الرواية التسجيلية نوع سردي ينضوي في جنس الرواية، وقليلاً ما نجد الكتاب يميلون إليه، وقد يكون السبب خصائصه الفنية والموضوعية التي تجعل الكاتب في حالة تأهب وهو يحشد طاقاته ويبذل مجهوداته، معتنياً بالتفاصيل وجامعاً الوثائق. وهذا ما يجعل الرواية التسجيلية في الغالب ذات حجم يتجاوز الحجم المألوف في الأنواع السردية الأخرى.
وليست الرواية التسجيلية رواية واقعية تهتم بالزمن في حركته النفسية؛ بل هي رواية التفاصيل بكل خصوصياتها، لا بمعنى رسم صورة تقريبية للمجتمع أو تقديم وجهة نظر تعبر عن رؤية العالم؛ بل بمعنى رصد الحياة في تفاصيلها؛ أفكاراً وأحداثاً كانت قد حصلت خلال حقبة تاريخية، وهو ما يجعل حظ هذه أوفر في السير على طريق الحقيقة، وكلما ارتبط السرد بالحقبة التي يسجلها، ازدادت قيمته الفنية.
وقد تكون هذه الحقبة التي تُعنى بها الرواية التسجيلية يوماً واحداً، وقد تكون شهوراً أو سنوات، وما يقوم به الكاتب هو تسجيل أحداثها، منطلقاً من ذهن شخصية واحدة، عليها يظهر فعل القدر كفاعل مركزي لا يدرك؛ لأنه غامض ولا يمكن تقنينه، وتأثيره يظهر في وعي الشخصية وعواطفها وعلاقتها بالزمان والمكان. وقد يملأ هذا الكاتب من ذهنية هذه الشخصية الواحدة عدة مجلدات؛ كما يقول إدوين موير.
وأهم ميزات السرد التسجيلي الاهتمام بالتفاصيل التي قد تكون من الغرابة واللاواقعية بما لا يمكن معه الارتفاع بها تخييلياً؛ لأنها من شدة واقعيتها تبدو متخيلة. وقد يغدو تسجيل الأحداث أكثر مباشرة وأقل اهتماماً بالأبعاد النفسية للشخصية وأقل شمولاً وعمومية. ومن هنا غدت التفاصيل وسيلة هذه الرواية وأداتها في بلوغ هدفها المتمثل في الحقيقة. وما من قانون يحكم الرواية التسجيلية؛ لأنها لا تركز على مجال حياتي واحد، كما لا يشترط في هذه الرواية وجود حبكة منظمة؛ لأنها متحررة في نظامها وليس لها إطار صارم، فالزمان ينمو ويتطور بلا مبالاة وبلا ملامح ولا إنسانية. والزمان هو المسرح الذي عليه تتجسد حياة الشخصية، وما يطرأ عليها بسببه من تغييرات ضرورةً وصدفةً، بينما يظل هو نفسه قائماً من دون تغيير في انتظام حركته وفاعلية دوره الذي هو تكراري أبدي ولا نهائي.
وإذا كانت فكرة الرواية التسجيلية منبثقة من رصد حقبة تاريخية؛ كأن تكون حرباً كونية، أو ثورات ومظاهرات عالمية، أو أزمة مالية كبرى، فإن الذي ينبغي على الروائي فعله هو تسجيل أكثر ما بإمكانه تسجيله ووصفه من أحداث حتى يغدو الحدث الواحد عرضياً، ولا أهمية له إلا مع مجموعة الأحداث التي تتداخل فيها عوامل الشك والمصادفة والحرية. وقد يكون التفلسف هو الفاعلية العقلية الأنسب التي إليها يرتكن السارد في الارتقاء بالبعد التسجيلي للسرد ليكون بمستوى الحقبة وبكل ما فيها من ديمومة وقسوة واتساع.
