بعد أن اعتبر عقد بيع أستراليا 12 غواصة بقيمة 56 مليار يورو عام 2016 بمثابة «صفقة القرن»، تحول، عقب قرار كانبيرا، بتشجيع أميركي ومشاركة بريطانية، استبداله من خلال شراء ثماني غواصات أميركية الصنع تعمل بالدفع النووي، ومع إطلاق شراكة استراتيجية ودفاعية مثلثة الأطراف، إلى «نكسة العقد». ومنذ الخميس الماضي، ما زالت تداعياته السلبية تتلاحق نظرا لما اعتبرته باريس، الخاسر الأكبر، «خيانة، وطعنة في الظهر بين حلفاء وشركاء...». إلى غير ذلك من النعوت والأوصاف التي أغدقها وزير الخارجية جان إيف لودريان على الطرفين الأسترالي والأميركي وبقدر أقل على بريطانيا. وحتى اليوم، لجأت باريس إلى عدة خطوات للتعبير عن غيظها مثل إلغاء احتفال تذكاري للتعاون الفرنسي - الأميركي إبان حرب الاستقلال الأميركية واستدعاء سفيريها في واشنطن وكانبيرا وإلغاء اجتماع ثنائي كان مقررا بحر هذا الأسبوع بين وزيري الدفاع الفرنسي والبريطاني وآخر ثلاثي لوزراء خارجية فرنسا وأستراليا والهند، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، فضلا عن غياب أي تواصل مباشر بين الوزير لودريان ونظيره الأميركي أنتوني بلينكن. وآخر تعبير عن النقمة الفرنسية قرار الإليزيه تلقي مكالمة هاتفية من الرئيس جو بايدن «خلال الأيام القادمة» وفق ما أعلن الناطق باسم الحكومة الفرنسية الوزير غبريال أتال. وتأخير التواصل الهاتفي يبدو مقصودا من جانب ماكرون الذي امتنع حتى اليوم عن التعليق على ما تعده باريس إخلالا بأصول التعامل بين الحلفاء والشركاء. كل ما سبق يحمل دلالات ومؤشرات كلها رمزية. لكنه لا يسمن ولا يغني عن جوع بالنسبة للطرف الفرنسي. والسؤال المطروح اليوم بقوة: ما هي الخيارات المتاحة أمام باريس للرد على ما تعتبره إهانة وازدراء وضرب مصالحها عرض الحائط في منطقة استراتيجية، أي المحيطين الهندي والهادي. يضاف إلى ذلك أن فرنسا هي الدولة الأوروبية الوحيدة المعنية بهذا الشكل الوثيق بتطورات جيو - استراتيجية هذه المنطقة الحيوية والوحيدة. ثم إن باريس هي الوحيدة أيضا أوروبيا التي تتمتع بحضور عسكري دائم، وبالتالي فإن استبعادها من اتفاقية الشراكة الأمنية - الاستراتيجية الثلاثية الموجهة، كما هو واضح لاحتواء الصين، يزيد من شعورها بالمهانة والإجحاف.
القرار الأسترالي - الأميركي صفعة تجارية - اقتصادية من جهة وتشكيك من جهة ثانية بكفاءة الصناعات الدفاعية الفرنسية وغواصاتها من طراز «أتاك»، وأخيرا انتقاص من دور باريس ومن دور الاتحاد الأوروبي والاستهانة بمصالحهما الحيوية في منطقة استثمرت فيها بلدان الاتحاد 11 ألف مليار دولار.
ترى مصادر دبلوماسية أوروبية في باريس أن الحد الفاصل بين الذهاب إلى مزيد من التصعيد أو البدء بخطوات تمهد للتهدئة سيكون محتوى الاتصال الهاتفي المنتظر بين بايدن وماكرون والذي يرجح أن يحصل اليوم أو غدا. فالرئيس الفرنسي لن يذهب إلى نيويورك للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تنطلق اليوم بخطاب لـبايدن بل كلف وزير خارجيته برئاسة الوفد الفرنسي المشارك. وحتى اليوم، لم يعلن عن موعد للقاء لودريان - بلينكن. إلا أنه غير مستبعد خصوصا أن نظرة باريس للأخير «إيجابية» حيث إن الوزير الأميركي عاش بالعاصمة الفرنسية مرحلة شبابه ويتحدث لغتها بطلاقة، واحتفي به بكثير من المبالغة لدى زيارته الأخيرة لها. لكن الجوانب الشخصية، رغم فائدتها وقدرتها على تسهيل الحوار، لا تحل محل السياسة وموجباتها.
