الجحافل في سُمو التغَافل: تغافلوا... تَصحُوا!

TT

الجحافل في سُمو التغَافل: تغافلوا... تَصحُوا!

مَا مِنْ حكيمٍ يوصي بنيه إلا وجعل أولَ كلامِه في كظم الغيظ، والتحكم في الغضب، ولو تأملت ملياً، وجدت لذلك حكمة وهي ألا يكون العاقل في مقام، رد الفعل، ويصبح صانعاً للفعل. ولتمتين هذه الفكرة، يأتي النصح بأن يتغافلَ الإنسان عن بعض الأشياء، ويتجاوزَ أخرى، واليوم أقف مع التغافل في وصايا الحكماء. لا شك أن الغفلة مذمومة، ولكن تكلفها محمود.
يكادُ المتقدمون والمتأخرون يجمعون على أن التَغَافُلَ، في معانيه المتفرقة، سلوكٌ تصعب دونَهُ المعيشة، وتتحول في غيره الحياة إلى ضنك. ذلك أن عدمه، يلجئ المرءَ إلى تتبع الصغائر، ومجاراة الأمور بلا نهاية، حتى أنه دون أن يدرك ليصلن بالأمور إلى أقصاها، وهو ما ينهي عنه أهلنا إلى اليوم في أمثالهم «لا تصل بالأمور لأقصاها»، وهذا يحتاج إلى تملك فن «التغافل».
ومن أعرض عن التغافُل، وقع في تتبع الأخطاء، وانغمس في وحل الصغائر، وغَرِق في بحرِ التوافه، فلا ارتاح، ولا أَراح، وسكب الملح على الجُرح، فلا تدقيقه أنجاه، ولا حرصه أعطاه.
لا غرو، أن يعتبر الجاحظ، محمد بن علي بن الحسين، جَمَعَ صلاح شأن الدنيا بحذافيرها في كلمتين؛ بقوله: «صلاح شأن جميع التعايش والتعاشر؛ مِلء مكيال: ثُلُثَاهُ فِطنَة، وثُلُثُهُ تغافلٌ»، يضيف الجاحظ: «فلم يجعَل لغير الفطنة نصيباً من الخير، ولا حظاً في الصلاح، لأن الإنسان لا يتغافل إلا عن شيء قد فطن له وعرفه». وينسبُ إلى معاوية وغيره، إن: «العقلَ مِكيَالٌ، ثُلُثُهُ الفِطْنَة، وثُلُثَاهُ التَغَافُل». لنا أن نتغافلَ عن أصله، ما دام معناه بينا واضحاً، فمن تمام هذا الفن، الترفع عن الصغائر، ما دام المقصود حصل.
التعريفات لتكلف الغفلة، تتزاحم من القديم، والعجيب أن كلها محمود، فقد أورد معجمُ اللغة العربية المعاصرة، أن: «تغافلَ/ تغافلَ عن... يتغافل، تغافُلاً، فهو مُتغافِل (اسم فاعل)، ومتغافَلٌ عنه (اسم المفعول). تغافل فلانٌ: تظاهر بالغفلة أو تعمدَها؛ أي بالسهو وقلة التيقظ، (هذا الرجل ليس مُغفلاً ولكنه يتغافل)».
يقول الشاعر:
تَغافَل في الأُمُورِ ولا تُنَاقِش
فيَقطَعُكَ القَرِيبُ وَذُوْ المَوَدهْ
مُنَاقَشَة الفتى تجني عَلَيهِ
وَتُبْدِلُهُ مِنَ الرَاحَاتِ شِدهْ
والعقلاء يحمدون للرجل العاقل تغافلَه، لأنه لم ينشغل عن المقصود بالآلة والتوافه من الأمور، قال ذلك ابن الوردي في لاميته المعروفة، ومنظومته التي جعلها خزاناً للوصايا والحكم، وحفزاً على «تكلف الغفلة»:
وتغافلْ عـن أمورٍ إنـه لـم يـفُزْ بالحمدِ إلا من غَفَلْ.
وقيل لأحمد بن حنبل، إن عثمان بن زائدة يقول: «العافية عشرة أجزاء؛ تسعة منها في التغافل»، فأيد، وزاد بقوله: «العافية عشرة أجزاء؛ كُلها في التغافل». ولذلك قال الحسن البصري: «ما زال التغافل من فعل الكرام». ولَهُ أيضاً: «ما استقصى كريم قط. قال الله تعالى: (عَرَفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ)». فالاستقصاء، ضِد التغافل، ومن الأخير الإعراض عن بعضٍ، كما في الآية.
