الرواية بوصفها متحفاً للذاكرة الجمعية الشعبية

«خلوّ» تستلهم «انتفاضة تشرين» العراقية

الرواية بوصفها متحفاً للذاكرة الجمعية الشعبية
TT

الرواية بوصفها متحفاً للذاكرة الجمعية الشعبية

الرواية بوصفها متحفاً للذاكرة الجمعية الشعبية

رواية «خلوّ» للروائي طه حامد شبيب، الصادرة عام 2021، رواية ترميزية - إليغوريا وفنطازية عن الوضع السياسي والاجتماعي، الذي أعقب الاحتلال عام 2003، وصعود القوى الإرهابية والطائفية واستقوائها بالخارج وقيامها بتهريب ثروات البلد، عبر أنفاق عملاقة «تشفط» رمزياً هذه الثروات. ومن الجهة الأخرى فهي تصدر أشكال المقاومة التي يواجه بها الناس هذا التسلط، وبشكل خاص من خلال انتفاضة تشرين وميدانها الأساسي ساحة التحرير في قلب بغداد. الرواية إلى درجة كبيرة صرخة احتجاج رافضة للحرب من خلال هرب بطل الرواية من جحيم الحرب، وهي دعوة للسلم والمحبة، من خلال ابتكار بدائل كرنفالية وتغريبية متنوعة منها توظيف الواقعية السحرية ورواية الخيال العلمي والتغريب البريختي، فضلاً عن السرد الواقعي الحديث. وتكاد الرواية تستهل حبكتها المركزية على غرار ما نجده في القصص البوليسية. إذ يدخل (نوفل) ابن الرابعة وهو يصرخ بلوعة: «عمو حاتم مات، طلع الدم من راسه ومات» (ص 5).
وهكذا مثل القصص البوليسية يثير هذا الاستهلال أسئلة عديدة لأفق توقع القارئ عن سر الجريمة وهوية القاتل، ولكنها قبل هذا وذاك تستدرجنا لمعرفة شخصية القتيل (العم حاتم)، وهو ما يحول الرواية بشكل جوهري، إلى رواية بطل مركزي، سيلاحق الراوي، وهو ذات المؤلف الثانية سيرة هذا البطل والأسرار التي أحاطت بحياته ومقتله. إذ يعلن الراوي المركزي إنه سينهض بمهمة لملمة شتات هذه الحكاية، اعتماداً على شهادته الشخصية ومرويات بطل الرواية (حاتم)، فضلاً عن الاستناد إلى «سند الآخرين من الثقاة»: «بعد سنين طوال، تومض تلك اللحظة من بعيد، فلا يكون لنوفل شأن في الحكاية المبعثرة التي أحاول أن ألم شتاتها الآن، ولن يسعني أن ألم شتاتها دون سند الآخرين من ثقاتي» (ص6).
ونكتشف أن هذا الراوي يعتمد على مصدرين لدعم روايته: الأول كتابي من خلال المدونة التي تركها لها (أبو الهدى) الذي يوكل لبطل الرواية (حاتم) أفعالاً متعددة، ويؤكد أنه كان يقود مجاميع الشبان في «الهيجان» الكبير لمواجهة القوى الظلامية، أما المصدر الثاني فهو شفاهي، ويعتمد على مرويات «نشمية أم الخبز» التي كانت تساند الشباب المنتفضين، وتمدهم بالخبز الحار الذي كانت تخبزه في ساحة الاعتصام.
وطريقة الإسناد السردي تضع الرواية في إطار رواية الميتاسرد، حيث الاعتماد على المخطوطة المدونة التي دونها «أبو الهدى» ومرويات «نشمية أم الخبز» الشفاهية، فضلاً عن قصدية الكتابة الروائية التي يؤكدها الراوي المركزي من حين لآخر. كما أن الاعتماد على أكثر من مصدر للحكي يضفي على الرواية مسحة بوليفونية تعددية، ويُفسر عنوان الرواية «خلو»، بوصفه عتبة نصية دالة حسب جيرار جنيت، سر انكفاء حركة الانتفاضة الشعبية إلى انتماء الناس إلى موقف «الخلو» الذي يعني انسحاب الناس من مواجهة ظالميهم، والانكفاء على ذواتهم، مما يتيح الفرصة لقوى الظلام بالاستقواء والاستفحال. ونكتشف أن أبو الهدى، أحد الرواة الثقة، هو الذي استخدم مصطلح «الخلو» ليشير به إلى هذه الحالة: «ذلك الفراغ اللامتناهي، المندلق في جميع الاتجاهات، الذي اختفت به المدن... الفراغ الذي سماه أبو الهدى بالخلو، ذلك الخلو يخبرنا عنه حاتم... مدينتنا خالية خالية، من الجسر إلى الجسر... أين ذهب الناس؟ حاتم لا يدري» (61).
