التعاون يتغلب على المنافسة

مروحية روسية فوق دورية مشتركة مع الجيش التركي شمال شرقي سوريا أمس (أ.ف.ب)
مروحية روسية فوق دورية مشتركة مع الجيش التركي شمال شرقي سوريا أمس (أ.ف.ب)
TT

التعاون يتغلب على المنافسة

مروحية روسية فوق دورية مشتركة مع الجيش التركي شمال شرقي سوريا أمس (أ.ف.ب)
مروحية روسية فوق دورية مشتركة مع الجيش التركي شمال شرقي سوريا أمس (أ.ف.ب)

إذا لم نقل إن تاريخ العلاقات بين الدولتين الجارتين متعددتي القوميات والأديان، روسيا وتركيا، اللتين مرت كل منهما عبر حقبة الإمبراطورية (الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية العثمانية) لم يكن مستقيماً، ولم نقل إنه كانت فيه حروب عديدة ومراحل شراكة بناءة، وحتى صداقة، فهذا يعني أننا لم نقل شيئاً.
وإذا لم نقل إن ذاكرتهما التاريخية مثقلة بالمظالم، وفي الوقت نفسه إن علاقاتهما تستند إلى أساس قوي للتعايش بين الشعبين الروسي والتركي، فهذا أيضاً لن يكون مطابقاً للواقع.
لكن، من ناحية أخرى، هل كان تاريخ العلاقات بين دول تقع في فضاء واحد، حتى وإن كانت تفصلهم المياه، مستقيماً؟ يكفي أن نذكر هنا الحروب بين الولايات المتحدة وبريطانيا، اللتين تربطهما علاقات قرابة، تلك الحروب التي كانت في حينها تحريرية بالنسبة لأميركا.
إذا تحدثنا حصرياً عن تاريخ روسيا وتركيا في حقبة ما بعد الإمبراطورية وما بعد الثورة في القرنين العشرين والحادي والعشرين، فسنجد هنا أيضاً فترات من علاقات الصداقة والتعاون، وفترات من المواجهة والعداوة.
منذ بداية عشرينيات القرن الماضي وحتى عام 1939 (نقطة الانحدار الفعلية) كانت الدولتان في بعض الأحيان قريبتين جداً، لدرجة أنه من بين الشخصيات البطولية التي خُلِّدت في النصب التذكاري الرائع في ميدان تقسيم في إسطنبول، إلى جانب الشخصيات التركية التي تدين لها تركيا بالحفاظ على دولتها، تمثال المشير السوفياتي، ولاحقاً الرئيس الرسمي للاتحاد السوفياتي، كليمنت فوروشيلوف، وتمثال مؤسس المخابرات العسكرية السوفياتية، سيميون أرالوف.
العلاقات بين روسيا وتركيا تتعزز اليوم باطراد، مع أنها ليست خالية من المشاكل.
كان عام 2000 نقطة مرجعية لبداية مرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين، حَددت فيها المصالحُ الوطنية سلفاً انتصار التعاون على التنافس.
إن النمو الهائل للسياحة والتواصل الوثيق بين الناس (يكفي القول إن عدد الأسر المختلطة تجاوز 80 ألف شخص) أصبح عنصراً هاماً في تنمية العلاقات. ورغم التفاؤل الذي ساد في تقييم آفاق التعاون المتنامي بسرعة، لاحظ العديد من الخبراء أن هذا التعاون مجزأً وغير متناظر، وهو ما أود وصفه بأنه أفقي أو قطاعي، أي بمعنى الاختلاف في مستويات تطوره في مختلف مجالات الحياة.
بعبارة أخرى، حتى في الفترة الحديثة الحالية، أي في القرن الحادي والعشرين، لم تكن العلاقات بين البلدين مستقيمة أيضاً، حيث شهد الجو العام للاتفاق، وبشكل دوري، أزمات تم التغلب عليها، بفضل «كيمياء» العلاقات الشخصية بين الرئيسين بوتين وإردوغان، كان أشدها حادث إسقاط الطائرة الروسية الحربية من طراز «سو - 24 إم» في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 وقتل طيارها. لقد وجه هذا الحادث ضربة للروابط، ليس فقط في مجال الأمن، بل وحتى في مجال الاقتصاد، متقدماً بفارق كبير عن المجالات الأخرى، إذ تم بعده تجميد التجارة فعلياً، وبات مصير المشاريع العملاقة والمهمة في خطر.
ثم عاد قادة البلدين واتفقوا بعد اعتذار إردوغان في عام 2016. وتحسنت العلاقات مرة أخرى، لكن الأثر الذي خلفه هذا الحادث قوض الثقة المتبادلة، وسمح للمشاعر السلبية بالانتشار مرة أخرى بين جزء من السكان تجاه بعضهم البعض، حيث لا تزال هذه المشاعر تبرز بين الفينة والأخرى.
