محادثات برعاية غوتيريش في نيويورك بين طرفَي قبرص... والآمال ضئيلة

TT

محادثات برعاية غوتيريش في نيويورك بين طرفَي قبرص... والآمال ضئيلة

يستعد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لعقد محادثات جديدة حول جزيرة قبرص المقسمة، لكن من غير المتوقع إحراز أي تقدم يذكر فيما لا تزال مواقف القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك متعارضة تماما.
وقد أجرى غوتيريش المحادثات الأخيرة مع زعيمي القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك في أبريل (نيسان) في جنيف، وخلص إلى عدم وجود أرضيّة مشتركة تذكر بين الطرفين. ويرجّح أن يحرَز تقدم أقل الاثنين عندما يستقبل غوتيريش الزعيمين إلى مأدبة غداء على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، بعد دعم تركيا التي تحتل ثلث الجزيرة الواقعة على البحر المتوسط، تقسيم قبرص رسميًا وتحقيق حل الدولتين، وهو أمر أثار انتقادات حادة من الغرب.
وقال زعيم القبارصة الأتراك إرسين تتار، الحليف المقرب للرئيس التركي رجب طيب إردوغان، إنه سيضغط من أجل حل يقوم على دولتين كاشفاً أنه لا يتوقع تقدما جوهريا في المحادثات. وصرّح لوكالة الصحافة الفرنسية: «أنا لا أهرب من المحادثات. أنا مستعد للتحدث لكن بواقعية عما يجري على أرض الواقع». وأضاف: «إذا كنت تريد فرصة فعلية للتسوية يجب أن تقوم تلك التسوية على أساس دولتين متساويتين وسيدتين».
يقول دبلوماسيون إن غوتيريش لا يتوقع حصول انفراج في قضية قبرص لكنه يعوّل على الحفاظ على ما يكفي من الدبلوماسية من أجل منع اندلاع تصادم في الجزيرة التي، رغم صعوبة التوصل إلى حل سياسي للنزاع فيها، بقي الوضع فيها سلميا في معظم الأحيان على امتداد عقود.
والجزيرة المتوسطية مقسمة منذ غزت تركيا ثلثها الشمالي عام 1974، ردا على انقلاب قام به قوميون قبارصة بهدف ضمها إلى اليونان. وتوقفت المفاوضات بشأن إعادة توحيد الجزيرة منذ العام 2017.
وقال نيكوس أناستاسيادس رئيس جمهورية قبرص المعترف بها دوليا ويقودها القبارصة اليونانيون الذين يشكلون غالبية سكان الجزيرة، إنه سيواصل دعم الاقتراح الذي تدعمه الأمم المتحدة والذي يقوم على إعادة توحيد قبرص في فدرالية تضم منطقتين.
وفي الخطاب الذي ألقاه الجمعة أمام الجمعية العامة للامم المتحدة، اقترح أناستاسيادس أيضا عودة إلى دستور العام 1960 الذي دخل حيز التنفيذ بعد استقلال قبرص عن بريطانيا وينص على أن يكون رئيس الجزيرة قبرصيا يونانيا وأن يكون نائب الرئيس قبرصيا تركيا. وأضاف: «يجب القول إن هذه الدعوة لا يقصد بها أن تكون بديلا عن الأساس المتفق عليه للتسوية (...) بل تسهيل عودة المجتمع القبرصي التركي الى الدولة إلى حين التوصل الى تسوية نهائية».
وتتضاءل الآمال في التوصل إلى حل دبلوماسي منذ العام 2004 عندما رفض الناخبون القبارصة اليونانيون خطة التوحيد التي تقدم بها الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان.
وقال تتار الذي كان يتحدث من ناطحة السحاب الجديدة التي افتتحها الاثنين إردوغان مقابل مقر الأمم المتحدة، إن الجانبين مستقلان بشكل كامل إذ لا يؤثر القبارصة اليونانيون والقبارصة الأتراك على حياة بعضهم البعض. وأضاف: «حصلت الكثير من الاحداث خلال الستين عاما الماضية مما يجعل العودة إلى دستور العام 1960 أمرا مستحيلا». وأوضح: «أنا أحترم شعبه كمجتمع منفصل. لديهم لغتهم الخاصة، لديهم دينهم الخاص، لديهم ثقافتهم الخاصة. لكنني أريد أن يكون هذا الاحترام متبادلاً».
وأشار إلى أن وجود دولتين منفصلتين سيؤدي إلى علاقات ودية مع تعاون في مجالات تشمل الطاقة والبيئة، معربا عن أمله في أن تصبح قبرص «سنغافورة أوروبا في شرق البحر المتوسط» كمركز تجاري حيوي.
وفي زيارة قام بها إردوغان لشمال نيقوسيا في يوليو (تموز) الماضي، أعلن هو وتتار أنهما سيفتحان فاروشا التي كانت أشهر منتجع في الجزيرة لكنها تحوّلت إلى مدينة أشباح منذ فر القبارصة اليونانيون منها خلال الغزو التركي عام 1974. وأثار ذلك الإعلان مخاوف غوتيريش والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الذي تعد قبرص عضوا فيه منذ العام 2004.
ودافع تتار عن هذه الخطوة ووصفها بأنها قانونية، لكنه قال إنه يمكن مناقشة كل القضايا بعد الاعتراف بسيادة «جمهورية شمال قبرص التركية».
واتهم أناستاسيادس في خطابه أمام الجمعية العامة إردوغان بـ«تدخلات صارخة» لإيصال تتار إلى منصب «جمهورية شمال قبرص التركية» التي لا تعترف بها إلا تركيا. فقد حقق تتار فوزا مفاجئا على مصطفى أكينجي الذي كان يفضل العمل مع القبارصة اليونانيين على حل فدرالي.
واتهم أناستاسيادس تركيا بالرغبة في خلق وقائع جديدة على الأرض قائلا «من الواضح أن كل هذه الإجراءات تهدف إلى القضاء على آفاق التسوية استنادا إلى أسس إطار الأمم المتحدة المتفق عليه».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