حب ما بعد الثمانين

ياسين طه حافظ يتغنى بحياة نرثيها كل يوم

غلاف الديوان
غلاف الديوان
TT

حب ما بعد الثمانين

غلاف الديوان
غلاف الديوان

اعتدنا أن تكون الشعرية العراقية شعرية بكاءٍ ونواح شديدين، وشعرية ناقدة، ولائمة، وراثية لكل صور الحياة وتفاصيل المدينية، هذا في الجانب الحديث من الشعر العراقي - في الأعم الأغلب منه - أما في جانبه الكلاسيكي فهناك شعريات ثابتة، تأتي في مقدمتها شعرية الفخر، أو الاعتداد بالذات والنفخ كثيراً بها، وهي شعرية متوارثة في معظمها، فضلاً عن النقد السياسي الواضح والمباشر، الذي جسده الزهاوي والرصافي، ومن ثم الجواهري ومحمد صالح بحر العلوم وآخرون.
إن هذه الرؤية هي خطوط عامة للشعرية العراقية، وليست بالتأكيد خريطة تضم كل الشعرية العراقية، لأن هناك شعريات مختلفة، وتجارب ذاتية تظهر في كل جيل، وفي مدن مختلفة، ولكني لجأت إلى الظواهر العامة للشعرية العراقية، لأني واجهت مؤخراً شعرية مختلفة عن معظم الشعريات التي مررتُ بها، وهي شعرية تتغنى بالحياة، وتدعونا لتمجيد هذه الحياة التي نعيشها لمرة واحدة، وممن؟ من شاعر تجاوز الثمانين في عمره وهو الشاعر ياسين طه حافظ في ديوانه «الحياة والحب فيها» (المدى 2021).
ليس غريباً على الشعراء العراقيين أو غيرهم في كل مكان أن يكتبوا قصائد تمجد الحب، وتتغنى بالنساء أو بالحياة، وهو أمر طبيعي في سياق عمر الشعراء، وبالأخص في بداياتهم الشعرية، حيث تكون المرأة حاضرة بشكل قوي، أما بعد أن يتجاوز الشعراء الستين فتجد معظمهم يتحدث عن الموت، وعن نظرة سوداوية للحياة، بل إنهم حين يصلون الأربعين فإنهم يتجهون لمرحلة رثاء الشباب، وهناك العشرات من الشعراء وقفوا عند الأربعين راثين ونادبين، وما نجده لدى بعض الشعراء من لفتات حب، هي عبارة عن إشارات مفردة لا تشكل ظاهرة لدى الشاعر، أو الجيل بشكل عام، كما نلاحظ نصوص الجواهري في براغ، حيث كان عمره في نهاية الستينيات، ومع هذا نجده يتغزل ببائعة السمك في الجيك، ونجد أبياتاً له متناثرة في بعض قصائده، فيها رائحة امرأة، هي جزء من الذكرى لا أكثر ولا أقل، وهو نفسه الذي يتبرأ من حلم المشيب، ويعبد نزق الشباب، حين يقول:

- نزق الشباب عبدته وبرأت من حلم المشيب
أتذكر كذلك الديوان الشعري الذي أصدره عبد الرزاق عبد الواحد، «انسكلوبيديا الحب» وقد كتب نصوصه وطبعها بعد أن عبر الستين من عمره، ولكن معظم تلك النصوص كانت تحاكي المرأة بحسية عالية، دون الغوص في فلسفة تلك المرأة أو الحياة بشكل عام، وربما نستثني عبد الوهاب البياتي في «بستان عائشة» أو «أغنيات على بوابات العالم السبع» لكنها نصوص لا تمجد الحياة كما فعل ياسين طه حافظ، فقد كانت نصوص البياتي عبارة عن تجربة شاعر مر بتحولات حتى وصل مرحلة أن يصدر الحكمة من خلال نصوصه.
ما يفعله ياسين طه حافظ في الحياة والحب فيها، هو شيء مختلف، إنه يتغنى بهذه الحياة التي يشتمها الجميع، الحياة البائسة والمتعبة والمنهكة، لكن الشاعر يراها بوجه آخر، فيضيف لها روحاً أخرى، وكأنه يحقنها بالأمصال التي تديم حركتها وبهجتها (عذراً أيتها الحياة إذا أبطأنا/ فقد خسرنا الكثيرين من رفاقنا في الطريق إليك/ وإذا رأيتني مجنوناً في الكتابة عن حبيبتي/ فلأني أجد عبرها طريقي إليك). إذن هناك فلسفة في الكتابة عن الحبيبة، فالحبيبة وجه من وجوه هذه الحياة، والكتابة عنها هو تمجيد لأكثر أوجه الحياة إشراقاً، قادماً من خلال الحديث عن الحبيبة أو المرأة، بهذه الرؤية التي يتبناها حافظ تنتشر في ديوانه الجديد كل هذه الروح، وكأنها عدوى تصيب كل القصائد، حيث جعل من الحبيبة معادلاً موضوعياً للحياة، وسبباً للتغني بهذه الحياة المتعبة:

- الحياة متعبة في بلادنا، نفرح إذا رأينا فسحة جميلة طريقاً محتفظاً بربيعه
لهذا الديوان رؤية واضحة جداً، وهي تمجيد الحياة التي نفرط بها، يحاول الشاعر ياسين طه حافظ، أن يدلنا على مجامر هذه الحياة الأكثر إشعاعاً وعطراً، وعلى مناطق تستحق أن تُعاش بكامل ما نملكه من حب وطاقة. وجاء هذا الديوان بعد تجارب عديدة كتبت عن هذه الحياة، والتبرم منها ليدلنا الشاعر ابن الثمانين عاماً ويعطينا درساً في حب هذه الحياة، الحياة التي نرثيها كل يوم في قصائدنا، حتى وإن كان هناك حب يتخللها، لكننا ننظر لها بسوداوية عالية، ليجيء ياسين طه حافظ صافعاً هذه الحياة برشقة حب، وهو ما ذكره في الأسطر الأولى من الديوان، الذي يشبه بياناً شعرياً يكتب بأسطر معدودة، تتضح من خلالها رؤية حافظ لهذه الحياة، ودور الشاعر فيها حيث يقول: «أشعر بأنها مهمتي أعني إعادة الأمل وإحداث تحول أخلاقي باتجاه الحياة والإنسان، قد أبدو من عصر مضى ولكن الحياة للعالم البشري كله ولكل العصور... سأظل واحداً من عديدين آخرين في العالم يقظاً ومحتفياً بالمبادئ النقية الأولى، حين يتهدد العالم خطر، نحتاج إلى صيحة تكسر الصمت!». إذن في الصفحة الأولى من الديوان، اتضحت معالم الشاعر وخطاطته فيها، حيث تبدو بأن له رسالة واضحة، وهذا الأمر على أهميته لكنه قد يوقع الشاعر في مسألة التخطيط للأعمال الإبداعية، وهذا ربما دعا ياسين طه حافظ لأنْ يخرج بديوان فيه الكثير من العقل، والكثير من التخطيط لعمل كهذا، لأن فيه رسالة يريد أن يوصلها الشاعر بوصفه شخصاً رسالياً يحمل رؤيا، وهي جزء من اعتداد المثقفين والمنتجين أبناء الجيل الستيني، الجيل الرؤيوي الذي يعتقد أن له رسالة ويجب أن يوصلها.
كذلك يتضح من هذا الديوان، ارتباط الشاعر بخيط خفي مرة، وواضح مرات عديدة مع ديوانه المهم «ديوان فاطمة» الذي يترجم تجربة حافظ في الحب، وفي الحديث مع المرأة بوصفها تجلياً روحياً هائلاً يعيشه الشاعر، حتى وإن كان في الثمانين من عمره، وهو ما يثير لدينا أكثر من سؤال حول تجربة ياسين طه حافظ التي كلما توغلنا فيها نجد زاوية النظر تتغير، حتى نصل إلى تقاطع هائل بين أول ديوان وآخر ديوان، حيث كان ديوانه الأول «الوحش والذاكرة» 1969 حينما كان عمره ثلاثين عاماً، فيما ديوانه الأخير كان بعنوان «الحياة والحب فيها» 2021 وهو ابن الثانية والثمانين، تحول مهم وكبير في الرؤية لهذه الحياة، تبدأ بأسماء وعنوانات الدواوين، حتى نصل إلى النصوص وتحولاتها، شكلاً ومضموناً، فنجد في شبابه الدواوين التالية (الوحش والذاكرة/ قصائد الأعراف/ البرج/ النشيد/ الحرب/...) ثم تغيرت تلك العنوانات، أو أن الشاعر بدأت تجربته بالتحول، تجربة جديدة له، تبدأ من (جنة الزاغ/ قصائد حب على جدار آشوري/ ولكنها هي هذي حياتي/ ديوان فاطمة/ سمفونية المطر...) ويحق لنا أن نتوقف عند هذه الظاهرة في تجربة مهمة من تجارب الشعر العراقي الحديث، وهي تجربة ياسين طه حافظ التي كلما سافرنا معها ازددنا تشبثاً بالحياة وحباً بها، ياسين طه حافظ الشاعر المشغول بمشغله الشعري والترجمي والإبداعي، بعيداً عن صراخ البيانات الشعرية وصراعات الديكة غير المجدي في الثقافة العراقية، ولكنه رغم انشغاله بمشروعه وعكوفه بشكل كامل ومخلص لتجربته الإبداعية، فإنه يبث من خلال كتاباته، سواء المقالية في الصحافة، أو الإبداعية يبث روحاً تنم عن شعور عال بمسؤولية المثقف وكرامته في معمعة هذا الصراع الدائر حولنا.
هناك حديث طويل عن تجربة ياسين طه حافظ وعن ديوانه الأخير الذي قلت إنه خطط له بحيث خرجت كل نصوصه على شكل قصائد نثر فيما عرف عن الشاعر بأنه أحد أجمل شعراء التفعيلة الذين نادراً ما يكتبون نصوصهم بالنثر، ولكن يبدو لهذه المجموعة خصوصية أخرى قد نقف عنها في مواقف أخرى (هذه فرصتنا الموفقة، حظنا الأجمل، مناسبة فرحنا/ نحن، أعني الإنسانية بصيغة إنسان، أنت/ وأنا الذي يكتب شعراً عنك/ ويدافع بضراوة عن الشرف المحتمي بك من رداءات العالم/ سنظل معاً بيننا فرحٌ لا يقاوم، سحر خاص/ وأنا أيتها الجميلة الباهرة، النادرة حد لم أر مثلك/ أفكر فيك وأدعوك لمغامرة قد تفقدينني فيها/ وقد تحزنين لأننا لم ننتصر).



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.