بداية، تتعين الإشارة إلى أن باريس تقف تقريبا وحدها بمواجهة التحالف الجديد إذ لم يصدر أي قرار إدانة عن الجانب الأوروبي لما يرى فيه الكثيرون في القارة القديمة، فسخا لعقد تجاري وإن كان عسكريا وضخم القيمة. وكان مقررا أن يلتقي لودريان نظراءه الأوروبيين مساء أمس في نيويورك، للحديث عن تبعات الاتفاق الثلاثي الأخير بدعوة من «وزير» خارجية الاتحاد جوزيب بوريل الذي كان الوحيد الذي أصدر بيانا بشأنه وبشأن فسخ العقد الفرنسي - الأسترالي. واستبق لودريان الاجتماع باتصال هاتفي بنظيره الألماني هايكو ماس.
وما يغيظ باريس أن ألمانيا بقيت صامتة ولم تعرب عن التضامن معها، علما بأن المستشارة ميركل كانت ضيفة ماكرون مساء الخميس الماضي لوداع ماكرون بسبب خروجها القريب من منصبها عقب الانتخابات الألمانية. وبالنتيجة، فإن باريس لا تستطيع التعويل على أوروبا رغم الدعوات الدورية لتمكين الاتحاد من «الاستقلالية الاستراتيجية» التي سيعقد من أجلها اجتماع العام القادم بعد أن تتسلم باريس رئاسة الاتحاد، وذلك لإقرار ما يسمى «البوصلة الاستراتيجية».
أما على مستوى الحلف الأطلسي، فإن خيارات فرنسا، نظريا، وبحسب ما يراه متابعون للشؤون العسكرية، متعددة وتتراوح ما بين الانسحاب الكلي، وهو ما لا يتوقعه أحد، وتجميد عدد من الأنشطة التي تشارك فيها (وهو مستبعد) والإصرار على إعادة تعريف «مبادئ» التضامن داخله والتعامل بين أعضائه، وهو الأمر المرجح في الاجتماع المخصص لهذا الغرض في الأشهر القادمة.
صحيح أن أصواتا تُسمع، خصوصا من اليسار الفرنسي، تدعو ماكرون إلى الانسحاب من الحلف، إلا أن الصحيح أيضا أن فرنسا عضو مؤسس ورئيسي في الحلف الأطلسي، وهي ثالث بلد نووي داخله بعد الولايات المتحدة وبريطانيا. إلا أن باريس، زمن رئاسة الجنرال شارل ديغول، طلبت نقل مقر الأطلسي منها إلى عاصمة أخرى رغبة في استعادة نوع من الاستقلالية وحرية التحرك الخارجي. كذلك قرر ديغول وقتها، الانسحاب من القيادة العسكرية الموحدة في العام 1966 وبقيت الأمور على هذه الحال على هذا المنوال حتى عهد الرئيس نيكولا ساركوزي، أميركي الهوى، الذي أعاد بلاده إليها.
وتجدر الإشارة إلى أن ماكرون سبق له أن وصف الحلف، نهاية العام 2019 بأنه يعاني من «موت سريري»، وذلك في عز الخلاف الفرنسي - التركي في مياه المتوسط. وبالنظر لرد فعل الحلف «الفاتر» على المطالب الفرنسية وقتها، فقد قررت باريس «تجميد» أنشطتها الأطلسية لفترة جاءت قصيرة للغاية، ومن غير الحصول على ما كانت تبغيه من وقوف الحلف إلى جانبها. واليوم، وفي ظل تمسك أعضاء أوروبيين بالمظلة الأميركية وعدم استعدادهم لإزعاج واشنطن، فإن باريس تجد نفسها شبه وحيدة في مطالباتها. بيد أن الأمر الأهم أن فرنسا غير قادرة على مواجهة واشنطن التي تحتاج لمساندتها كما في منطقة الساحل الأفريقي مثلا، حيث تقدم القوة الجوية الأميركية المتمركزة في النيجر خدمات لقوة «برخان» الفرنسية بتزويدها بصور تلتقطها طائراتها المسيرة (درون) أو المعلومات الاستخبارية التي تجمعها.
