فشل الفلاسفة في تغيير العالم

مدرسة فرانكفورت نموذجاً

مارتن جي - إريك فروم
مارتن جي - إريك فروم
TT

فشل الفلاسفة في تغيير العالم

مارتن جي - إريك فروم
مارتن جي - إريك فروم

قبل مظاهرة العنصريين البيض في تشارلوتسفيل، فرجينيا، بفترة قصيرة عام 2017، مد دونالد ترمب الأصغر لأبيه مذكرة عنوانها «الرئيس الأميركي والحرب العلنية». ألقت المذكرة باللائمة على اليهود الألمان في مدرسة فرانكفورت لأنهم بدأوا حروب الثقافة التي دمرت القيم الأميركية. «الماركسية الثقافية»، كما كتب مؤلف المذكرة، مستشار الأمن القومي الأميركي رتش هغنز: «تتعلق بالبرامج والمناشط التي جاءت من ماركسية غرامشي، والاشتراكية الفابية، وبصفة مباشرة أكثر من غيرها من مدرسة فرانكفورت. استراتيجية فرانكفورت فككت المجتمعات عبر هجماتها على الثقافة بفرضها ديالكتيكاً يقحم تناقضات غير قابلة للحل تحت اسم النظرية النقدية».
أوحت مذكرة هغنز بأن مجموعات معارضة لدونالد ترمب، ومنها: حركة «احتلال»، و«حياة السود مهمة»، واتحاد الحريات الأميركية المدنية، ومجلس العلاقات الإسلامية الأميركية، والأكاديميون، والإعلام، والديمقراطيون، والعولميون، وأصحاب البنوك الدولية، وكوميديو التلفزيون آخر الليل، والجمهوريون المعتدلون، جميعاً دمى في يد مدرسة فرانكفورت: «الهجمات على الرئيس ترمب... تحركت في فضاء من الصراع استمد معلوماته وتشكل بفعل محركين ماركسيين».
إنها نظرية مؤامرة –ومعادية للسامية أيضاً– ما يوحي بأن هؤلاء اليهود الماركسيين الألمان الذين عاشوا في منفاهم في الولايات المتحدة خلال عهد الرايخ الثالث كانوا أعداء من الداخل، يفسدون الأرض التي حمتهم. المؤرخ الأميركي الكبير، مارتن جي Jay، يبتهج سخرية في كتاب المقالات الذي أصدره: «من الواضح أننا حطّمنا المرآة هنا ودخلنا في كون موازٍ تعطلت فيه القواعد المعتادة للشواهد وعُلِّقت المصداقية». في حقبة ما بعد الحقيقة التي نعيش، حتى الماركسيون الأموات يُعبّأون بالقوة السياسية بما يتجاوز أكثر أحلامهم غرابة.
تكمن المفارقة في أنه لم يكن لمدرسة فرانكفورت أثر يُذكر في العالم الفعلي. تأسس معهد الأبحاث الاجتماعية، مقر المدرسة، أوائل العشرينات من القرن الماضي ليفسر فشل الثورة في ألمانياً عام 1919. ما استنتجه المنظّرون الماركسيون هو أن التفسير الاقتصادي للتاريخ كان غير كافٍ؛ كانت هناك حاجة إلى تحليل ثقافي للاستبداد والعنصرية ودور الترفيه الجماهيري في إغراء الجماهير بأن تكون تحت الهيمنة.
بناءً على ذلك درست مدرسة فرانكفورت، في أوروبا وفي المنفى الأميركي، كل شيء من أعمدة التنجيم الصحافية إلى سينما هوليوود والموسيقى الشعبية، وغوغائيي الراديو الداعين إلى الاستهلاك. جرى إبعاد الجماهير عن التخلص من الرأسمالية عن طريق ما سماه قادة الفكر، تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، نظاماً كلياً من التعمية (verblendungzussamenhang).