ومن أهم كتّاب هذه الرواية عربياً صنع الله إبراهيم في روايته «1970»، وإسماعيل فهد إسماعيل في روايته «الشياح»، وجهاد مجيد في روايته «تحت سماء داكنة». ورغم أن تاريخنا المعاصر مليء بالحقب العصيبة المتخمة بالتفاصيل المريرة والعجيبة، فإن الاهتمام يبدو قليلاً بتسجيلهاً روائياً، وقد لا أجانب الصواب إذا قلت إنها اليوم نادرة في أدبنا العربي في مقابل طغيان الروايات الدرامية، كما أن نقدنا الأدبي أيضاً لم يقم بدوره في التنظير لسرديات التحقيب والتسجيل.
ومن الروايات التي بُني سردها على التحقيب والتسجيل رواية «صوت الطبول من بعيد» للكاتب فلاح رحيم والصادرة عن «دار الرافدين» ببغداد 2020، وفيها سرد لحقبة مهمة من تاريخ العراق المعاصر، وهي حقبة الحرب العراقية - الإيرانية التي حشّد السارد الموضوعي طاقاته في سبيل تسجيل تفاصيلها من خلال بطله «سليم» الجندي والمترجم والعاشق الذي ظل واقعاً تحت أسر القدر الذي لا فرار منه؛ بدءاً من حدث التسريح من الخدمة الإلزامية، ومروراً بأحداث الالتحاق بالخدمة مجدداً، وانتهاء بآخر حدث والبطل لا يزال جندياً يكابد معمعان الحرب مكتوياً بسعيرها. ورغم أن الرواية كبيرة بأربعمائة صفحة إلا نيفا، فإن السارد لم يصل إلى شيء أو وصل إلى اللانهاية كحقيقة للزمان الذي يظل ثابتاً في استمراره وتنوعه.
وقد عايش «سليم» قدره كما عايشه الناس، وشاهد ما شاهدوه، فأدرك أن حياته مجرد حدث عارض في حرب هي الفوضى... «هل تصلح هذه الفوضى لسرد حكاية لها بداية ووسط ونهاية؟ لا عجب أن الحروب الكبيرة قد مزقت السرد» (الرواية، ص7).
وقد انقسم تسجيل حقبة الحرب إلى 3 أقسام: القسم الأول «فاصل غريب»، وفيه يقص السارد أحداث الأشهر الثلاثة التي فيها كان التسريح بمثابة الميلاد: «كان الخامس من تموز (يوليو) عام 1980 هو موعد الانعطافة التي طال انتظارها، غادر سليم المعسكر الغاطس في رمال أم قصر لأول وآخر مرة بملابسه المدنية» (الرواية، ص13). وقد مكّن استعمال السارد صيغتي الاسترجاع والاستبطان من تسجيل الوارد والشارد مما له صلة بحقبة الحرب الثمانينية ليكون الماضي هو الملاذ من الحاضر القاسي والبائس، وكما يقول إدغار موران: «عندما نفقد المستقبل وعندما يكون الحاضر مقلقاً وبائساً؛ فماذا بقي لإنجازه؟ الطريقة الوحيدة للخلاص من هذا الإحراج هي العودة إلى الماضي الذي يكف عن كونه نسيجاً من الإقصاءات ليصبح ملاذاً»... («عنف العالم»، ص77).
وقد عكست الاسترجاعات صوراً بانورامية لما كان يعتمل في الشارع العراقي آنذاك من أحداث وأحوال وآراء حول الآيديولوجيا، والانتماء، والهرب، والعمل... وغيرها. والبادي أن السارد تخلص من الدخول في مماحكات السياسة وجدالاتها من قبيل الحديث عن الثورة الإيرانية أو التسفير والتبعية أو تدفق الأشقاء المصريين، من خلال جعل بطله (سليم) نافراً من السياسة بعيداً عن شؤونها.