هكذا، تبدو مروحة الخيارات الفرنسية وإن كانت متسعة نظريا، إلا أنها محدودة عمليا إلا إذا أرادت باريس التسبب بأزمة دبلوماسية عميقة مع واشنطن، وأن تعزل نفسها عن طريق التقارب مثلا مع الصين أو مع روسيا أو الذهاب ضد المصالح الأميركية والغربية بشكل عام. ومن غير دعم أوروبي واضح وفاعل، فإن المتاح أمام باريس يبدو متواضعا.
ونقلت صحيفة «لو فيغارو» اليمينية أمس عن جيرار آرو، السفير الفرنسي السابق في واشنطن قوله إن لفرنسا وأوروبا «مصلحة في المحافظة على علاقات جيدة مع الصين، كما يتعين أن تكون لهما سياسة مختلفة إزاءها عن السياسة الأميركية».
وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس بايدن سعى، إبان قمة الحلف الأطلسي في بروكسل، في شهر يونيو (حزيران) الماضي، لتعبئة الأوروبيين خلفه في سياسة المواجهة مع بكين التي ترى فيها واشنطن «الخطر الأكبر» للقرن الحالي إلا أن ماكرون وميركل عارضاه في هذا التوجه.
تبقى مسألة التعامل مع أستراليا التي سعت في الأيام الثلاثة الماضية إلى تبرير قرار الفسخ باعتبارات أمنية واستراتيجية، ومحاولة ترطيب علاقاتها مع فرنسا. ويمكن إدراج العقد الموقع أمس بين شركة ألستوم الفرنسية ومدينة ملبورن الأسترالية لتزويدها بـ25 قطارا وبقيمة تصل إلى 300 مليون يورو، مؤشرا على رغبة كانبيرا في استمرار التعاون مع فرنسا. وفي أي حال، أعادت أستراليا تذكير الفرنسيين بأنها أرسلت جنودا للدفاع عن أراضيها في الحربين العالميتين القرن الماضي وأن 10 آلاف جندي أسترالي ضحوا بحياتهم من أجلها.
وفي الأيام القادمة، ينتظر أن تنطلق محادثات بين شركة «نافال غروب» الفرنسية والحكومة الأسترالية لتحديد مبلغ التعويضات المفترض دفعها وفق نص العقد للجانب الفرنسي. وبالتوازي، تأمل باريس بممارسة ضغوط على كانبيرا من خلال الاتحاد الأوروبي ومحاولة تأخير أو حتى عرقلة التوصل إلى اتفاق للتجارة الحرة بينه وبين أستراليا، وهو الأمر الذي أشار إليه وزير الشؤون الأوروبية الفرنسي كلمان بون يوم السبت الماضي. وترجح معلومات متوافرة في باريس أن الجانب الفرنسي قد يركز اهتمامه على الهند التي باع لها أسرابا من طائرات «رافال» المقاتلة كشريط عسكري ودفاعي يحل محل أستراليا في منطقة الهندي ــ الهادي.
بريطانيا: حبنا لفرنسا راسخ
> شدد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون على العلاقة «البالغة الأهمية» بين بلاده وفرنسا، وذلك في مواجهة غضب باريس. وقال جونسون لصحافيين على متن طائرة تُقله إلى نيويورك، إن لندن وباريس تربطهما «علاقة ودية جداً» و«بالغة الأهمية»، مشدداً على أن «حب بريطانيا لفرنسا» راسخ.
وكان بايدن أعلن عن تحالف دفاعي أسترالي - أميركي - بريطاني جديد يأتي ضمن اتفاقية شراكة يُنظر إليها على أنها تهدف إلى مواجهة صعود الصين. لكن جونسون قال على متن الطائرة إن هذه الاتفاقية «لا تهدف إلى أن تكون إقصائية».
وأضاف «إنها ليست شيئا يجب على أي أحد كان أن يقلق بشأنه ولا سيما من خلال أصدقائنا الفرنسيين».