لكن الرواية لا تستسلم لما هو قائم، بل ربما تفعل على ضوء مقولة لوسيان غولدمان، بعدم الاكتفاء بتوصيف «الوعي القائم» الذي قد يكون ساكناً بل بالبحث عن «الوعي الممكن»، بما فيه الوعي الثوري لمواجهة الاستبداد والظلم. ولذا تنحاز الرواية إلى نضال شبان الانتفاضة، وتؤكد قدرتهم على المواجهة والانتصار، وهو موقف يحسب لصالح الرواية وتوجهاتها الفكرية.
رواية «خلو» هذه تعتمد إلى حد كبير على الاستراتيجية السردية التي اعتمدها المؤلف في روايته السابقة «عن لا شيء يحكي»: ثمة بطل مركزي هو الذي يقدم السرد مثلما وجدنا في روايته السابقة وراويها الأعمى، وهو في الغالب سارد لا يمكن الاعتماد عليه أو يكون البطل جندياً يتخيل أشياء غير واقعية، ربما هذيانية، كما يعترف بطل الرواية ذاته حاتم الديو في أكثر من موقع (ص 294)، مما يجعل سرده تحت باب السرد الغرائبي، خصوصاً عندما يتحول البطل (حاتم الديو) إلى أسطورة تتحدى الموت، وتبث الأمل والشجاعة والإرادة الثورية بين صفوف شبان الهيجان الشعبي. فرغم الإعلان عن مقتل العم حاتم، الذي نقله «نوفل» ابن الرابعة وشقيق الراوي المركزي إلا أننا نجده يعود إلى الحياة، ربما لأن أحداً لم يشهد جنازته.
وتتكشف شخصية حاتم الديو الأسطورية في أكثر من مظهر، فهو يمتلك القدرة على قراءة المستقبل (البعيد) والنظر إلى مواقع ومواضع بعيدة عنه، ومنها قدرته على التخاطر التلباتي مع صديقه الجندي/ العدو، كما يسميه، الذي تعرف عليه «هناك في الأعلى التقيا... وفي نقطة يقدرها هو فوق الأرض الحرام التقيا، ولا نملك سبباً لتكذيبه» (ص 9)، واتفقا من خلال التخاطر عن بعد على الهرب من ساحة المعركة، احتجاجاً على الحرب، وتطلعاً لإقامة السلام والمودة بين الناس. وقد عبر عن ذلك صديقه الجندي المعادي بلغة عامية «جيش أنا، وجيش أنت مرة اثنين هرب» (ص 13)، ويقوده صديقه الجندي المعادي إلى قمة جبل عالية شبيهة بالجنة الأرضية بخضرتها وموسيقاها وجمال نسائها: «أكو جنة أحلى من هذي الجنة؟» (ص 18). ويؤكد حاتم الديو، وهو يروي حكايته، أنه كان يقف مع صديقه في «بطون السديم الرخو» بين النجوم (ص 18)، حيث يخلق الروائي عالماً يوتوبياً بديلاً عن عالم الدستوبيا الأسود الذي تمثله ساحة الحرب والعراك. لقد عمد الروائي لخلق مجموعة من البؤر المكانية، الأليفة والمعادية بتعبير باشلار، التي هيمنت على الفضاء الروائي منها ساحة المعركة والعراك، وبشكل خاص في خط المواجهة بين الجيشين، حيث يجند حاتم الديو بصفة مدفعي، وصديقه الجندي في الجبهة المعادية، الذي يعمل مدفعياً أيضاً، حيث يتحركان أحياناً وكأنهما نسخة واحدة من خلال عملية التماهي والتخاطر بين الشخصيتين. أما البؤرة الثانية التي أصبحت لاحقاً هي البؤرة المكانية المهيمنة فهي ساحة الانتفاضة والهيجان، والتي هي صورة لانتفاضة تشرين، وتتكشف في هذه البنية المكانية الخصال الثورية للشبان العراقيين الذين وقفوا ضد العنف والقتل والاختطاف والاستقواء بالخارج، كما تومئ إلى أن انتصار هيجان الشبان مرهون بنجاحهم في زج الناس في هذه المعركة العادلة، وإقناعهم بالخروج من دائرة الانتماء إلى «الخلو»، ودفعهم للانتماء إلى التغيير والرفض.