ويشير الخبير التركي حبيبي أوزدال في هذا الصدد، بحق، إلى أن نظام الإعفاء من التأشيرة الذي كان قائماً بين الدولتين قبل الحادث، بات وحتى بعد التطبيع، صالحاً على أساس متبادل، فقط لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية والخدمية، وكذلك لسائقي المركبات على الخطوط الدولية.
لكن المسألة هنا لا تكمن في أنها مجرد عواقب للحادث، إذ يتشكل انطباع، وكأن موسكو كانت مستعدة لإعادة قيود السفر جزئياً للمواطنين الأتراك في ضوء مخاوف متعلقة بالأمن القومي. فكما يقول المثل الروسي: «لم تكن هناك سعادة، لكن سوء الحظ ساعد».
أما فيما يتعلق بالمخاوف المذكورة أعلاه، فهي مرتبطة بتهديدات عبور أعضاء تنظيمات متطرفة إلى روسيا لارتكاب أعمال إرهابية على الأراضي الروسية، فضلاً عن ترويجهم للأفكار الإسلامية والقومية الراديكالية، وتجنيد المواطنين الروس. فلقد أعطى دعم تركيا لأنشطة الجماعات التي تخوض صراعاً مسلحاً في سوريا ضد الحكومة الشرعية، سبباً للاعتقاد بأن مخاوف الإدارات الروسية لم تكن من دون أساس. وثبت ذلك من خلال حادثة قتل السفير الروسي في تركيا، أندريه كارلوف، في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2016 على يد إرهابي كان سابقاً عنصراً في شرطة أنقرة. غير أنه تم نزع فتيل الموقف بسرعة من خلال رد الفعل الصحيح الذي جاء في الوقت المناسب من جانب السلطات التركية وإردوغان شخصياً، الذي كاد قبل ذلك بفترة قصيرة، في 15 - 16 يوليو (تموز) 2016، أن يقع ضحية انقلاب حاول عسكريون تنفيذه. وسهّل استعادة الثقة الموقف النشط للقيادة الروسية الداعم للزعيم التركي، والذي أدان محاولة الانقلابيين الاستيلاء على السلطة بطريقة غير قانونية. علاوة على ذلك، في حال تصديق الشائعات المتداولة في وسائل الإعلام، يُزعم أن الأجهزة الروسية الخاصة كانت قد حذرت إردوغان من الانقلاب الوشيك، مما ساعده على النجاة.
- مشاريع عملاقة
تعافت العلاقات التجارية والاقتصادية بين موسكو وأنقرة بسرعة، وواصلت المشاريع العملاقة المضي قدماً، واحتلت روسيا المرتبة الأولى من حيث عدد السياح الذين يزورون تركيا، والذي بلغ سبعة ملايين سائح بحلول عام 2019. وأكدت الخبيرتان الروسيتان إيرينا زفياغلسكايا وإرينا سفيستونوفا أن روسيا أصبحت ثالث أكبر شريك تجاري لتركيا. ففي ديسمبر 2020 بلغت حصتها 47 في المائة من إجمالي واردات الغاز السنوية إلى تركيا. وبات المشروعان العملاقان الرئيسيان، خط أنابيب الغاز «السيل الأزرق» بطاقة 16 مليار متر مكعب في السنة، و«السيل التركي» الذي تم إطلاقه في يناير (كانون الثاني) 2020. بطاقة 31.5 مليار متر مكعب في السنة، أهم المشاريع في قطاع الطاقة، حيث أصبحت تركيا مركزاً دولياً مهماً لتوزيع الطاقة، يتم من خلاله إمداد الغاز الروسي إلى بلغاريا واليونان وصربيا ورومانيا ومقدونيا الشمالية والبوسنة والهرسك. وفي الوقت الحالي، يجري بناء محطة «أكويو» النووية لتوليد الطاقة الكهربائية، جنباً إلى جنب مع تدريب الكوادر الوطنية للصناعة النووية، ويواصل مقاولو البناء الأتراك العمل بنشاط في روسيا.
كذلك، فإن صفقة شراء تركيا لأنظمة الصواريخ الروسية المضادة للطائرات من طراز «إس 400» تجاوزت الإطار الاقتصادي، نظراً لارتباطها بشكل مباشر بالمصالح الأمنية لتركيا وروسيا، الأمر الذي أثار استياءً حاداً لدى شركاء تركيا في حلف «الناتو»، إذ حاولوا التدخل لإعاقة إنجاز هذه الصفقة، من خلال التهديد بالعقوبات. وتلقى على إثرها مؤيدو التوجه الأوروآسيوي في تركيا حججاً إضافية لصالح برنامجهم. في الوقت نفسه، تدرك روسيا جيداً أن مسار أنقرة للوفاء بجميع التزاماتها في حلف «الناتو» ثابت، لكن القيادة التركية ستدافع دائماً عن الحق في اتخاذ القرارات المتعلقة بأمنها بشكل مستقل.
