النحت... وجه آخر للعملاق الصيني

كتاب يروي قصته الموغلة في القدم

من أشهر أعمال النحت الصينية  ويقال إنه مستلهم من الإغريق
من أشهر أعمال النحت الصينية ويقال إنه مستلهم من الإغريق
TT

النحت... وجه آخر للعملاق الصيني

من أشهر أعمال النحت الصينية  ويقال إنه مستلهم من الإغريق
من أشهر أعمال النحت الصينية ويقال إنه مستلهم من الإغريق

يروي هذا الكتاب قصة النحت الصيني وفنونه الموغلة في القدم، مضيفا بعدا جماليا مهما للصورة العالقة في الأذهان عن الصين وغزوها الاقتصادي الشرس وقدرتها الفذة على إغراق أسواق العالم بمنتجات زهيدة السعر، وهو ما انعكس في وقائع حرب تجارية باتت تشغل الفضاء العام بين بكين وواشنطن.
الكتاب بعنوان «النحت الصيني» للمؤلف «ﻻلي وانغ يا»، مراجعة «دو تشونغ» وصدر باللغة العربية ضمن سلسلة «الصين الثقافية» عن «دار النشر الصينية عبر القارات».
يذكر الكتاب أن النحت يعد واحدا من أقدم الفنون في الصين، وقد نشأ في العصر الحجري الجديد، حيث اكتُشف في تسعينات القرن العشرين منحوت حجري على شكل تنين يبلغ طوله حوالي 20 مترا ويرجع تاريخه إلى أكثر من 8000 عام وهو بذلك يعد أقدم المنحوتات الحجرية الضخمة المكتشفة حتى الآن.
ويشكل العصر الحجري الجديد ذروة لثقافة النحت في حقبة ما قبل التاريخ، إذ إن الناس في هذا الوقت أجادوا تقنية صنع الفخار على نحو مدهش. وكانوا يركزون على المنحوتات التي تمتعت معظمها بالوظائف العملية مثل الإبريق الفخاري الذي كان الأكثر شيوعا ويتم تصميمه دائما بوجه إنسان، أو يكون على شكل حيوان، وهو أمر كان شائعا كذلك في الثقافات البدائية الأخرى بما فيها الروسية والهندية. كانت هناك أوان على شكل حيوان بالكامل كما كانت هناك أخرى تجسد جماليات الجسد الأنثوي. تمتاز معظم الأدوات الفخارية من الفترة البدائية بالزخارف والنماذج الملونة على نحو يعكس مستوى التقنيات والعادات الاجتماعية والمعايير الجمالية في هذا الوقت. ويورد المؤلف ملحقا مصورا يتضمن بعضا من نماذج ذلك العصر عبر عدد من الأواني التي تمثل الخصائص الزخرفية المجردة للأدوات الفخارية الملونة منها زجاجة فخارية مكتشفة في «داديوان» ببلدة تشينان في مقاطعة قانسو عام 1973 وهي زجاجة فخارية ملونة على شكل رأس إنسان.
ويشير الكتاب إلى أن النحت الصيني أخذ مسارات مختلفة في مناطق جغرافية متنوعة على نحو يصعب معه تصنيفه إلى أنواع محدودة. ودائما ما يتعلق تطوره بشكل وثيق بالأوضاع التاريخية، إذ إن النحت أكثر تأثرا بالوضع السياسي من فن الرسم على سبيل المثال، كما يتماشى تطور أساليبه مع ازدهار البلاد. ويضرب مثالا على ذلك بالمنحوتات التي تتميز بالهيبة و«الطقوسية»، خلال أسرتي «شانغ» و«تشو» في الفترة من 1600 إلى 221 قبل الميلاد، كما ظهرت أعمال النحت المفعمة بالجلال وقوة التكثيف أثناء أسرة هان التي تلتهما، بينما صنعت التماثيل البوذية ذات المؤثرات الروحانية في أسرتي وي وجين، والأسر الجنوبية والشمالية في الفترة من 265 إلى 589 ميلادية. أما الأعمال من أسرة سونغ «960 - 1279» فنجدها دقيقة وخفيفة ومعتدلة بينما انتشرت المنحوتات الملونة المتحررة من الإيحاءات الدينية في أسرتي مينغ وتشينغ «1368 - 1911».