نظرية المؤامرة حول فرانكفورت، التي استحوذت على اهتمام الكثير من الشخصيات اليمينية المتطرفة، ومنهم ترمب وجوردن بيترسون والراحل أندرو برايتبارت، مؤسس الخدمة الإخبارية التي تحمل اسمه، قلبت هذا التاريخ رأساً على عقب. لم يكن أمثال أدورنو وهوركهايمر وإريك فروم وهربرت ماركوزه مجرد مجموعة من الأساتذة الهزيلين الذين يُصدرون من أكاديميتهم نبؤات لا تكاد تُفهم، وإنما كانوا فريقاً صارماً من الهدّامين الذين قاموا في منفاهم الأميركي بتدمير ثقافي جاء شعار «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى» ليكون رداً متأخراً عليه. (لم يصل فالتر بنيامين إلى الولايات المتحدة –خوفه من أن يُسلَّم إلى ألمانيا النازية جعله ينتحر في إسبانيا عام 1940).
لكن الذين انخدعوا بكون مدرسة فرانكفورت انطوت على أساتذة الهدم لم يقتصروا على سذج اليمين فحسب. في عام 2010 كتب فيدل كاسترو أن الأكاديميين الماركسيين المنفيين عملوا مع عائلة روكفلر في خمسينات القرن العشرين لتطوير سيطرة على العقل بتوظيف موسيقى الروك لتكون مخدراً جديداً للجماهير –ومن هنا جاء غزو البيتلز للولايات المتحدة حسب كاسترو، البيتلز الذين، كما يدّعي، أسندت إليهم مدرسة فرانكفورت مهمة تحويل موسيقى «الميرسيبيت» إلى سلاح يدمر حركات التحرر.
يرى المؤرخ جي أن الفكرة مضحكة، مقترحاً بسخرية أنها تفسر قصائد جون لينون الهادئة في إحدى الأغاني الناجحة للمجموعة: «تقول إنك بحاجة إلى ثورة. تدري أنه يمكنك استثنائي... ألا تعلم أن الأمور ستكون جيدة؟». في أواخر الثلاثينات اشترك أدورنو في بحث موّلته مؤسسة روكفلر في جامعة برنستون حول محتوى الإذاعة وليس محتوى العقل، وتعرّف بكل تأكيد على البيتلز بوصفهم أدوات للصناعة الثقافية استطاعت الرأسمالية المتأخرة من خلالها أن تحبط الثورة. لكن أدورنو لم يكن العميل السرِّي خلف مساعٍ للسيطرة على العالم.
الحقيقة هي أن مدرسة فرانكفورت فشلت في إدراك مبدأ ماركس: «الفلاسفة فسروا العالم بطرق مختلفة؛ والمهم هو تغييره». يورغن هابرماس، الذي قاد الجيل الثاني من المدرسة، وصف تراجع أسلافه عن العمل السياسي بأنه «استراتيجية بيات شتوي». لم يكن الوقت مناسباً للنزول إلى الشارع، كما قال أدورنو لطلابه في أواخر الستينات. أما طلابه فرأوا أستاذهم أداة للقمع. وكانوا على صواب. حين احتل الطلاب معهد البحوث الاجتماعية عام 1969 اتصل أدورنو بالبوليس لإخراجهم. إحدى محاضراته توقفت حين كتب طالب على اللوح الأسود: «لو أن أدورنو تُرك لوحده، فلن تنتهي الرأسمالية».
في نفس العام أخبر جي زميلاً له في الدراسات العليا في جامعة كولومبيا بأنه كان يكتب رسالته حول مدرسة فرانكفورت. النتيجة كانت الكتاب التاريخي المهم حول السنوات الأولى لتلك النظرية «المخيلة الديالكتيكية» (1973). صديقه، الذي كان عضواً في المنظمة اليسارية المقاومة «وذر أندرغراوند»، رفض الفكرة. ألم يدرك جي أن أولئك المهرجين الفرانكفورتيين كانوا مخترَقين وأن أدورنو تحديداً كان موضع احتقار لأنه في أثناء منفاه الأميركي غيَّر اسمه ليبتعد عن الاسم الذي يوحي باليهودية (فايزنغروند).
لم يقتنع جي. ومع ذلك اكتشف بعد ثلاثين عاماً أمراً مزعجاً. في إضمامة من رسائل أدورنو وجد جي ما يشير إلى أنه تلقى طعنة في شخصيته. اتهم أدورنو جي بأنه شخص باحث عن الإثارة وجمع المال وحذر الجميع من التحدث إليه. نشر جي مقالة بعنوان «الأموات الذين لا يشكرون» حول شعوره بعد أن أمضى حياته العملية يدعم سمعة شخص يطعنه من الخلف ومن وراء القبر.
