المعركة حول ظاهرة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم

عبده جبير يتتبع فصولها في «النغم الشارد»

الشيخ إمام ( يمينا) وأحمد فؤاد نجم
الشيخ إمام ( يمينا) وأحمد فؤاد نجم
TT

المعركة حول ظاهرة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم

الشيخ إمام ( يمينا) وأحمد فؤاد نجم
الشيخ إمام ( يمينا) وأحمد فؤاد نجم

صدر أخيرا في القاهرة كتاب «النغم الشارد» المعركة حول ظاهرة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، من تأليف الكاتب والأديب عبده جبير، وهو أحدث الكتب التي تتناول من زاوية جديدة مختلفة، ظاهرة الثنائي الشهير «إمام - نجم» أي ذلك المغني الشعبي الكفيف الذي اشتهر في السبعينات، ورفيق دربه الشاعر الغنائي الذي أصبح «أيقونة» من أيقونات حركة الاحتجاج السياسي في مصر لعقود. ويعتمد هذا الكتاب الصادر عن دار «آفاق» (في 191 صفحة من القطع الصغير) على ما تبقى مما سبق أن دونه وجمعه الكاتب من مذكرات وقصاصات صحف خلال الفترة التي عرفت بدايات نشاط الشيخ إمام ونجم، بعد هزيمة عام 1967 في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، ثم ما تبعها من أحداث صاخبة في بدايات حكم الرئيس السادات. يضع الكاتب تلك الظاهرة في سياق عصرها، أي في تلك الفترة الساخنة التي عرفت ظهور النقد السياسي اللاذع وانتشار النكات الشعبية، الأمر الذي سبب الكثير من الحرج لنظام عبد الناصر، فلجأ أولا كما يروي الكاتب تفصيلا، إلى محاولة «تحييد» الظاهرة عن طريق شراء المغني والشاعر الذي ارتبط به وأصبح يقيم معه في حجرة رثة من حي الغورية العتيق بالقرب من الجامع الأزهر، ويروي الكاتب كيف أرسل عبد الناصر وزير الإرشاد وقتذاك، محمد فايق، إلى منزل الشيخ إمام في تلك المنطقة الشعبية، وهناك عرض عليه الغناء في إذاعة «صوت العرب»، ويصور كيف تشكك كل من إمام ونجم في ذلك العرض الذي يأتي من السلطة التي يوجهون لها النقد اللاذع الساخر في الأغاني التي يكتب كلماتها نجم وينشدها الشيخ إمام، والتي كانت قد بدأت في الانتشار بشكل سريع بين الطلاب والمثقفين.
ويروي الكاتب كيف عرض محمد عروق مدير إذاعة «صوت العرب» شيكا بمبلغ 10 آلاف جنيه على كل من إمام ونجم، ولكنهما رفضا. وهي الرواية التي شاعت بالفعل، وتناقلها الكثيرون، وكنت قد أبديت تشككي فيها في كتابي «الشيخ إمام في عصر الثورة والغضب» (الصادر عن مكتبة مدبولي عام 2010). وكنت أرى أن هذا المبلغ (10 آلاف جنيه) بمقاييس تلك الفترة من عام 1968 هو مبلغ «فلكي» يتجاوز كثيرا ما كان يمكن أن يحصل عليه مطرب مثل عبد الحليم حافظ من عائدات حفل غنائي يقيمه. وخصوصا أن الكاتب الراحل رجاء النقاش قال إنه كان شاهدا على مقابلة إمام - نجم بمحمد عروق، وإن المبلغ لم يتجاوز 50 جنيها!
