ورد وديك الجن الحمصي... الحب مذبوحاً بسيف الغيرة

هل بلغت قصة زواجهما المأساوي مسامع شكسبير عن طريق تجار البندقية؟

مسرحية «عطيل»... وجوه تشابه مشتركة بينها وبين التراجيديا العربية التي جسدها ديك الجن
مسرحية «عطيل»... وجوه تشابه مشتركة بينها وبين التراجيديا العربية التي جسدها ديك الجن
TT

ورد وديك الجن الحمصي... الحب مذبوحاً بسيف الغيرة

مسرحية «عطيل»... وجوه تشابه مشتركة بينها وبين التراجيديا العربية التي جسدها ديك الجن
مسرحية «عطيل»... وجوه تشابه مشتركة بينها وبين التراجيديا العربية التي جسدها ديك الجن

لم يحتفِ البشر عبر تاريخهم الطويل بعاطفة من العواطف الكثيرة المتباينة التي تعتمل في دواخلهم كما احتفوا بالحب، خاصة في شطره «المشبوب» المتعلق بالرجل والمرأة، وما يصيبهما بفعل سطوته العنيفة من تغيرات. والأدل على ذلك هو دخول هذه العاطفة في النسيج العميق للشعر والأدب، والفن بوجه عام، حيث ترك لنا الرجال العشاق والنساء العاشقات نماذج وتعبيرات إبداعية غير قابلة للحصر.
على أن تلك النماذج لم تكن وليدة الحب المألوف أو العلاقات العاطفية العادية التي تؤول إلى نسيان محقق، بعد أن يوصلها الزواج إلى نهاياتها التقليدية السعيدة، بل كانت تجد ضالتها في التحديات الصعبة والعوائق الاجتماعية المختلفة التي توصل العلاقة إلى طرق مسدودة، يتقاسم نهايتها الشعر والجنون والموت. وهو ما بدت تمثلاته واضحة في كثير من الحضارات الشرقية والغربية، كما جسدته على نحو خاص تجربة الشعراء العذريين عند العرب.
لم يكن الزواج بالمقابل ليثير، عدا استثناءات نادرة، «لواعج» الشعراء والفنانين لأنه بإلغائه التام للمسافة الفاصلة بين الشخصين المتحابين يحرم الشعر من أبرز شروطه المتعلقة بالشغف ولهب التخيل وترجيعات الفقدان. وإذا كان الفن في بعض وجوهه هو البديل الرمزي عن الحياة غير المتحققة، فإن زواج المتحابين لا يترك للفن ما يفعله، إذ يقوم الواقعي في هذه الحالة مقام المتخيل المحلوم بتحقيقه.
والأدل على ذلك هو أن معظم القصائد التي كتبها الشعراء حول المرأة كان يتم إنجازها في فترات التتيم والوجد العاطفي التي تسبق الزواج، حتى إذا وصلت العلاقة إلى مآلاتها السعيدة خمدت نيران الشغف، وتراجع الوحي الشعري إلى خانة الصفر. والأمر نفسه يحدث في كثير من حالات السرد، حيث لا تجد الحكايات وقصص الحب والسير الشعبية ما تضيفه إلى زواج الطرفين المتحابين، سوى الإشارة إلى كونهما قد «عاشا في ثبات ونبات، إلى أن أتاهما هادم اللذات ومفرق الجماعات» الذي هو الموت.
وانطلاقاً من كل ما تقدم، كان يمكن لقصة الحب التي جمعت بين ديك الجن الحمصي وحبيبته ورد أن تؤول بعد تتويجها بالزواج إلى نسيان محقق، لو لم تسهم الظروف المعقدة التي أحاطت بتلك العلاقة الشائكة في توفير النصاب الضروري لتحويلها إلى مأساة مروعة ظلت تردداتها الحزينة تُتناقل بشكل دائم من جيل إلى جيل. وقد ورد في غير مصدر قديم أن الشاعر العباسي عبد السلام بن رغبان الذي لقب بديك الجن، بسبب قصيدة نظمها، أو لخضرة زائدة في عينيه، أحب جارية له نصرانية تسمى ورداً، ثم دعاها إلى الإسلام فأسلمت.
وقد ملك جمال المرأة على الشاعر قلبه وعقله، فنظم فيها قصائد ومقطوعات عدة، من بينها:
انظرْ إلى شمس القصور وبدرها
وإلى خزاماها وبهجة زهرها
لم تبكِ عينكَ أبيض في أسود
جمَع الجمال كوجهها في شعرها
وتمايلتْ فضحكتُ من أردافها
عجباً ولكني بكيت لخصرها
أما سبب قتله لورد، فيُرجعه أبو الفرج الأصفهاني في كتاب «الأغاني» إلى مكيدة دبّرها بليْل ابن عمّ له يدعى أبا الطيب، كان الشاعر قد هجاه بسبب تحامله عليه وعلى زوجته. وإذ كان ديك الجن مسافراً في تجارة له، كان ابن عمه ذاك قد حبك له دسيسة ماكرة، مفادها أن ورداً تخونه مع غلام له، الأمر الذي جعله يعود مسرعاً إلى حمص.