وعلى النسق نفسه، أدى قرار تركيا نشر طائرات من دون طيار من طراز «بيرقدار تي بي 2» (اثنتان حتى الآن) والتي بإمكانها نقل الرسائل إلى السفن الحربية التركية، في أراضي جمهورية شمال قبرص غير المعترف بها، وكذلك بدء العمل على تحديث قاعدة «جتشيكالة» الجوية، إلى بروز مخاوف لدى قيادات جمهورية قبرص واليونان ومصر (حيث، على ما يبدو، تجري تركيا مع الأخيرة حواراً جاداً وواعداً). وأبدت حكومات هذه الدول، ظاهرياً، ضبط النفس، انطلاقاً من عدم رغبتها في توتير العلاقات مع أنقرة، في انتظار رد فعل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. واتخذت روسيا إزاء هذا الأمر موقفاً مبنياً على احترام السيادة وعدم التدخل في العلاقات بين دول شرق البحر المتوسط. لكنها، في الوقت نفسه، وإدراكاً منها لأهمية المنطقة في ضمان المحيط الخارجي لأمنها الإقليمي وأمن قواعد قواتها في سوريا، واضطلاعاً بمسؤوليتها كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي، تتابع عن كثب التطورات في هذه المنطقة.
- سوريا... والجار
وهنا يلعب التعاون بين روسيا وتركيا دوراً كبيراً فيما يتعلق بالأزمة السورية على الصعيدين الثنائي والثلاثي (مع إيران)، والذي يتطور رغم الاختلافات في مواقف البلدين.
وعلى وجه الخصوص، ترى روسيا أن من الضروري أن تخضع محافظة إدلب لسيطرة الحكومة السورية، أما تركيا فهي قلقة على مصير الجماعات الموالية لها والموجودة تحت حمايتها في هذه المحافظة. فجزء كبير من المحافظة يخضع لسلطة «هيئة تحرير الشام»، التي صنّفها المجتمع الدولي بأنها منظمة إرهابية. وحتى الآن، فشلت أنقرة في الوفاء بالتزاماتها المنصوص عليها في المذكرة الروسية التركية، في تحديد وفصل الإرهابيين عن الجماعات الموالية لها.
في الوقت نفسه، تواصل روسيا وتركيا التعاون هناك. فعلى سبيل المثال، تقوم قوات البلدين بتسيير دوريات عسكرية روسية تركية مشتركة على الطريق السريع .M4
وحتى الآن، لا يزال موقف تركيا سلبياً بشكل حاد تجاه دمشق، وتعتبر الأكراد السوريين عموماً إرهابيين، باستثناء الجماعات الموالية لها. لكن روسيا لا تشاركها هذه المواقف. فهي وإن كانت تتفهم مخاوف تركيا، لكنها تنطلق من حقيقة أن وجود الأخيرة في شمال سوريا مؤقت، وفقاً لما قاله الرئيس إردوغان نفسه. ومن الصعب تحديد ما إذا كان يمكن حدوث تغير في موقف أنقرة تجاه دمشق في ظل الظروف الجديدة. وفي مطلع سبتمبر (أيلول)، تحدثت الصحافة التركية عن لقاء مرتقب في بغداد بين رئيس جهاز المخابرات التركية هاكان فيدان ورئيس مكتب الأمن الوطني السوري اللواء علي مملوك، وبدأت تركيا تتحدث عن بداية حقبة جديدة في العلاقات بين أنقرة ودمشق، التي لا تحتاج الآن إلى وساطة موسكو وطهران. وتعليقاً على النبأ، قال الرئيس السابق لإدارة الاستخبارات في الأركان العامة للقوات المسلحة التركية، الجنرال المتقاعد إسماعيل بكين، إنه سيتم مناقشة القتال ضد الجماعات الكردية المسلحة في شمال شرقي سوريا، وأزمة الهجرة، وكذلك مصير مناطق المتمردين في محافظة إدلب، والوضع في محافظة درعا. ووفقاً لما قاله الجنرال المتقاعد، فإن العملية التي انطلقت بقيادة هاكان فيدان تهدف إلى تفعيل «القنوات الدبلوماسية».