يقدم عبده جبير في كتابه وصفا دقيقا للحي الذي يقيم فيه الرجلان في إطار وصفه لأحياء القاهرة القديمة، ثم يتناول علاقتهما مع «محمد علي» الرسام التلقائي الشعبي الذي تحول من رجل يعمل في صياغة الذهب لدى تجار الذهب، إلى ضابط إيقاع للفرقة الصغيرة، ثم إلى رسام أيضا، ويسرد علاقة المثال الشعبي الموهوب محمود اللبان بالثنائي، وكيف كان يقيم في نفس الحي العريق، ويتطرق بالتفصيل إلى علاقة الشيخ إمام بقراءة القرآن في البداية ثم كيف تعلم العزف على العود والغناء على يدي الشيخ درويش الحريري. ويسرد المؤلف تطور حياة الشيخ إمام ونجم، استنادا إلى سلسلة من الحوارات المكثفة التي سجلها معهما، كما يعتمد على معاصرته للكثير من أحداث الفترة، ومنها على سبيل المثال، الحفل الذي أحياه الشيخ إمام مع نجم ومحمد علي في نقابة الصحافيين المصريين عام 1968، وكنت أفضل أن يسمي جبير كتابه «النغم الصامد» فهو أكثر تعبيرا عن الظاهرة.
يتابع الكتاب تجارب السجن التي مر بها الاثنان سواء في قضايا ملفقة أو في إطار التعقب السياسي للمعارضين، في البداية بعد أن فشلت محاولة تدجين الرجلين وإغرائهما بالمال والشهرة والانتشار الجماهيري عن طريق الإذاعة الرسمية، ثم عقابا لهما على التطاول على الذهاب إلى الجامعة، وهو ما اعتبر تحريضا سياسيا في المقام الأول.
من ضمن الأفكار السائدة المنتشرة والمستقرة أن الشيخ إمام اعتمد في كل ما أنشده وغناه على أشعار كتبها أحمد فؤاد نجم، الذي عرف بموهبته الكبيرة في استخدام العامية المصرية، إلا أن عبده جبير يؤكد أن الشيخ إمام غنى لخمسة وثلاثين شاعرا ومؤلفا للزجل والأشعار الشعبية، سواء من المصريين أو غير المصريين، من تونس وفلسطين.
ولعل الهجمة المدفوعة على الشيخ إمام تحديدا، وكونها ظهرت في عصر عبد الناصر بعد هزيمة 67 بسبب خطورة النغمة التحريضية الساخطة التي كان المستمعون يتجاوبون معها في تلك الأغنيات، استمرت لفترة طويلة إلى ما بعد وفاة الشيخ إمام عام 1995 عندما كتب محمود السعدني مقاله الشهير في مجلة «روز اليوسف» بعنوان «أكذوبة الشيخ إمام» يهجو فيه المغني الكفيف بعد رحيله ويصفه بالأكذوبة، ويستنكر أن يكون البعض قد شبهه بسيد درويش، ويقول إنه لم يكن يجيد لا التلحين ولا الغناء. ومن ضمن الوثائق المهمة التي يضعها المؤلف في الكتاب مقال طويل للمؤلف الموسيقي سليمان جميل، الذي نشره محمد حسنين هيكل في «الأهرام» في تلك الفترة من أواخر الستينات، ينهال فيه قدحا وذما على الشيخ إمام وأغانيه وصوته وموسيقاه ويصمه بأنه من «المدمنين»، وأنه يغني لجمهور الحاضر بأسلوب الماضي. ويبدو المقال كما لو كان بلاغا للسلطة التي سرعان ما ستعتقل أجهزتها المغني والشاعر وتضعهما وراء القضبان. لكن القاضي يطلب أن يستمع إلى سبب «عملي» للقبض عليهما فيسمعه أحمد فؤاد نجم كلمات الأغنية الرمزية الساخرة الحزينة «بقرة حاحا» فيأمر القاضي على الفور بإطلاق سراحهما!
ويأتي مقال أستاذ الفلسفة المثقف الكبير الدكتور فؤاد زكريا بلسما شافيا حينما يكتب أفضل من أفضل ناقد موسيقي، تحليلا فنيا رفيعا للظاهرة، لنوع الغناء، لمغزاه، لقوته وطاقاته اللحنية والصوتية وكيف أن أداءه هو «مزيج من الإنشاد والدعوة أو الخطابة وصيحات الحماسة والإعجاب وهمسات الاستنكار وغمزات اللوم والتقريع».
الكتاب، بشكل عام، رحلة ممتعة في تاريخ ظاهرة فنية لعبت دورها، ولا تزال، في إطار الظاهرة السياسية، بعيدا عن القنوات الإعلامية الرسمية.



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.