مثلما كان متوقعاً؛ أسهم الاتصال الهاتفي الذي جرى بين الرئيسين الأميركي والفرنسي؛ بناء على طلب الأول، عصر أول من أمس، في وقف التصعيد الذي لجأت إليه باريس منذ الإعلان يوم الخميس الماضي عن تخلي أستراليا عن شراء 12 غواصة فرنسية الصنع لصالح غواصات أميركية تعمل بالدفع النووي وإطلاق التحالف الاستراتيجي - الأمني الثلاثي «الأميركي - البريطاني - الأسترالي». وكما أصبح معروفاً، شنت باريس حملة دبلوماسية غير مسبوقة ضد واشنطن، واستدعت سفيريها من واشنطن وكانبيرا، وألغت اجتماعات مقررة سابقة، وكالت اتهامات ثقيلة الوقع، على لسان وزير الخارجية جان إيف لو دريان، للأطراف الثلاثة، وتحدثت عن طعنة في الظهر، وإخلال بمواثيق الثقة، وعدم احترام الالتزامات، والإخلال بالتضامن بين الحلفاء والشركاء... إلى آخر المعزوفة. وبالتوازي؛ عمدت إلى تعبئة الاتحاد الأوروبي ليقف وراءها، ولكن بعد تردد استمر 5 أيام، ركزت باريس على أن التحدي ليس لفرنسا وحدها؛ بل للتكتل الأوروبي بمجمله. كذلك نادت فرنسا، بعد الخيبة من أداء الإدارة الأميركية في الملف الأفغاني، بتسريع السير نحو «دفاع أوروبي» و«استقلالية استراتيجية» فيما نظر إليه على أنه إبعاد للاتحاد من أن يكون له دور في «منطقة الهندي ــ الهادي» التي يعدها ذات أهمية بالغة استراتيجياً واقتصادياً وسياسياً.
اليوم؛ يبدو أن هذه الأمور قد أصبحت من الماضي عقب الاتصال الهاتفي بين بايدن وماكرون، الذي أعقبه اجتماع جمع وزيري خارجية البلدين أنطوني بلينكن ولو دريان. وبالطبع، لم تعد الأمور إلى ما كانت عليه قبل 15 سبتمبر (أيلول) الحالي، لكنها ولجت منعطفاً جديداً مرده، وفق مصادر دبلوماسية أوروبية في باريس، إلى أمرين: الأول أن لا مصلحة لأي طرف في استمرار التصعيد؛ لأنه ينسف الانسجام داخل الحلف الأطلسي ويحدث تشققات داخل الاتحاد الأوروبي. والثاني أن الأوراق الردعية التي تمتلكها باريس؛ وأهمها الخروج من الحلف الأطلسي أو على الأقل من القيادة العسكرية الموحدة كما فعل الجنرال ديغول في عام 1966، غير قابلة للاستخدام وفق المعطيات الحالية وبالنظر لحاجتها للولايات المتحدة سياسياً وعسكرياً وأمنياً. من هنا، فإن الأداء الفرنسي قام على رفع الصوت والتعبير عن الغيظ؛ لا بل الغضب بعد النكسة التي أصابت «صفقة القرن» وهو أقل الممكن. ولكن الواقعية السياسية دفعتها، كما هو واضح، إلى عدم السير بعيداً مخافة اجتياز نقطة اللاعودة؛ خصوصاً في علاقاتها الأميركية. وكان لا بد من بعض «التنازلات» الأميركية لتهدأ العاصفة الفرنسية؛ الأمر الذي وفره بايدن لنظيره الفرنسي. 4 أمور حصل عليها ماكرون: أولها اعتراف الطرف الأميركي، بمعنى ما، بالذنب؛ إذ جاء في بيانهما المشترك أن المشاورات الاستراتيجية المفتوحة بين الحلفاء والشركاء «كان يمكن أن تجنبنا الوضع الحالي» أي الأزمة. كذلك التزم بايدن باحترام هذا التشاور «بشكل دائم»؛ ما يمكن حسبانه اعتذاراً مقنعاً. وأعرب الطرفان عن التزامهما بإطلاق مسار «مشاورات معمقة» لإعادة الثقة المفقودة؛ مما سهل لباريس إرجاع سفيرها إلى واشنطن وتوافق الجانبين على لقاء قمة نهاية الشهر المقبل في أوروبا. والأمر الثاني اعتراف بايدن بأن انخراط باريس والاتحاد الأوروبي في منطقة المحيطين «يرتدي أهمية بالغة» وترجمة ذلك بلغة أقل دبلوماسية أن على واشنطن أن تأخذ في الحسبان مصالح الأوروبيين، وبالتالي ضرورة أن يكونوا جزءاً من الإجراءات والترتيبات الموجودة أو المقبلة. والأمر الثالث اعتراف بادين بـ«ضرورة قيام دفاع أوروبي أكثر قوة وكفاءة بحيث يساهم بشكل إيجابي في (توفير) الأمن على جانبي الأطلسي ويكمل دور الحلف» المذكور. وأخيراً، فإن بايدن التزم «تعزيز الدعم (الأميركي) لعمليات محاربة الإرهاب التي تقوم بها الدول الأوروبية (خصوصاً فرنسا) في منطقة الساحل». وكانت باريس تخشى أن تسحب واشنطن مسيّراتها وطائراتها المرابطة في قاعدة جوية شمال النيجر والتي توفر الدعم الاستخباري واللوجيستي للفرنسيين في إطار عملية «برخان» الفرنسية الخالصة، وفي إطار عمليات قوة «تاكوبا» المشكلة من وحدات كوماندوز أوروبية نصفها، حتى اليوم، من الفرنسيين.