ولم يكد الزوج المستشيط غضباً يتنفس الصعداء، حين وجد امرأته وحيدة في المنزل، حتى فوجئ بمن يقرع الباب، تنفيذاً للفصول الأشد خطورة من المكيدة، ثم تبادر المرأة الغافلة عما يجري بالسؤال عما إذا ما كان زوجها قد عاد من السفر أم لا. فلم يكن من ديك الجن، وقد انطلت عليه الحيلة، ووجد في الحادثة المدبرة الدليل الملموس على خيانة زوجته، سوى أن يمتشق سيفه، ويحتز به عنق المرأة التي أحبها حتى انقطاع الأنفاس.
لم يُظهر ديك الجن في البداية أي شعور بالندم على فعْلته الشنعاء، ربما لأنه أحس بأن قتله لورد لم يكن ثمرة الوساوس المجردة، بل هو إحقاق عاجل لعدالة الأرض، حيث القتل ذبحاً هو العقاب الطبيعي للزوجة الخائنة. وهكذا، حلّ محلّ الندم شعور ممض بالمرارة والغم الشديد، إزاء نزوع زوجته إلى الخيانة والغدر. وهو ما جسدته مقطوعات عدة، من مثل:
أيها القلب لا تعُد لهوى البيض ثانية
ليس برقٌ يكون أخْلبَ من برقِ غانية
خنتِ سرّي ولم أخنكِ فموتي علانية
ولعل أكثر ما يلفت القارئ في البيت الأخير هو حرص ديك الجن على ارتداء ثوب العفة والوفاء، مقابل الخيانة المفترضة للزوجة المظلومة، فيما يُجمع المؤرخون على أنه كان منذ صباه منصرفاً إلى اللهو والمجون ونشدان الملذات، وصولاً إلى ولعه بالغلمان، خاصة الفتى «بَكر» الذي عمد -وفق بعض الرواة- إلى قتله، بعد أن ساورته الشكوك حول علاقته بورد. وإذا كان العلامة السيد محسن الأمين، في موسوعته الشهيرة «أعيان الشيعة»، قد أصر، خلافاً لإجماع المؤرخين، على نفي تهمتي القتل والمجون عن ديك الجن، فإن تسويغ هذا النفي بتشيّع الشاعر، ونظمه لكثير من القصائد في امتداح آل بيت الرسول، ليس بالأمر المقنع، لأن كثيراً من الشعراء العرب عاشوا حالة الفصام نفسها.
وأبلغ دليل على ذلك هو الفرزدق الذي لم يمنعه مديحه للإمام زين العابدين من اقتراف أفدح الآثام والمعاصي. على أن الجانب الأكثر إيلاماً من تلك المأساة الصادمة هو اكتشاف الشاعر بعد وقت قليل لحقيقة المكيدة التي دُبّرت ضده بليل، والتي أوصلت العلاقة بينه وبين زوجته إلى مصيرها الأسود. وإذ تجنبت السلطتان السياسية والقضائية في ذلك الزمن إنزال أي عقوبة تُذكر بالشاعر القاتل، تكفّل ديك الجن بالمهمة، عن طريق تبكيت الذات والنكوص الكامل باتجاه الزمن «الوردي» الذي تتعذر استعادته. وما لجوء الشاعر إلى جعل حادثة قتله لورد المحور الأبرز لمعظم القصائد اللاحقة سوى محاولة منه للتكفير عن جريمته المروعة، كما لجعل اللغة وسيلته الأنجع للحصول على العزاء المناسب، في حين أن «الزواج الشرقي العبودي» قد حرم الزوجة المغدورة من هذا الحق وتركها -وفق ما تقوله فاطمة المرنيسي- لقمة سائغة بين فكي «الصمت والجحيم».
وإذا صحت أحاديث بعض الرواة عن أن ديك الجن قد عمد إلى إحراق جثة زوجته بعد قتلها، ثم صنع من رمادها كأساً لاحتساء خمرة الندم المر، فإن تلك الفعلة الغريبة هي، على الرغم من تنافيها مع الشرع الإسلامي، محاولة رمزية أخرى للحيلولة دون تسليم الجسد المعشوق إلى عهدة التلاشي النهائي، وللاحتفاظ بما تبقّى منه في عهدة العاشق.
وهو أمر مشابه من الناحية الدلالية لما فعله الخليفة الأموي الوليد بن يزيد الذي أصر بعد موت عشيقته الأثيرة «حبابة» على البقاء إلى جوارها، وعدم إعطاء الإذن بدفنها إلا بعد أن بدأت جثتها بالتحلل.
