملك في الحجاز، وعضو مجلس الشورى الأهلي، كما انتخب عضواً في «الهيئة التأسيسية الاستشارية»، كما صدر مرسوم بتعيينه رئيساً لمجلس الشورى الاستشاري، ثم عين عضواً في مجلس الشورى العام الذي شكل برئاسة نائب الملك في الحجاز. كما تم تعيينه عضواً في لجنة التفتيش والإصلاح. تولى رئاسة جلسات مجلس الشورى نيابة عن نائب الملك في الحجاز.
13- حامد رويحي: هو الشيخ حامد بن أحمد أمين رويحي... تلقى تعليمه في جدة، وتدرج في عدد من الوظائف إلى أن أصبح كاتب عدل جدة. ثم صدر الأمر بتعيينه رئيساً لديوان نائب الملك في الحجاز، وتولى عدداً من المسؤوليات في وزارة الخارجية ووزارة الداخلية وكلف بعدد من المهام، وعندما صدر الأمر الملكي بتشكيل لجنة البحث والتدقيق للنظر في أمور دوائر الحكومة والتدقيق عما تم، ويجري فيها برئاسة نائب الملك في الحجاز، تم تعيينه عضواً فيها، كما عين عضواً في لجنة الترقية والتأديب.
14- حسين باسلامة: هو الشيخ حسين بن عبد الله بن محمد باسلامة... تلقى تعليمه الأولي في مكة ثم التحق بالمدرسة الرشدية في الطائف وواصل تعليمه على يد علماء عصره في مكة المكرمة والطائف، وواصل طلب العلم في سوريا ومصر. اشتغل بالتدريس ثم عمل سكرتيراً لمجلس الشيوخ في العهد الهاشمي، وهو من أبرز العلماء والأدباء والمؤرخين. تولى مسؤوليات إدارية ومهمات رسمية بعد دخول الملك عبد العزيز الحجاز، إذ انتخب عضواً في الهيئة التأسيسية الاستشارية ثم عضواً في مجلس الشورى العام، واختير لعضوية مجلس الحج ومجلس المعارف ولجنة المطالبة بأوقاف الحرمين الشريفين وهيئة الأمر بالمعروف. كما عين عضواً في مجلس الشورى.
15- محمد صالح نصيف: هو الشيخ محمد صالح بن حسن نصيف... تلقى تعليمه في كتاتيب جدة وواصل تعليمه الذاتي على عدد من علماء عصره، يُعد من أعيان جدة ومن وجوه آل نصيف أحد أعرق الأسر بجدة التي اهتمت بنشر العلم الشرعي، كما ارتبطت بالملك المؤسس، من رواد الصحافة والطباعة أسس صحيفة «بريد الحجاز» ثم «صوت الحجاز» والمكتبة والمطبعة السلفية بمكة. تولى رئاسة بلدية جدة وشارك قي تأسيس البنك المركزي الهاشمي. وفي العهد السعودي تولى رئاسة أوقاف جدة وعين مديراً لمالية الأحساء ومديراً لمالية وجمارك جازان، كما عين عضواً في مجلس الشورى.
16- عبد الوهاب عطار: هو الشيخ عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الوهاب عطار... تتلمذ في كتاتيب مكة المكرمة وواصل تعليمه على يد عدد من علماء المسجد الحرام. تقلد عدداً من الوظائف في العهد الهاشمي؛ منها رئاسة مجلس العقار وعضوية مجلس الشيوخ وعضوية مجلس النافعة. يعد من وجهاء مكة المكرمة ومن تجارها، غادر الحجاز بسبب الظروف السياسية ثم عاد بعد دخول الملك عبد العزيز. أصبح عضواً في مجلس الشورى العام ثم في مجلس الشورى، إضافة إلى عضوياته في عدد من الجمعيات واللجان مثل جمعية الإسعاف الطبي وجمعية المطالبة بأوقاف الحرمين الشريفين ولجنة الإيجارات.
17- مهدي القلعلي: هو الأستاذ مهدي (بك) بن قدري بن صالح قلعه جي، أو القلعلي، نسبة إلى قلعة حلب التاريخية، أطلق عليه الملك عبد العزيز لقب المصلح، فعرف بمهدي بك المصلح... تلقى تعليمه في العراق ثم التحق بالجيش العثماني، وأرسل للمدينة المنورة وتدرج في العمل الشرطي في العهد الهاشمي. كلف بالإشراف على دائرة الشرطة في المدينة المنورة بعد انضمامها للحكم السعودي، ثم نقل إلى مكة المكرمة وصدر الأمر بتأسيس مديرية الشرطة العامة وتعيين مهدي بك مديراً لها، التي تحولت إلى مديرية الأمن العام. وتأسست في عهده مدرسة الشرطة بمكة (كلية الملك فهد الأمنية)، كما أسس مدارس للأيتام والفقراء ودوراً للعجزة والمسنين.
مما تقدم يتضح أن هؤلاء الأشخاص هم «رجال دولة» متنوعو الخلفيات والخبرات، وأن اجتماعاتهم تمت بشكل رسمي في منزل كبير مساعدي نائب الملك في الحجاز ونائب رئيس الحكومة (مجلس الوكلاء) عبد الله بن محمد الفضل، وموقعه اليوم في حي السلامة بالطائف، تحديداً في المنطقة الواقعة بين دوار السلامة وقصر الكاتب على يمين المتجه إلى حي قروى، وأنهم وقعوا على وثيقة رسمية بـ«النظام المقترح» تم رفعها للملك، وحشدوا التأييد الشعبي له، وذلك لاهتمام الملك عبد العزيز بالمشاركة الشعبية والدلائل على ذلك كثيرة، ولا يتسع المقال لبسطها. أما ما يتداول من برقيات من أهالي مدن معينة أو أفراد أو حتى مسؤولين آخرين، فهي في الحقيقة برقيات تأييد لذلك (النظام المقترح)، وهذا يتضح من نصوصها.
بقيت جوانب أخرى لهذا الموضوع تتطلب مزيداً من البحث والدراسة والتدقيق والتنقيب في الوثائق مثل الخطوات التي سبقت إعلان التوحيد ومهدت له، والأسباب التي أدت إلى اتخاذ الملك عبد العزيز لذلك القرار، وفي ذلك التوقيت تحديداً، وتفاعل الرأي العام الشعبي مع القرار. وأتوجه إلى أقسام التاريخ في الجامعات إلى إيلاء هذا الموضوع الاهتمام البحثي الذي يستحقه.
- كاتب وباحث سعودي



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.