ومن عجيب التغافل وكريمه، ما نقله أبو علي الدَقَاق (ت 406هـ): «جاءت امرأة فسألت حاتماً عن مسألة، فاتفق أنه خرج منها صوت في تلك الحالة فخجلت، فأوهمها أنه أصم، فَسُرَّت المرأة بذلك، وقالت: إنه لم يسمع الصوت. فلُقِبَ بحاتم الأصم»، (ت 237هـ). وهذا يذكرنا، مع الفارق، بما في «جمهرة الأمثال» للعسكري: «قَوْلهم: أَصم عَما سَاءَهُ سميع. يُضْرب مثلاً للرجل يتغافل عَما يكره. وَمن أَجود مَا قيل فِي هَذَا الْمَعْنى، قَول بشار:
قل مَا بدا لَك من زورٍ وَمن كذبِ
حلمي أَصم وأذني غيرُ صماء».
وفي مدح المتغافلين والثناء عليهم، أدب يملأ الأوراق، فحين سُئِلَ بزرجمهر: «من أعقل الناس؟ قال: من لم يجعل سمعه غرضاً لسماع الفحشاء، وكان الغالب عليه التغافل». أما جعفر بن محمد الصادق، فاعتبر التغافل من العظمة: «عَظمُوا أَقْدَارَكُم بالتغافل».
وأحسن أبو تمام وأجاد في تعريف التَغَافُل، والتفريق بينه وبين الغفلة، في بيته:
لَيسَ الغَبِي بِسَيدٍ في قَومِهِ
لَكِن سَيدَ قَومِهِ المُتَغابي
فالمتغابي كالمتغافل، يَعلَمُ بالشيء، ويبدو لغيره كمن لا يعلمه، والمُتَغَابِي يتظاهر بالغباء، لكنه ذكيٌ، يعرف ما يدور حوله، ويُعرِضُ عنه سمواً وتكرماً وترفعاً.
نقل الجاحظ: «قَالَت الْعَرَب: الشرف التغافل. قلتُ: وَأَنت لَا تَجِدُ أَحَدَاً يَتَغَافَلُ عَن مَاله إِذا خرج، وَعَن مبايعته إِذا غبن، وَعَن التقاضي إِذا بخس، إِلا وجدت فِي قَلْبك لَهُ فَضِيلَة وجلالة، لَا تقدر على دَفعهَا، وَفِي نَحوه قَالَ مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ: إِني لأجر ذيلي على الخداع».
ذكر كتاب «بدائع السلك في طبائع الملك»: «إِن من السخاء وَالْكَرم، ترك التجني، وَترك الْبَحْث عَن بَاطِن الغيوب، والإمساك عَن ذكر الْعُيُوب، كَمَا أَن من تَمام الْفَضَائِل؛ الصفح عَن التوبيخ، وإكرام الْكَرِيم، والبِشْرُ فِي اللقَاء، وَرَدُ التحِية، والتغافل عَن خطأ الْجَاهِل». وإضافة إلى كرم التغافل فقد رآه الأعمش من زاوية ثانية، فقال: «التغافلُ يُطفئ شراً كثيراً». ومن جميل قول أَكْثَمُ بن صَيْفِي: «مَنْ شَددَ نَفرَ، وَمَنْ تَرَاخى تَألف، والشْرَفُ في التغافُل».
يروى عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، قوله: «من امتطى زمام التغافل ملك زمام المروءة». قيل: أشرف الكرم تغافلك عما تعلم. ويُقال: التغافل من الكرام، يمنحهم الإجلال والإكرام.
وما أحسن قول أبي فراس:
تغابيتُ عن قومي فظنوا غباوتِي
بمفرق أغبانا حصى وتراب
وقد وصفت العرب سادتها، بالتغافل، دليلاً على السماحة والنبل، فمدح أحدهم:
كَرِيمٌ يَغُض الطرَفَ دُونَ خِبَائِهِ
وَيَدْنُو وَأَطْرَافُ الرمَاحِ دَوَانِي
وكما كل خصال الفضل، وسجايا المروءة، وأخلاق الكِرام، بدايات ممارسة السلوك مضنية متعبة، حتى يتطبع بحُسن الطبع، فتزداد عذوبة الأفعال، فتصبح العادة ممتعة سهلة، ولا ينبئك عما سبق كأبي الطيب، إذ قال:
وَمَا كُل هَاوٍ للجَميلِ بفاعِلٍ وَلا كُل فَعالٍ لَهُ بِمُتَمم