حقيقة الأمر؛ أن هذه القضية لم تكتمل فصولها. فمن جهة؛ ما زالت القطيعة بين باريس وكانبيرا على حالها؛ خصوصاً بعد الكشف عن معلومات بينت كيف تعامل الطرف الأسترالي مع شريكه الفرنسي وكيف أخفى معلومات عنه؛ لا بل إن مصادر فرنسية أفادت بأن وزارة الدفاع الأسترالية أعربت قبل ساعات فقط من الإعلان عن فسخ عقد الغواصات، عن «ارتياحها» للتقدم الحاصل في المخططات التي عرضتها شراكة «نافال غروب» الفرنسية. وبعكس إعادة السفير الفرنسي إلى واشنطن الأسبوع المقبل، فإن أمراً كهذا لم يحدث مع كانبيرا؛ فيما الاهتمام الفرنسي اليوم هو على التعويضات التي يتعين على أستراليا دفعها مقابل فسخ العقد. إلا إن الأمر ليس تجارياً محضاً؛ إذ إن باريس كانت تعول على العقد الذي كان سيربط الطرفين لخمسين عاماً، من أجل بناء «شراكة استراتيجية» طويلة المدى بحيث تجعل منها طرفاً فاعلاً في المنطقة التي يسكنها مليون ونصف مليون مواطن فرنسي وحيث تتمتع باريس بمنطقة اقتصادية خالصة تزيد على 11 مليون كيلومتر مربع. وبعد خسارة أستراليا، تتقارب باريس مع نيودلهي التي اشترت منها أسراباً من طائرات «رافال» ويمكن أن تكون شريكها الاستراتيجي.
بيد أن الرئيس ماكرون؛ الذي واجه موجة حادة من الانتقادات يميناً ويساراً زاد من عنفها اقتراب الاستحقاق الرئاسي وسمع دعوات لردود فعل يصعب السير بها، ملزم بالإسراع في إيجاد المخارج لقلب هذه الصفحة. وتفيد أوساطه بأن التركيز سيكون في المقبل من الأسابيع، على الدفع باتجاه بناء القوة الأوروبية، وما سيساعده في ذلك أن بلاده سوف تترأس الاتحاد الأوروبي 6 أشهر بدءاً من يناير (كانون الثاني) 2022؛ أي في عز الانتخابات الرئاسية. وبعد خروج المستشارة أنجيلا ميركل من المشهد السياسي وخروج بوريس جونسون بفعل «بريكست»، فإن ماكرون يمكن حسبانه الشخصية الأبرز أوروبياً، ولا شك في أنه سوف يستخدم الواقع الجديد لينطلق منه لدفع خطة الاندماج الأوروبي إلى الأمام؛ ومن بين عناصرها القوة الأوروبية الموحدة، والاستقلالية الاستراتيجية؛ أي قدرة أوروبا على الدفاع عن مصالحها من غير مشاركة أميركية.
- «مجموعة نافال» ترسل لأستراليا فاتورة فسخ عقد الغواصات
تعتزم «نافال غروب» الصناعية الفرنسية أن ترسل «بعد بضعة أسابيع» لأستراليا «عرضاً مفصلاً بالأرقام» لـ«التكلفة التي تكبدتها والتكلفة المقبلة» بعد فسخ العقد الضخم لشراء 12 غواصة فرنسية، على ما أعلن رئيس مجلس إدارة المجموعة، بيار إريك بومليه، لصحيفة «لو فيغارو».
وقال: «هذه من الحالات التي نص عليها العقد، وسيترتب عليها دفع التكاليف التي تكبدناها والتكاليف المقبلة على ارتباط بالتفكيك الفعلي للبنى التحتية والمعلوماتية وإعادة نشر الموظفين... سوف نطالب بكامل حقوقنا».
وبلغت قيمة العقد الإجمالية 50 مليار دولار أسترالي (31 مليار يورو) عند توقيعه؛ ما يوازي 90 مليار دولار بعد الأخذ بالتضخم على طول مدة البرنامج مع تخطي حدّ التكاليف.
وكان هذا أضخم عقد حول معدات دفاعية سواء بالنسبة لأي مجموعة صناعية فرنسية أو لأستراليا، ووصفته فرنسا بأنه «عقد القرن». وقال بومليه للصحيفة، كما نقلت عنه الصحافة الفرنسية: «أعلن لنا هذا القرار من دون أي سابق إنذار».
وأكد أنه «لم يُطلب إطلاقاً من (نافال غروب) عرض غواصات نووية هجومية من طراز (باراكودا)، أحدث جيل من هذا النوع، على أستراليا. لا يمكن معالجة مثل هذا الموضوع إلا على أعلى مستوى في الدولة».