كثيرة هي المقطوعات التي نظمها ديك الجن في رثاء ورد، وهي على الرغم من صدق نبرتها، وصدورها عن قلب مكلوم، تبدو من الناحية الفنية متفاوتة الجودة والجدة والعمق. لكن أروعها على الإطلاق هي مقطوعته الهائية التي نظمها في حمأة هلوساته، وفي ظل التمزق الدامي بين المشاعر المتنابذة، إذ يقول في أبياته الأشهر التي تناقلها الرواة:
يا طلعة طلَع الحِمَام عليها
وجنى لها ثمرَ الردى بيديها
أجريتُ سيفي في مجال خناقها
ومدامعي تجري على خدّيها
روّيتُ من دمها الثرى ولطالما
روّى الهوى شفتي من شفتيها
فوَحقّ نعليها وما وطئ الحصى
شيء أعزّ علي من نعليْها
ما كان قتليها لأني لم أكنْ
أخشى إذا هبّ الهواء عليها
لكنْ ضننتُ على العيون بحسنها
وأنفتُ من نظر الحسود إليها
ومن الصعب بالطبع أن نمر مرور الكرام على وجوه التشابه المشتركة بين التراجيديا العربية التي جسدها ديك الجن، ومثيلتها الغربية التي جسدها شكسبير في مسرحيته الشهيرة «عطيل»، مع ملاحظة أن المأساة الأولى قد حدثت على أرض الواقع، فيما حدثت الثانية على أرض الفن، وبفارق ثمانمائة عام تقريباً.
وإذا كان بعضهم يدحض حقيقة استلهام كبير الشعراء الإنجليز لمأساة الشاعر العباسي، بحجة عدم معرفة الأول باللغة العربية، وعدم قدومه إلى بلاد العرب، فثمة دلائل لافتة تشير إلى عكس ذلك. من بينها أن شكسبير زار البندقية التي شهدت أحداث مسرحيته المعروفة لفترة غير قليلة، وليس من المستبعد أن يكون قد اطّلع على تلك المأساة من خلال التجار النشطين الذين كانوا يجوبون سواحل المتوسط في تلك الحقبة من الزمن.
كما أنه ليس أمراً بلا دلالة أن يختار صاحب «روميو وجولييت» لمسرحيته بطلاً داكن اللون قدُم من المغرب إلى البندقية، ليصبح مع الوقت قائداً لجيوشها، وليحب ديدمونة ابنة أحد وجهاء المدينة التي هي من غير دينه، ويتزوجها من غير رضا أهلها، تماماً كما كان حال ورد. أما مكيدة أبي الطيب ضد الزوجين المتحابين، فتقابلها مكيدة ياغو، حامل الراية في جيش عطيل، ضد ديدمونة، والادعاء بأنه يحتفظ بالشال الحريري الذي كان عطيل قد أهداها إياه علامة على خيانتها.
حتى إذا عمد عطيل إلى قتل زوجته انتقاماً لكرامته المجروحة، عمدت إميليا زوجة ياغو إلى تبرئة الزوجة المقتولة من تهمة الخيانة، كاشفة عن أن ياغو قام بسرقة الشال الذي كان بحوزتها إذ ذاك، ليحث قائده الغيور على ارتكاب جريمته. وإذا كان شكسبير قد أحدث تعديلاً على المأساة الأولى، عبر دفْع بطله إلى الانتحار الجسدي، فإن العقاب الذي فرضه ديك الجن على نفسه، وقد استسلم لليأس والندم وإدمان الشراب، ليس أقل وطأة من الخيار الشكسبيري الذي وضع عبر انتحار البطل حداً سريعاً لمعاناته المؤرقة.
قد لا تكون هناك علاقة واضحة، أخيراً، بين مأساة الثنائي العاشق في العصر العباسي الأول وذينك الخطين الطويلين من الشجر المائل المزروع على مداخل حمص، ذلك أن الرياح الدائمة التي تتسلل من المتوسط عبر الممر الخفيض الذي يفصل بين جبال عكار وجبال طرطوس هي التي تتسبب -وفق علماء المناخ- بإجبار الأشجار في تلك النواحي على الانحناء، حتى تكاد تلامس الأرض.على أننا نستطيع بقليل من الخيال الشعري أن نربط بين مشهد الأشجار ذات الظهور المقوسة ودم ورد المراق على تراب الأنوثة المغدورة، بما يذكّرنا بقول الكاتب الفرنسي ميلوز: «الرياح العاتية تعوي بأسماء النساء الميّتات منذ زمن طويل.
أما بساتين الميماس المجاورة للمدينة، المخترقة بالنصل الفضي الآسر لمياه العاصي، التي رعت بحنوّ بالغ غرام الحبيبين المشبوب، فهي رعت بالحنو نفسه الدم المتسرب من جسد الجمال الذبيح، بحيث بدت المسافة بين جنة الحب وجحيمه أوهن من أن تُتلمّس بالأنامل أو تُرى بالعين المجردة».



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