مفصل «تقاربي» ذو دلالات في توجّهات واشنطن تجاه طهران

قراءة في تقرير «الاستخبارات الوطنية» الأميركية الذي أخرج إيران وحزب الله اللبناني من قائمة التهديدات الإرهابية؟

مفصل «تقاربي» ذو دلالات في توجّهات واشنطن تجاه طهران
TT

مفصل «تقاربي» ذو دلالات في توجّهات واشنطن تجاه طهران

مفصل «تقاربي» ذو دلالات في توجّهات واشنطن تجاه طهران

جاءت الهجمات الإرهابية على متحف باردو في العاصمة التونسية تونس، يوم 18 مارس (آذار) الحالي، لتؤكد من جديد على خطورة مسلسل انتشار رقعة الإرهاب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وتزامنت تلك الهجمات مع تعرّض الإرهابيين التونسيين لنكسة حقيقية باغتيال أحمد الرويسي القيادي في تنظيم «أنصار الشريعة»، فرع «داعش»، خلال المواجهات المسلحة التي دارت يوم السبت 14 مارس بين فصيل «فجر ليبيا» والتنظيم الإرهابي المتطرف على بعد نحو 70 كيلومترا من منطقة سرت بشمال وسط ليبيا. ولقد أسفرت المعركة، التي وصفت بأنها الأعنف من نوعها بين الجانبين منذ سقوط نظام معمر القدافي، عن سقوط عشرات القتلى والجرحى.
هذه التطوّرات بشمال أفريقيا تقع بعد أيام معدودات من حدثين مهمّين على صلة بالشرق الأوسط: الأول يتعلق بتعثر معركة اقتحام تكريت بشمال غربي العراق، والثاني حذف تقرير جيمس كلابر، مدير «الاستخبارات الوطنية» الأميركية الذي قدّمه هذه السنة لمجلس الشيوخ الأميركي، كلا من إيران وحزب الله اللبناني من قائمة التهديدات الإرهابية. وكان تقرير الهيئة نفسها في أعوام 2011م و2012م و2013م و2014م، وضع إيران وحزب الله ضمن قائمة قسم «الإرهاب»؛ واعتبر أنهما «يواصلان تهديد مصالح حلفاء الولايات المتحدة بشكل مباشر».
ومع أن هذا التغير غير المفاجئ لا ينسحب على رؤية «وكالة الاستخبارات الدفاعية»، التي ما زالت تعتبر إيران وحزب الله «مصدري تهديد إرهابي» للولايات المتحدة، فإن حصول تحول كهذا في المنظور الأمني، يعكس تبدلا نوعيا في المقاربة الاستراتيجية وتوجّهات صانع القرار السياسي والأمني في البيت الأبيض. ذلك أن المنظور الجديد للتهديدات الإرهابية بات، من الزاوية الأميركية، يخضع لرهانات الشراكات الجديدة بالشرق الأوسط، خاصة «شراكة تبادل المصالح» القائمة حاليا بين طهران وواشنطن. ويبدو أن رغبة النخبة السياسية - أو قل الحزبية - الحاكمة في البلدين تسعى إلى توسيع رقعة الشراكة النفعية الحالية. وبناءً عليه، يمكن اعتبار ما أشار إليه الجانب غير السرّي من تقرير كلابر رسالة تهدف إلى تعزيز الثقة بين البلدين، وفي الوقت نفسه بناء منظور أميركي جديد ومختلف يتعلق بإعادة تعريف «الخطر الإرهابي»، وإعادة ترتيب تحالفات واشنطن الشرق أوسطية.
يمكننا أن نلمس ذلك من خلال لغة التقرير، التي يظهر عليها نوع من الثناء والإشادة غير المباشرة بالدور الإيراني الجديد في كل من العراق وسوريا. فتقرير مدير «الاستخبارات الوطنية» ينوّه بما يعتبره «مجهودات إيرانية» في محاربة ما سماه «المتطرّفين السنة»، وفي مقدّم هؤلاء مقاتلو «جبهة النصرة» وتنظيم داعش، مع إبراز التقرير نجاح طهران في منع «داعش» بالذات من التوسع على مساحات أكبر في العراق.
من ناحية ثانية، في الوقت الذي تعتبر الولايات المتحدة في عهد الرئيس باراك أوباما تنظيم داعش أكبر تهديد إرهابي يواجه مصالحها في العالم. يشير التقرير الاستخباراتي الأميركي إلى أن إيران تسعى «في العراق وسوريا إلى الحفاظ على الحكومات الصديقة لها، وحماية مصالح الشيعة، وإلحاق الهزيمة بالمتطرّفين السنّة، وتهميش نفوذ الولايات المتحدة. وصعود (داعش) دفع إيران لتوفير المزيد من الموارد للتصدّي لتقدم المتطرفين السنّة الذين يهدّدون حلفاء إيران الإقليميين ومصالحها. وقد وفرت الأجهزة الأمنية الإيرانية الدعم العسكري القوي لبغداد ودمشق، بالسلاح والمستشارين، والتمويل، والدعم القتالي المباشر».
وسجّلت هذه النسخة غير السرّيّة المنشورة 26 فبراير (شباط) 2015 في تقييمها التهديدات حول العالم لأجهزة الاستخبارات الأميركية، أن «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني بمثابة أداتين في سياسة إيران الخارجية، وهو ما يظهر في الصراع السوري والعراقي وغيرهما. كذلك يذكر التقرير، أن حزب الله اللبناني «يواصل دعم النظام السوري والمقاتلين المؤيدين للنظام والمقاتلين الشيعة في العراق وسوريا. ويساعد مدرّبو حزب الله ومستشاروه في العراق الميليشيات الإيرانية والعراقية التي تحارب المتطرّفين السنّة هناك»، وخاصة تنظيم داعش.
وفي حين يتجاهل التقرير الاستخباراتي السياسة الطائفية الإيرانية، ودورها في اتخاذ الإرهاب بكل من العراق وسوريا طابعا طائفيا، فإنه لا يتطرق إلى دور الميليشيات الشيعية وممارساتها الإرهابية في حق المدنيين، ولا يصفها بأنها تنظيمات «متطرفة». لا بل إنه يعتبر أن لدى الجمهورية الإسلامية، أي إيران، «نوايا لكبح الطائفية، وبناء شركاء متجاوبين، مع تخفيف وطأة التوترات مع المملكة العربية السعودية»، قبل أن يستدرك بشكل دبلوماسي ليسجل أن «أنشطة إيران لحماية وتعزيز المجتمعات الشيعية في المنطقة تغذّي المخاوف وردود الفعل الطائفية». ولتحديد أكثر للجهة التي يقصدها التقرير، فإنه يعتبر أن المشكلة الرئيسية تكمن في الجهاز الأمني الإيراني الذي يرى أن قيادته تتبنى «سياسات ذات تداعيات سلبية فرعية على أمن المنطقة، وربما على إيران». وهكذا، مع أن هذه السياسة واحدة من العوامل الرئيسية للتوتر الحالي في الشرق الأوسط يصر التقرير على الاستعانة باللغة الدبلوماسية مجددا، فيعتبر الاستراتيجية التوسعية الإيرانية المصاحبة باستعمال القوة، ونشر وتكوين الميليشيات غير الخاضعة للقانون، والمستقوية على الدولة في العراق واليمن وسوريا.. «مجرد تداعيات سلبية فرعية على المنطقة».
ثم في معرض الحديث عن السلاح النووي، يقول التقرير، إنه «من غير الواضح أن إيران ستقرّر في النهاية إنتاج السلاح النووي»، مضيفا أنه «إذا ما قررت الجمهورية الإسلامية ذلك فإنها ستواجه حواجز تقنية لا يمكن التغلب عليها لإنتاج أسلحة نووية».
وانسجاما مع رؤية واشنطن الجديدة، أولى ما قدمه كلابر اهتماما خاصا لما يعتبره تهديدات إيرانية في نواحي مكافحة التجسس والحرب الإلكترونية العالمية. وركز على قدرات إيران التسليحية وتطويرها للصناعة العسكرية المحلية، وسعيها للحصول على «صواريخ تكنولوجيا بالستية عابرة للقارات كنظام توصيل محتمل للسلاح النووي».
«العودة إلى الصفر».. وترسيم الشراكة
يتضح من التوجّهات الكبرى للتقرير أن سياسة واشنطن الجديدة دخلت فعليا في تنظيم «الشراكة» مع إيران. ومن ثم، فإن حذفها وحزب الله اللبناني من قائمة التهديدات الإرهابية يمثل منعطفا استراتيجيا في السياسة الأميركية ونظرتها إلى استقرار الشرق الأوسط المضطرب؛ وهذا، في حين تعتمد سياسة «الصبر الاستراتيجي» في مواجهة «داعش».
أن مثل هذه التوجّهات تجد من يدافع عنها بقوة في الأوساط الرسمية بالعاصمة الأميركية، كما يوجد لها أنصار ومنظّرون في أوساط النخبة الأكاديمية – ولا سيما الليبرالية منها – الموجّهة لصانع السياسة الخارجية الأميركية. وكان البروفسور ستيفن كينزر منذ عام 2010م من هذا التوجه ولقد حث في كتابه بعنوان «العودة إلى الصفر.. إيران. تركيا. ومستقبل أميركا» (Reset: Iran, Turkey, and America›s Future)، البيت الأبيض على إعادة النظر جذريا في التعامل مع إيران. ومن ذلك ما جاء في الصفحة 264 من كتابه، حيث يقول أستاذ العلاقات الدولية بجامعة بوسطن «وثمة طائفة من الأسباب المجرّدة للتفاوض مع إيران توازي عدد أسباب اللا تفاوض التي ليس لأي منها أهمية حقيقية. وما يهم هو تعذر تحقيق أي من الأهداف الأميركية الرئيسية في الشرق الأوسط – تهدئة الوضع في العراق، واستقرار لبنان، وإنهاء المأزق الإسرائيلي - الفلسطيني، وإضعاف الأصولية الإسلامية، والقضاء على (القاعدة)، والحد من المنافسة النووية، وخفض خطر الحروب المستقبلية – من دون تعاون إيران. ولقد أثبتت الأعوام الثلاثون الماضية، بشكل واف أن إيران المعزولة عامل تخريب. في حين يمكن لإيران الهادئة والمزدهرة أن تصبح للشرق الأوسط ما هي عليه ألمانيا الهادئة والمزدهرة لأوروبا، أي قوة استقرار، وموفرًا للأمن ومحركا للتنمية الاقتصادية».
بصفة عامة، التقرير الاستخباراتي لا ينهي بالضرورة وضع إيران في «محور الشر» المهدد للمصالح الأميركية، لكنه يؤشّر لمولد حقبة جديدة لشراكة شاملة بين الولايات المتحدة وإيران، عبر بناء شبكة من العلاقات تشمل الجانب الأمني. وبالتالي، فإن «عصر التسوية» بين الجانبين يجد من قضية الإرهاب جسرا للعبور نحو المستقبل وتطبيق «سياسة العودة للصفر» Reset، من خلال بناء تحالفات وشراكات جديدة في شرق أوسط جديد لا تعارض فيه بين المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة وإيران.
* أستاذ العلوم السياسية جامعة محمد الخامس - الرباط.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.