في عام 2021 إذاً، سنحسن صنعاً إن نحن تجاهلنا مدرسة فرانكفورت. كتاب جي الجديد يقترح العكس. في مقالات رائعة حول موضوعات تتراوح بين جمع بنيامين للطوابع إلى اهتمام المدرسة بفكر التحليل النفسي الصاعد، يُرينا جي أن أعمال المدرسة ليست مجرد طرائف تاريخية، وإنما هي مما لا غنى عنه لفهم عصرنا. تحليلاتهم للشمولية، مثلاً، لا سيما التوازي الذي رسموه بين صناعة الثقافة الأميركية في منتصف القرن واستعمال غوبلز الشمولي للبروباغاندا لفرض الانسجام والصمت، تلك التحليلات لا تزال فوق أهميتها تنبؤية أيضاً كما يراها البعض: «أدركت مدرسة فرانكفورت أن ترمب قادم»، حسبما جاء في عنوان مثير في مجلة «نيويوركر» عام 2016.
نظراتهم العميقة للنزعة الاستهلاكية والتضحية البشرية على معبد التسوق هي الآن في قلب الحدث. كتب أدورنو وهركهايمر في «جدل التنوير» (1944): «يتمثل انتصار الإعلان في صناعة الثقافة في أن المستهلكين يشعرون بأنهم مرغمون على الشراء واستعمال منتجاتها على الرغم من إدراكهم لحقيقتها». منذ كتبا تلك الكلمات صارت النزعة الاستهلاكية، الكارهة لذاتها، أكثر وضوحاً. كلنا نعلم أن استعمال «أمازون برايم» يجعلنا شركاء في استغلال العمال، لكنّ ذلك لا يثنينا عن الاستمرار. نمتلك مهارات عالية في رفض الاستهلاكية. كما أن تحليلهم لمعاداة السامية ما زال محتفظاً بقوته النقدية أيضاً. يكتب أدورنو وهوركهايمر: «وهكذا يصرخ الناس: امسكوا اللص! –لكنهم يشيرون إلى اليهود. إنهم الضحايا ليس فقط للمناورات والخدع الفردية، وإنما، بصفة عامة، بقدر ما يُعزى ظلم الطبقة كلها إليهم».
لكن ثمة ما نحتاج إلى تعلمه من مدرسة فرانكفورت، مع أنه أمر علّموه على نحو سلبي: مخاطر استراتيجية البيات الشتوي. يقول جي عن بطله أدورنو إنه في أعماقه «أصر على الحفاظ على أمل طوباوي، مقاوم لفشل كل المحاولات التي بُذلت لتحقيقه، أن من الممكن إنهاء هيمنة الذات المؤسِّسة». غير أن الأمل بلا فعل أدى إلى هالة ثقة البرج العاجي المفرطة التي لطالما خيّمت على مدرسة فرانكفورت. قال أدورنو في إحدى المقابلات خلال اشتداد الثورات الطلابية: «لقد أسست نظام فكرٍ نظرياً. هل كان من الممكن لي أن أتوقع أن يرغب الناس في تطبيقه بقنابل المولوتوف؟» كان أدورنو محقاً دون شك في إشارته إلى أوجه القصور في التمرد الطلابي، لكنه كان محبِطاً في تراجعه المدروس إلى النظرية بعيداً عن وطيس المعركة.
الذي كشف مدرسة فرانكفورت أكثر من غيره كان برتولد بريخت. بالنسبة إليه ابتدأت المجموعة كثوريين سعوا إلى اقتلاع الرأسمالية لكنهم تحولوا إلى مثقفين منعزلين. بعد أن حُكم عليهم أن يعيشوا في عالم مهووس بالتطلع إلى ما سماه هيغل «الروح الجميلة»، أمضوا حياتهم ينضدون إدانات غاضبة للمجتمع يوجهونها لقراء يشبهونهم في التفكير بدلاً من السعي إلى تغيير ذلك المجتمع. لقد أحدثوا تغييراً ضئيلاً في العالم بدلاً من أن يغيّروه أكثر مما ينبغي، حسبما قال موظفو مجلس الأمن الوطني لترمب.