والقسم الثاني عنوانه «يوميات أيام تتطاير كالغبار»، واعتمد السارد في بناء هذا القسم صيغة كتابة اليوميات، مسجلاً ما كان يجري على جبهات القتال؛ بادئا بيوم الالتحاق 1 - 6 - 1981، ومنتهياً بيوم الإجازة 2 - 7 – 1981، مستعيداً فيه حياته المدنية، وكيف وثّق علاقته ببيانكا بولندية الجنسية إيرانية الأصل، في إشارة غير مباشرة إلى فعل الضرورة والمصادفة اللتين بهما تتأكد جدلية الحياة في امتزاج الحب بالحرب، والحكمة بالهمجية، والسياسة بالقدر، والرقة بالشراسة، والحياة بالموت. وهو ما ساهم في إلقاء مزيد من الضوء على مناطق قد لا تستطيع أنواع الرواية الأخرى الكشف عنها.
والقسم الثالث «ما وراء الخير والشر»؛ وفيه استعمل السارد طريقة تبادل الرسائل، ولكن القدر يظل هو وحده المتحكم في مصائر الحيوات، و«سليم» لا ينفك واقعاً تحت هول الحرب وقرقعة أسلحتها الفتاكة فيتوجس خوفاً من الموت، وما الخوف من الموت سوى معادل موضوعي للخوف من الفوضى. ولأن تحبيك السرد التسجيلي بلا نظام أو قانون، لذا كثرت المقاطع الفكرية داخل هذه الرواية، وفيها يتفلسف السارد مقتحماً السرد بأفكاره تارة، ومستبطناً أفكار بطله مشاركاً إياه تحليلها تارة أخرى. ومن المقاطع الفكرية؛ ما يرد في شكل تناصات مع أقوال المفكرين يستحضر السارد عبرها ثقافته التراثية والغربية، كهذا المقطع: «كان مؤلف (جلجامش) أقرب إلى الصواب عندما جعل الأنثى وسيلة تدجين انكيدو والاقتراب به من الحضارة من د. هـ. لورنس الذي أنفق في قراءته أياماً طويلة وظن اعتماداً عليه أن الأنثى هي اللاوعي الحسي الذي يخرج بالرجل من تحضره وعقلانيته» (الرواية، ص61). فضلاً عن استدعاء بعض الأقوال لفلاسفة؛ منهم كيركغارد الذي نقل عنه السارد قوله: «إنك لن تتمكن من رؤية صورتك في المرآة إن لم تقف ساكناً» (الرواية، ص44).
ومثل ذلك نجده في المقاطع الميتاسردية التي تبزغ داخل الرواية بين الفينة والأخرى من دون أن تؤثر في تحبيك السرد؛ بدءاً من الاستهلال الذي ساقه الكاتب في شكل حوار افتراضي بينه وبين سارده الموضوعي، ومروراً بوقفات كثيرة في المتن الروائي، يشاكس فيها السارد الكاتب أو يساومه على التفاصيل وأنه لن يفضحها كلها في جزء من تمويه القارئ وإيهامه. وقد يباغت السارد بطله، واقفاً خارج النص، قائلاً: «لا تقلق ولا تبتئس؛ هنالك ما هو أبعد منك ومني في هذه الحكاية... تنح جانباً... استرح واترك لي القياد» (ص9). أو قوله: «لكن لا بد من التأني وعدم الانصياع لرغبة سليم في حذف هذه الواقعة التي يراها عقيمة من الحكاية... لنتابع صاحبنا يتدحرج في الحر إلى محبسه في الزعفرانية» (ص20).
ويدلل استعمال الصيغ الثلاث «الاسترجاع، واليوميات، والرسائل» في رواية «صوت الطبول من بعيد» على أن هذه الصيغ ليست سوى أشكال سردية تخدم «الرواية التسجيلية» التي هي نوع سردي ينضوي في «الرواية» التي هي جنس عابر على الرواية التسجيلية وعلى غيرها من الأشكال والأنواع السردية الأخرى.
رواية تسجيلية توثق تفاصيل من الحرب العراقية ـ الإيرانية
«صوت الطبول من بعيد» لفلاح رحيم
رواية تسجيلية توثق تفاصيل من الحرب العراقية ـ الإيرانية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة