حمامات بيضاء تحلق في فضاء من جحيم

«أجنحة في سماء بعيدة» لجمال حيدر

حمامات بيضاء تحلق في فضاء من جحيم
TT

حمامات بيضاء تحلق في فضاء من جحيم

حمامات بيضاء تحلق في فضاء من جحيم

عن دار «لندن للطباعة والنشر»، صدرت رواية «أجنحة في سماء بعيدة» للكاتب جمال حيدر، وهي تقع في 186 صفحة من الحجم المتوسط، عبر 36 فصلاً - لوحة، تتخذ من مقبرة فضاء جغرافياً ونفسياً. وعن سبب اختيار مثل هذا الفضاء لروايته، يقول في حفل تدشين الرواية في المركز الثقافي الآيرلندي، لندن، «في زيارتي الأخيرة إلى العراق، قررت زيارة قبر أبي في مقبرة وادي السلام، المقبرة الأكبر على الأرض؛ لم أزرها منذ صغري؛ هناك هالني سيماء المكان، أسرني مشهد القبور الممتدة على مرمى البصر، والشواهد التي تخيلتها حمامات بيضاء تحلق في سماء المقبرة. ظل المشهد يراود مخيلتي، ليغدو، بالتالي، المكان الذي سيشهد أحداث الرواية».

شخصيات الرواية

هناك خمس شخصيات أساسية تشكل مجموعة محورية في الرواية، كما تحيل هي نفسها إلى شخصيات ثانوية. الشخصيات التي تكون المجموعة المحورية هي: سيد إسماعيل ويتم تعريفه بالمقطع التالي «ترك الجرح الذي أصيب به في أقبية التعذيب ندباً عميقاً في ساقه اليمنى». ومن مكونات شخصيته أنه «يعيد سرد حكاياته مراراً فيضيف ويشذب أو يحذف على هواه، محاولاً التأثير على السامعين». وهناك شخصية جميل «المعلم، الذي يكتب الشعر، والمغرم بالقراءة»، والذي «هرب نحو المقبرة إثر ملاحقة رجال الأمن»، إنه جميل «الآتي من قرى الجنوب البعيدة». وهناك «جعفر» الذي «كان قد اعتقل قبل أشهر من هروبه والتحاقه بالمقبرة». تعرض جعفر «مرات عدة للاعتقال لأسباب يجهلها، لكن المرة الأخيرة كانت الأصعب والأقسى. التهمة كانت جاهزة، نقل الأسلحة للمعارضة وتسهيل عملياتهم».
ثم هناك «عبود» الذي يتحدر من قرية كحل العين، الذي تمرد على شيح العشيرة الذي يضغط على شباب القرية للانتماء إلى حزب السلطة «وتمرد على موقف الشيخ لإرضاء السلطة وأجهزتها الأمنية». وقال حيدر عن استراتيجيته حول الشخصيات المتعددة لروايته: «استغنيت عن البطولة الفردية في الرواية، واستعضت عنها ببطولة جماعية توزعت على خمس شخصيات رئيسية وأخرى ثانوية مؤازرة تنوعت بين رجال ونسب متفاوتة».
تمثل المقبرة أيضاً فضاءً نفسياً تدور فوقه أطياف مشاعر من التوتر والقلق، والمخاوف والتوهم، والحيطة والحذر، كما يلتف حول الرواية إطار سميك من الحزن والألم، بالتالي فإن الموت يحتل النطاق الأكبر منها، كما أن أحد الموتى (ستار) ظل يمثل ثنائية من الحضور والغياب، أو الخيط الذي يربط السماء بالأرض، بينما تمثل أرملته (مديحة) النقطة التي تلتئم عندها الرواية، وتكتسب وحدتها، إذ إن مديحة هي التي تأتي بعد مقتل ستار على أيدي العسكر بحثاً عن مجموعته، فتمثل رابطاً لهم، ويلتجئون إلى منزلها الصغير الذي استأجرته في المدينة عند قدومها لهم فيحميهم من هجوم جحافل النمل الأحمر الذي غزا المقبرة والمدينة ذات حين، كما أن مديحة كانت الصلة بين المدينة وفيلق محمود، بل صارت تنقل السلاح إلى الفيلق، أي إلى «المقاومة» أو «المعارضة»، وتعرضت للاعتقال فالتعذيب، حيث «يبدأ الجلاد في ضربها فيما يعلو وجهه فرح خفي وغامض كأنه ينتظر هذا الأمر منذ زمن طويل. يهوي بهراوته بقوة على جسد مديحة». وحين يعرف أفراد المجموعة باغتيال مديحة، يهبط «صمت» يحلق «بجناحين على رجال المقبرة».

فضاء للمقاومة

كانت المقبرة، التي يقصدها، في السابق، أهل الموتى وقراء القرآن، ملجأ آمناً لهاربين من التجنيد العسكري الإجباري وحملات الملاحقة للمعتقلين السابقين، لكنها تحولت إلى موقع لمواجهات كر وفر. فقد شهدت عدة هجمات من قوات الشرطة الحكومية ضمن معارك في جبهات قتال خلال انتفاضة شملت البلاد. وقد أخذت الانتفاضة شكل انتفاضات شعبية شارك فيها الشباب وكبار السن صاحبتها معارك كر وفر، حيث صارت المقابر متاريس وتضاريس وقلاع ضغينة، وانتهت إلى مذابح سالت فيها دماء كثيرة، ودامت نحو خمسة أيام انتهت بهزيمة المنتفضين.
لكن كاتب الرواية، رغم تصريحه باستبعاده للبطولة الفردية في الرواية، إلا أنه لم يستطع تقليص مساحة بطولة مديحة ومحمود. والملاحظ أن تغييراً كبيراً قد حدث لهاتين الشخصيتين إذ انتقلا من أنماط نشاط يعتمد على تسليع الجسد إلى مدار طهري وموقف يهتم بإعلاء كرامة وقيمة الإنسان، ويبدو أن الشخصيتين قد تضخمتا لتتجاوزا الحدود التي كانت مرسومة لهما في المخطط الأولي للرواية، الذي ذكره كاتب الرواية، وهذا شيء وارد على الدوام.
تتكرر كثيراً في متن الرواية الإشارة إلى الأجنحة والسماوات البعيدة، مثل «سمع خفقة أجنحة طيور» و«حلقت بحرية في سماوات أخرى بعيدة»، و«سمع خفقة أجنحة طيور قريبة منه»، بل إن الكاتب يذكر صراحة أنه حين زار قبر أبيه في مقبرة وادي السلام أسرته مشاهدة «الشواهد التي تخيلها حمامات بيضاء تحلق في سماء المقبرة»، مضيفاً: «وظل المشهد يراود مخيلتي». وهكذا ظلت الأجنحة والسماوات تلاحقه على امتداد الرواية إلى أن تلحق به في سفر خروجه، وهو مكتمل الأجنحة في آخر سطور الرواية، حيث يقول عن أفراد مجموعة المقبرة «استغلوا السيارة كغرباء بعد أن نمت لهم أجنحة واسعة للغاية وحلقوا بعيداً في سماوات بعيدة». وهكذا يبدو مكوثهم فوق المقبرة وكأنه مرحلة ينتظرون فيها اكتمال أجنحتهم للتحليق.

* كاتب سوداني



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.