ومن البؤر المكانية، تلك البقعة الخيالية الافتراضية التي خلقها الروائي «بين السديم المترجرج»، حيث الجبال الشاهقة التي تعانق السحب، وحيث الجمال والنساء «نسوان هلوين»، وحيث تدار لهما جرار صغيرة من الشراب تستخرج من باطن الأشجار. ويتحول هذا المكان إلى بديل كرنفالي متألق في مواجهة واقع الحرب الأسود والمليء بالمآسي والدماء: «الجنة هنا بهذي المدينة، هنا، وليس فوق فوق» (17).
وتظل المحلة التي يقطنها بطل الرواية حاتم الديو مع زوجته (شمم) وأبنائه الثلاثة، كما يقطنها الراوي المركزي بمثابة المكان الأليف، مكان الطفولة الواقعي، الذي تنطلق منها لاحقاً كل الأحداث الواقعية والمتخيلة على السواء. وعمد المؤلف في هذه الرواية إلى خلق فسيفساء سردية، وظف فيها العديد من التقنيات والأساليب الواقعية والغرائبية والفنطازية والتغريبية (بمفهوم بريخت)، فضلاً عن توظيف الواقعية السحرية ورواية الخيال العلمي والنزعة الاحتفالية والكرنفالية بمفهوم ميخائيل باختين، فضلاً عن النزعة الميتاسردية، كما نجد لوناً من الأسلبة اللغوية بالمنظور الباختيني، حيث تتداخل الأصوات الغيرية في الخطاب عبر مظاهر التهجين التي يجري فيها تحوير اللغة وتكييفها لمتطلبات المقام والموقف. إذْ يلجأ الروائي إلى إعادة أسلبة وتهجين لغة البطل حاتم الديو، ونشمية أم الخبز بطريقة مغايرة للأصل. فقد اعتادت نشمية أم الخبز التي كانت تخبز الخبز الحار للشبان المنتفضين في ساحة الاعتصام، أن تقدم شهادتها شفوياً، فيقوم الروائي بأسلبة لغتها وتهجينها: «نشمية لا تجيد الكتابة والقراءة بطلاقة. تقرأ وتكتب ولكن ليس بدرجة تجعلني أستكتبها، كما استكتبت أبو الهدى، لذا تعتذر عن عجزها في التعبير فتقول: يمة يا المعلم آني أعرف شويه نحوي... يصير أحكي بالنحوي... وأنا أكتم ابتسامة قلت لها: قصدك تتكلمين بالفصحى» (ص 84).
كما يمكن ملاحظة ظاهرة التهجين اللغوي والأسلوبي في الرواية من خلال «مزج لغتين اجتماعيتين داخل ملفوظ واحد، وهو أيضاً التقاء وعيين لسانيين مفصولين وبفارق اجتماعي، داخل ذلك الملفوظ، كما يرى ميخائيل باختين.
ولذا يتداخل أكثر من وعي لساني داخل ملفوظ واحد مما يعزز مظاهر التهجين والأسلبة في الرواية. إذْ يشير الراوي إلى أن حاتم الديو غير قادر على صياغة أدبية لأفكاره، ولذا يتدخل بصياغة مروياته «ولا نتوهم، فنتصور أن هذه تعابير حاتم الديو... لا... لا... هذه، وأذكرها ثانية وثالثة ورابعة، ما هي إلا فحوى كلامه فحسب» (ص 16).
يمكن القول إن رواية «خلو» هذه بمثابة موسوعة شاملة عن انتفاضة تشرين وبطولات شبانها وتجسيد حي لمجتمع الانتفاضة اليومي، ولأشكال المقاومة والنضال التي كان يبديها المنتفضون. لكن ما يصدم القارئ وهو ينتهي من قراءة الصفحة الأخيرة من الرواية أنها تبدو مقطوعة وناقصة، إذ يتوقف السرد في ذروة الصراع والاشتباك دونما حسم محدد، أو إشارة إلى مسار هذا الحسم. وهذا الأمر يجعل من الرواية عرضة لتأويلات وقراءات مختلفة بوصفها رواية مفتوحة. كما تظل بعض مواضع الغموض التي لم يتم جلاؤها مثل سر زيارة حاتم الديو إلى مدينته، ومعرفة من المسؤول عن قتل الفتاتين، وما هو السبب الحقيقي للحكم على حاتم وقتله لاحقاً. كما لم أقتنع بالموقف الذي طرحته الرواية من قضية المسفرين بالقوة من قبل السلطة الديكتاتورية آنذاك بحجة «التبعية» لدولة مجاورة، والخشية من تعاطفهم مع جيش العدو (ص 113).
رواية «خلو» عمل سردي بانارومي، يتشكل من فسيفساء سردية متنوعة، جعلت منها متحفاً مهماً للذاكرة الجمعية الشعبية، وللوطنية العراقية في مواجهة قوى التدخل الأجنبي، ودفاعاً عن قيم الحق والخير والجمال.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!