جنود وخيول من الفخار

مع تطور تقنيات صب البرونز لدى نحاتي السهول الوسطى في الصين، كان هذا الفن على موعد مع قفزة كبيرة من التقدم في عصر أسرتي شانغ وتشو، حيث ظهرت المنحوتات التي كثيرا ما تجسد أشكالا حيوانية شرسة على نحو يعكس بعض المفاهيم والمعتقدات المرتبطة بالسحر وطرد الأرواح الشريرة. ومن بين المنحوتات البرونزية المهمة في هذا السياق، تمثال الفيل من «ليلينغ» بمقاطعة «هونان» الذي جاء كتحفة فنية أنيقة تجمع بين الشكل الحيواني والبراعة في النحت، والخيال المجنح الذي لم يكتف بجسد الفيل وإنما أضاف إليه عدة وجوه حيوانية وزوجا من التنانين والنمور والعنقاء، مع وضع السحب والرعد في الخلفية كما تندمج الأساليب الزخرفية في هذا العمل المركب على نحو يعطي شعورا بالإيقاع والمرونة.
بالمقارنة مع التماثيل البرونزية من المناطق الأخرى، تتمتع تماثيل مقاطعة «سانشينغدوي» بصفات المنحوتات المستقلة خاصة تلك الواقفة على القاعدة على نحو يتشابه مع المنحوتات التذكارية في العصر الحديث. وتعد منحوتات الجيش الإمبراطوري المكون من جنود وخيول وعربات عسكرية واحدة من أعظم تراث النحت الصيني في عصر الإمبراطور «تشينشي هوانغ» الذي قام ببناء هذه المجموعة الضخمة من التماثيل الفخارية، بعد وفاته بأكثر من 2000 عام عثر رجل على هذا الكنز صدفة عندما كان يحفر بئرا في الجانب الشرقي لضريح الإمبراطور. ويعد اكتشاف تماثيل الجنود والخيول الفخارية إحدى العجائب الثقافية القديمة وهي أيضا من أهم الاكتشافات الأثرية في العصر الحديث، حيث ظل هذا الجيش الجرار بحالته الأولى لأكثر من ألفي عام.

الفن البوذي

انتقلت البوذية إلى الصين أثناء أسرة هان الشرقية «25 - 220 م» وانتشر الفن البوذي على نطاق واسع، حيث شهد فن النحت توسعا لا مثيل له من حيث الجودة والحجم والتقنية الفنية والبعد الروحي. دمجت التماثيل البوذية بالصفات الصينية بشكل تدريجي وهذا يتمثل في ملابس بوذا بعد حكم الإمبراطور «شياو ون» من أسرة وي الشمالية ليتم صبغ الفن البوذي بالروح الصينية حيث حل، على سبيل المثال، رداء المثقف القديم محل الشاش الهندي وفي أحيان كثيرة يتم ارتداء «السترات» ذات الياقة المتقاطعة مع جبة الراهب المشقوقة من الأمام بما يعطيها أسلوبا ملكيا.
هناك تماثيل عرائس النعيم «البوديسافا» المنحوتة في كهوف «موقاو» من أسرة تانغ على شكل فتيات متنوعات (ممتلئة وأنيقة وكريمة ومتحفظة)، تبدو العرائس محبوبة للغاية، كونها تتمتع بشعور الجلال بما يجسد المثل الأعلى للجمال الإنساني. فيما بعد، صارت تلك النوعية من التماثيل رشيقة، بسيطة، قريبة من الناس في الحياة اليومية. وتمتد جماليات الفن البوذي لتشمل النقوش الصخرية لأضرحة أسرة «تانغ» بأسلوبها المعماري الفريد والتي تقع في الضفة الشمالية لنهر ويشوي بمقاطعة شنشي، حيث بنيت بقرب الجبال من أجل الإفادة من مواقعها الطبيعية. تتمتع تلك النقوش والمنحوتات الصخرية للأضرحة بأهمية كبيرة في تاريخ النحت الصيني لا سيما النقوش الصخرية للأحصنة الستة في ضريح «تشاولينغ» والتي من المفترض أنها كانت ترافق الإمبراطور «تاي تسونغ» في معركته لتوحيد أقاليم الصين، فضلا عن الأسد الصخري أمام ضريح «شونلينغ».

المنحوتات الملونة

تحتوي معابد الصين المختلفة لا سيما معبد «شوانغلين» الذي تم بناؤه خلال أسرة «وي الشمالية» على العديد من المنحوتات الملونة ذات الحالة السليمة المدهشة، والتي يقدر عددها بما يزيد قليلا على ألفي قطعة. تشمل أساليب النحت الأساسية هنا الحفر المستدير والحفر النافر إلى جانب النحت المعلق على الجدران لذا يطلق على معبد شوانغلين في مقاطعة يينغياو «كنز المنحوتات الملونة الشرقي» كما يطلق عليه أحيانا «متحف المنحوتات». تعلق مئات التماثيل على الجدران بصورة متراصة بحيث لا يكون كل تمثال رائعا فقط في النحت بل في الديكور فيبدو أنه نشيط وحي للغاية! تصنع جميع المنحوتات الملونة بالصلصال الأحمر المحلي الذي يكون جيدا في اللزوجة على نحو يجمع بين الميكانيكا وفنون النحت. وتولي جميع المنحوتات اهتماما بالعيون حيث تستخدم المينا السوداء لنحت كرات العين وهذا هو السبب في أنك تطالع تلك العيون فتجدها لا تزال مشرقة وثاقبة حتى بعد ألف سنة!
وأخيرا، هذا كاتب مهم، موثق بالعديد من الملاحق المصورة الملونة بحيث تغطي كل حقبة زمنية بشكل يتكامل فيه السرد النظري بالمادة البصرية، لكن يؤخذ على هذا العمل صغر حجم الخط «الفنط» على نحو يسبب إرهاقا كبيرا للعين، كما أن الصياغة شابها الكثير من التكرار والركاكة في بناء الجملة.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!