حب ما بعد الثمانين

ياسين طه حافظ يتغنى بحياة نرثيها كل يوم

غلاف الديوان
غلاف الديوان
TT

حب ما بعد الثمانين

غلاف الديوان
غلاف الديوان

اعتدنا أن تكون الشعرية العراقية شعرية بكاءٍ ونواح شديدين، وشعرية ناقدة، ولائمة، وراثية لكل صور الحياة وتفاصيل المدينية، هذا في الجانب الحديث من الشعر العراقي - في الأعم الأغلب منه - أما في جانبه الكلاسيكي فهناك شعريات ثابتة، تأتي في مقدمتها شعرية الفخر، أو الاعتداد بالذات والنفخ كثيراً بها، وهي شعرية متوارثة في معظمها، فضلاً عن النقد السياسي الواضح والمباشر، الذي جسده الزهاوي والرصافي، ومن ثم الجواهري ومحمد صالح بحر العلوم وآخرون.
إن هذه الرؤية هي خطوط عامة للشعرية العراقية، وليست بالتأكيد خريطة تضم كل الشعرية العراقية، لأن هناك شعريات مختلفة، وتجارب ذاتية تظهر في كل جيل، وفي مدن مختلفة، ولكني لجأت إلى الظواهر العامة للشعرية العراقية، لأني واجهت مؤخراً شعرية مختلفة عن معظم الشعريات التي مررتُ بها، وهي شعرية تتغنى بالحياة، وتدعونا لتمجيد هذه الحياة التي نعيشها لمرة واحدة، وممن؟ من شاعر تجاوز الثمانين في عمره وهو الشاعر ياسين طه حافظ في ديوانه «الحياة والحب فيها» (المدى 2021).
ليس غريباً على الشعراء العراقيين أو غيرهم في كل مكان أن يكتبوا قصائد تمجد الحب، وتتغنى بالنساء أو بالحياة، وهو أمر طبيعي في سياق عمر الشعراء، وبالأخص في بداياتهم الشعرية، حيث تكون المرأة حاضرة بشكل قوي، أما بعد أن يتجاوز الشعراء الستين فتجد معظمهم يتحدث عن الموت، وعن نظرة سوداوية للحياة، بل إنهم حين يصلون الأربعين فإنهم يتجهون لمرحلة رثاء الشباب، وهناك العشرات من الشعراء وقفوا عند الأربعين راثين ونادبين، وما نجده لدى بعض الشعراء من لفتات حب، هي عبارة عن إشارات مفردة لا تشكل ظاهرة لدى الشاعر، أو الجيل بشكل عام، كما نلاحظ نصوص الجواهري في براغ، حيث كان عمره في نهاية الستينيات، ومع هذا نجده يتغزل ببائعة السمك في الجيك، ونجد أبياتاً له متناثرة في بعض قصائده، فيها رائحة امرأة، هي جزء من الذكرى لا أكثر ولا أقل، وهو نفسه الذي يتبرأ من حلم المشيب، ويعبد نزق الشباب، حين يقول:

- نزق الشباب عبدته وبرأت من حلم المشيب
أتذكر كذلك الديوان الشعري الذي أصدره عبد الرزاق عبد الواحد، «انسكلوبيديا الحب» وقد كتب نصوصه وطبعها بعد أن عبر الستين من عمره، ولكن معظم تلك النصوص كانت تحاكي المرأة بحسية عالية، دون الغوص في فلسفة تلك المرأة أو الحياة بشكل عام، وربما نستثني عبد الوهاب البياتي في «بستان عائشة» أو «أغنيات على بوابات العالم السبع» لكنها نصوص لا تمجد الحياة كما فعل ياسين طه حافظ، فقد كانت نصوص البياتي عبارة عن تجربة شاعر مر بتحولات حتى وصل مرحلة أن يصدر الحكمة من خلال نصوصه.
ما يفعله ياسين طه حافظ في الحياة والحب فيها، هو شيء مختلف، إنه يتغنى بهذه الحياة التي يشتمها الجميع، الحياة البائسة والمتعبة والمنهكة، لكن الشاعر يراها بوجه آخر، فيضيف لها روحاً أخرى، وكأنه يحقنها بالأمصال التي تديم حركتها وبهجتها (عذراً أيتها الحياة إذا أبطأنا/ فقد خسرنا الكثيرين من رفاقنا في الطريق إليك/ وإذا رأيتني مجنوناً في الكتابة عن حبيبتي/ فلأني أجد عبرها طريقي إليك). إذن هناك فلسفة في الكتابة عن الحبيبة، فالحبيبة وجه من وجوه هذه الحياة، والكتابة عنها هو تمجيد لأكثر أوجه الحياة إشراقاً، قادماً من خلال الحديث عن الحبيبة أو المرأة، بهذه الرؤية التي يتبناها حافظ تنتشر في ديوانه الجديد كل هذه الروح، وكأنها عدوى تصيب كل القصائد، حيث جعل من الحبيبة معادلاً موضوعياً للحياة، وسبباً للتغني بهذه الحياة المتعبة:

- الحياة متعبة في بلادنا، نفرح إذا رأينا فسحة جميلة طريقاً محتفظاً بربيعه
لهذا الديوان رؤية واضحة جداً، وهي تمجيد الحياة التي نفرط بها، يحاول الشاعر ياسين طه حافظ، أن يدلنا على مجامر هذه الحياة الأكثر إشعاعاً وعطراً، وعلى مناطق تستحق أن تُعاش بكامل ما نملكه من حب وطاقة. وجاء هذا الديوان بعد تجارب عديدة كتبت عن هذه الحياة، والتبرم منها ليدلنا الشاعر ابن الثمانين عاماً ويعطينا درساً في حب هذه الحياة، الحياة التي نرثيها كل يوم في قصائدنا، حتى وإن كان هناك حب يتخللها، لكننا ننظر لها بسوداوية عالية، ليجيء ياسين طه حافظ صافعاً هذه الحياة برشقة حب، وهو ما ذكره في الأسطر الأولى من الديوان، الذي يشبه بياناً شعرياً يكتب بأسطر معدودة، تتضح من خلالها رؤية حافظ لهذه الحياة، ودور الشاعر فيها حيث يقول: «أشعر بأنها مهمتي أعني إعادة الأمل وإحداث تحول أخلاقي باتجاه الحياة والإنسان، قد أبدو من عصر مضى ولكن الحياة للعالم البشري كله ولكل العصور... سأظل واحداً من عديدين آخرين في العالم يقظاً ومحتفياً بالمبادئ النقية الأولى، حين يتهدد العالم خطر، نحتاج إلى صيحة تكسر الصمت!». إذن في الصفحة الأولى من الديوان، اتضحت معالم الشاعر وخطاطته فيها، حيث تبدو بأن له رسالة واضحة، وهذا الأمر على أهميته لكنه قد يوقع الشاعر في مسألة التخطيط للأعمال الإبداعية، وهذا ربما دعا ياسين طه حافظ لأنْ يخرج بديوان فيه الكثير من العقل، والكثير من التخطيط لعمل كهذا، لأن فيه رسالة يريد أن يوصلها الشاعر بوصفه شخصاً رسالياً يحمل رؤيا، وهي جزء من اعتداد المثقفين والمنتجين أبناء الجيل الستيني، الجيل الرؤيوي الذي يعتقد أن له رسالة ويجب أن يوصلها.
كذلك يتضح من هذا الديوان، ارتباط الشاعر بخيط خفي مرة، وواضح مرات عديدة مع ديوانه المهم «ديوان فاطمة» الذي يترجم تجربة حافظ في الحب، وفي الحديث مع المرأة بوصفها تجلياً روحياً هائلاً يعيشه الشاعر، حتى وإن كان في الثمانين من عمره، وهو ما يثير لدينا أكثر من سؤال حول تجربة ياسين طه حافظ التي كلما توغلنا فيها نجد زاوية النظر تتغير، حتى نصل إلى تقاطع هائل بين أول ديوان وآخر ديوان، حيث كان ديوانه الأول «الوحش والذاكرة» 1969 حينما كان عمره ثلاثين عاماً، فيما ديوانه الأخير كان بعنوان «الحياة والحب فيها» 2021 وهو ابن الثانية والثمانين، تحول مهم وكبير في الرؤية لهذه الحياة، تبدأ بأسماء وعنوانات الدواوين، حتى نصل إلى النصوص وتحولاتها، شكلاً ومضموناً، فنجد في شبابه الدواوين التالية (الوحش والذاكرة/ قصائد الأعراف/ البرج/ النشيد/ الحرب/...) ثم تغيرت تلك العنوانات، أو أن الشاعر بدأت تجربته بالتحول، تجربة جديدة له، تبدأ من (جنة الزاغ/ قصائد حب على جدار آشوري/ ولكنها هي هذي حياتي/ ديوان فاطمة/ سمفونية المطر...) ويحق لنا أن نتوقف عند هذه الظاهرة في تجربة مهمة من تجارب الشعر العراقي الحديث، وهي تجربة ياسين طه حافظ التي كلما سافرنا معها ازددنا تشبثاً بالحياة وحباً بها، ياسين طه حافظ الشاعر المشغول بمشغله الشعري والترجمي والإبداعي، بعيداً عن صراخ البيانات الشعرية وصراعات الديكة غير المجدي في الثقافة العراقية، ولكنه رغم انشغاله بمشروعه وعكوفه بشكل كامل ومخلص لتجربته الإبداعية، فإنه يبث من خلال كتاباته، سواء المقالية في الصحافة، أو الإبداعية يبث روحاً تنم عن شعور عال بمسؤولية المثقف وكرامته في معمعة هذا الصراع الدائر حولنا.
هناك حديث طويل عن تجربة ياسين طه حافظ وعن ديوانه الأخير الذي قلت إنه خطط له بحيث خرجت كل نصوصه على شكل قصائد نثر فيما عرف عن الشاعر بأنه أحد أجمل شعراء التفعيلة الذين نادراً ما يكتبون نصوصهم بالنثر، ولكن يبدو لهذه المجموعة خصوصية أخرى قد نقف عنها في مواقف أخرى (هذه فرصتنا الموفقة، حظنا الأجمل، مناسبة فرحنا/ نحن، أعني الإنسانية بصيغة إنسان، أنت/ وأنا الذي يكتب شعراً عنك/ ويدافع بضراوة عن الشرف المحتمي بك من رداءات العالم/ سنظل معاً بيننا فرحٌ لا يقاوم، سحر خاص/ وأنا أيتها الجميلة الباهرة، النادرة حد لم أر مثلك/ أفكر فيك وأدعوك لمغامرة قد تفقدينني فيها/ وقد تحزنين لأننا لم ننتصر).



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!