ورغم أن موقف تركيا السلبي الحاد تجاه دمشق لم يتغير، بات من الواضح أن الشائعات تبدو معقولة (لم يكن هناك إعلان رسمي عن الاجتماع المخطط له) على خلفية المحادثات حول قرار واشنطن سحب قواتها العسكرية من العراق، وحتى احتمال انسحاب الأميركيين من سوريا، وكذلك في ضوء تحسين علاقات تركيا مع السعودية ومصر والإمارات. بدورها، بدأت دوائر الخبراء الروس تتحدث عن احتمال معين لتحويل روسيا وتركيا إلى لاعبين خارجيين رئيسيين في بلاد الشام.
- حوار في ليبيا
فيما يتعلق بالأزمة الليبية، يبدو أن أنقرة وروسيا ما زالتا ملتزمتين بالحوار ولا تميلان إلى تعقيد تفاعلهما بشأن القضايا الإقليمية إثر الخلافات القائمة في الرأي حول التسوية الليبية، في انتظار الانتخابات البرلمانية والرئاسية في ديسمبر المقبل. فوفقاً لبعض المسؤولين، يُزعم أن عبد الحميد دبيبة، خلال اجتماعه في يونيو (حزيران) مع إيمانويل ماكرون، أعرب عن رأي ضد انتخابات ديسمبر، ثم أرسل إشارات مماثلة إلى لاعبين آخرين. ويعتقد الخبراء الروس والأتراك أن دبيبة يمكن أن يستفيد هو وغيره من المسؤولين الحكوميين من تأجيل الانتخابات والحفاظ على الوضع الراهن، وهو ما يصب أيضاً في مصلحة خليفة حفتر، الذي لا يمكنه الترشح كونه مواطناً أميركياً، إضافة إلى أن فرصه بالفوز ضئيلة. في الوقت نفسه، تهتم أوساط الخبراء الروس بإمكانية ترشح صدام، نجل حفتر، في الانتخابات الرئاسية، الذي يميل الإسرائيليون، بحسب الشائعات، إلى دعمه. أما سيف الإسلام القذافي، الذي لن تقبل ترشحه الجماعات المسلحة المرتبطة بالإسلاميين في طرابلس ومصراتة، فهو أيضاً بإمكانه أن يكون شخصية واعدة.
وتعير موسكو لاختلاف الرؤى في سياق العلاقات مع تركيا تجاه قضايا فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي، أهمية أكبر مما هو الحال عليه تجاه قضايا الشرق الأوسط. ومن بين هذه القضايا، على وجه الخصوص، عدم اعتراف أنقرة بشبه جزيرة القرم كجزء من الاتحاد الروسي، وكذلك التعاون العسكري التقني بين تركيا وأوكرانيا، فضلاً عن التعاون الروسي التركي في ناغورني قره باغ.
وكما كتب مؤلفو العمل الجماعي «عاصفة في القوقاز»، الذي نُشر مؤخراً تحت إشراف الخبير العسكري الروسي الشهير رسلان بوخوف، لا يمكن اعتبار الوضع الحالي في منطقة الصراع مستقراً. و«إذا لم تظهر فرص للانتقام الأرمني في المستقبل المنظور، فإن أذربيجان ستسعى إلى السيطرة الكاملة والنهائية على كامل أراضي ناغورني قره باغ». وبطبيعة الحال، لا غنى في هذه الحالة عن مساعدة تركيا، وهذا الأمر سيضع روسيا في موقف صعب، رغم أنها تمكنت حتى الآن من المناورة بنجاح كبير: فقد احتفظت بأرمينيا كحليف، وبأذربيجان كشريك. لكن، إلى متى يمكن أن يستمر هذا الوضع؟ وإلى متى ستكون أنقرة مستعدة لرؤية موسكو كحافظ رئيسي للسلام في جنوب القوقاز؟
ويلفت العديد من المحللين الروس الانتباه إلى استعدادات باكو لحرب جديدة، ويربط بعضهم ذلك بتقارب أذربيجان مع تركيا. ويمكن اليوم أن نجد في الصحف الروسية مقالات تدّعي أن الجانبين يخططان لإنشاء جيش مشترك في المستقبل تحت رعاية مجلس الدول التركية. ويجب الأخذ بعين الاعتبار، كما يقول المحلل التركي البارز كريم خاص، أن حرب قره باغ الثانية الأخيرة، اتسمت بالفعل بانخراط كبير من قبل روسيا وتركيا في الصراع.
والسؤال هو: ألا يمكن أن يتحول تطور هذا الاتجاه إلى خطورة كبيرة على الشريكين التركي والروسي؟ حينها قد يكون على حق أولئك المحللون السياسيون الذين يسمون التفاعل بين موسكو وأنقرة في مناطق الصراع «تعاوناً عدائياً»، أو «تنافساً متعاوناً».
- خاص بـ«الشرق الأوسط»



طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».