* مجلة «نيوستيتزمان»
NewStatesman UK
18 أغسطس 2021

مارتن جي



«جائزة بيت الغشّام دار عرب الدولية للترجمة» تعلن عن قوائمها القصيرة

شعار الجائزة
شعار الجائزة
TT

«جائزة بيت الغشّام دار عرب الدولية للترجمة» تعلن عن قوائمها القصيرة

شعار الجائزة
شعار الجائزة

أعلنت «جائزة بيت الغشّام دار عرب الدولية للترجمة»، عن القوائم القصيرة لدورتها لعام 2026، وذلك في فروع الجائزة الثلاثة: فرع المترجمين، وفرع المؤلفين، وفرع الإصدارات العُمانية، بعد استكمال أعمال التحكيم والمراجعة النهائية للترشيحات المستوفية لشروط الجائزة ومعاييرها المهنية والأخلاقية، كما جاء بيان لجنة الجائزة. وضمّت القائمة القصيرة - فرع المترجمين (مرتبة أبجدياً حسب العنوان الإنجليزي): «ملائكة الجنوب» رواية نجم والي، ترجمة Angels of the South، ترجمة: بيتر ثيرو، و«ماكيت القاهرة» رواية طارق إمام، Cairo Marquette، ترجمة كاثرين فان دي فات، و«البشر والسحالي»، مجموعة قصصية، حسن عبد الموجود، People and Lizards، ترجمة أسامة حماد وماريان دينين، و«الأشياء ليست في أماكنها» رواية هدى حمد، Things Are Not in Their Place، ترجمة ضياء أحمد، قرية المائة، رواية رحاب لؤي، ترجمة Village of the Hundred، ترجمة إيناس التركي.

وضمّت القائمة القصيرة - فرع المؤلفين (مرتبة أبجدياً حسب العنوان العربي): أبعاد غير مرئية، مجموعة قصصية، مصطفى ملاح، والماتادور، رواية مجدي دعيبس، وجبال الجدري، رواية عبد الهادي شعّلان، وجرس جرش، رواية وائل رداد، وكائن غير سوي، رواية طاهر النور. وجاءت القائمة القصيرة - فرع الإصدارات العُمانية، كما يلي: تحت ظل الظلال، رواية محمد قرط الجزمي، عروس الغرقة، رواية أمل عبد الله، وقوانين الفقد، مجموعة قصصية، مازن حبيب.

وجرى اختيار القوائم القصيرة من قبل لجان تحكيم مستقلة، بإشراف مجلس أمناء الجائزة، الذي ضم كلاً من مارلين بوث (رئيسة)، ومحمد اليحيائي، وسواد حسين. وتكوّنت لجنة تحكيم - فرع المترجمين، من سماهر الضامن، ومارشيا لينكس كوالي، ولوك ليفجرن، فيما ضمّت لجنة تحكيم - فرعا المؤلفين والإصدارات العُمانية، كلاً من أمير تاج السر، وبشرى خلفان، وياس السعيدي.

وشهدت هذه الدورة 346 مشاركة في فرع المؤلفين، و34 مشاركة في فرع المترجمين، و10 مشاركات في فرع الإصدارات العُمانية.

وكانت هذه الجائزة قد انطلقت قبل 3 أعوام، بشراكة بين مؤسسة بيت الغشّام للصحافة والنشر والإعلان ودار عرب للنشر والترجمة، حيث تتولى دار عرب إدارة الجائزة، فيما تتولى مؤسسة بيت الغشّام تمويلها، في إطار تعاون يهدف إلى دعم الأدب العربي وتعزيز حضوره عالمياً عبر الترجمة والنشر الدولي.

وتبلغ القيمة الإجمالية لصندوق الجائزة نحو 70,000 جنيه إسترليني، تُخصَّص جزئياً كمكافآت مالية للفائزين، وجزئياً لتغطية تكاليف الترجمة الاحترافية، والتحرير، والنشر والترويج الدولي للأعمال الفائزة.


هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.