«الرد السريع»... الأوروبيون يبلغون الأمم المتحدة باستعدادهم لإعادة العقوبات على إيران

منشأة «نطنز» النووية التي تبعد 322 كيلومتراً جنوب طهران (أ.ب)
منشأة «نطنز» النووية التي تبعد 322 كيلومتراً جنوب طهران (أ.ب)
TT

«الرد السريع»... الأوروبيون يبلغون الأمم المتحدة باستعدادهم لإعادة العقوبات على إيران

منشأة «نطنز» النووية التي تبعد 322 كيلومتراً جنوب طهران (أ.ب)
منشأة «نطنز» النووية التي تبعد 322 كيلومتراً جنوب طهران (أ.ب)

أبلغت بريطانيا وفرنسا وألمانيا مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بأنها مستعدة، إذا تطلب الأمر، لتفعيل ما يُسمى بآلية «الرد السريع» وإعادة فرض جميع العقوبات الدولية على إيران لمنعها من امتلاك سلاح نووي.

وستفقد هذه الدول القدرة على اتخاذ مثل هذا الإجراء في 18 أكتوبر (تشرين الأول) من العام المقبل عندما ينتهي أجل العمل بقرار صدر عن الأمم المتحدة عام 2015. ويدعم القرار الاتفاق الذي توصلت إليه إيران مع بريطانيا وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وروسيا والصين وتم بموجبه رفع العقوبات عن طهران في مقابل فرض قيود على برنامجها النووي.

وقال مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، لـ«رويترز»، الأسبوع الماضي، إن إيران تسرع «بشكل كبير» تخصيب اليورانيوم إلى درجة نقاء تصل إلى 60 في المائة القريبة من مستوى 90 في المائة تقريباً اللازم لتصنيع أسلحة.

تأتي هذه الخطوة في وقت تعاني فيه إيران من سلسلة من الانتكاسات الاستراتيجية، بما في ذلك هجوم إسرائيل على حليفتيها حركة «حماس» في غزة، وجماعة «حزب الله» في لبنان، إلى جانب الإطاحة ببشار الأسد في سوريا.

وتقول الدول الغربية إنه لا يوجد مبرر لتخصيب اليورانيوم إلى هذا المستوى العالي في إطار أي برنامج مدني، وإنه لا توجد دولة وصلت لهذا المستوى من التخصيب دون أن تنتج قنابل نووية. وتنفي إيران السعي لامتلاك أسلحة نووية.

وفي رسالة إلى مجلس الأمن في السادس من ديسمبر (كانون الأول)، كتب سفراء بريطانيا وألمانيا وفرنسا لدى الأمم المتحدة: «يتعين على إيران خفض وتيرة برنامجها النووي من أجل خلق البيئة السياسية المواتية لتحقيق تقدم ملموس والتوصل إلى حل عبر التفاوض».

وقالوا: «نؤكد تمسكنا باستغلال كل السبل الدبلوماسية لمنع إيران من الحصول على سلاح نووي، بما في ذلك استخدام آلية (الرد السريع) إذا تتطلب الأمر».

وجاءت هذه الرسالة رداً على رسائل وجهتها روسيا وإيران في وقت سابق من الأسبوع الماضي، التي أعقبت مذكرة أوّلية وجهتها بريطانيا وألمانيا وفرنسا إلى المجلس في 27 نوفمبر (تشرين الثاني). وواصلت روسيا وإيران إرسال رسائل أخرى هذا الأسبوع.

جاءت الردود المتبادلة في وقت التقى فيه دبلوماسيون أوروبيون وإيرانيون، أواخر الشهر الماضي، لمناقشة ما إذا كان بإمكانهم العمل على تهدئة التوتر الإقليمي، بما في ذلك ما يتعلق بالبرنامج النووي لطهران، قبل عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض.

وخلال فترة ولايته الأولى، انسحب ترمب من الاتفاق النووي عام 2018.

«تبني الدبلوماسية»

في رسالة إلى مجلس الأمن يوم الاثنين، حث مبعوث إيران لدى الأمم المتحدة، أمير سعيد عرفاني، الأوروبيين على «التخلي عن سياستهم الفاشلة وغير الفعالة المتمثلة في الضغط والمواجهة»، وقال: «يتعين عليهم تبني الدبلوماسية والتركيز على إعادة بناء الثقة الضرورية للخروج من المأزق الحالي».

وتبنت الأطراف الأوروبية المشاركة في الاتفاق النووي مع طهران موقفاً أكثر صرامة تجاه إيران في الأشهر القليلة الماضية، لا سيما منذ أن كثفت طهران دعمها العسكري لروسيا في حربها ضد أوكرانيا.

وقال مبعوث روسيا لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، في رسالة يوم الثلاثاء، إن بريطانيا وألمانيا وفرنسا ليس لها الحق في استخدام آلية «الرد السريع»، وإن الحديث عن إمكانية استخدامها يعد تصرفاً غير مسؤول من جانبهم.

وقدم الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، يوم الثلاثاء، تقريره نصف السنوي إلى مجلس الأمن بشأن تنفيذ اتفاق 2015، محذراً من وجود «حاجة ماسة إلى حل سلمي للقضية النووية الإيرانية» نظراً للوضع المتدهور في شتى أنحاء الشرق الأوسط.

وتنص آلية «الرد السريع» على أن تعلق إيران جميع الأنشطة المتعلقة بالتخصيب وإعادة المعالجة، بما في ذلك البحث والتطوير، وحظر استيراد أي شيء يمكن أن يسهم في تلك الأنشطة أو تطوير أنظمة توصيل الأسلحة النووية.

كما ستعيد الآلية فرض حظر على الأسلحة التقليدية، وتمنع طهران من تطوير الصواريخ الباليستية القادرة على حمل الأسلحة النووية، وتعيد فرض عقوبات على عشرات الأفراد والكيانات. كما سيتم حث الدول على تفتيش الشحنات من إيران وإليها والسماح لها بمصادرة أي شحنة محظورة.