خطاب نسوي يؤكد الاعتبار لنضال المرأة اللبنانية

عزة بيضون توضح عدم معاداتها للرجل في «بعيون النساء»

خطاب نسوي يؤكد الاعتبار لنضال المرأة اللبنانية
TT

خطاب نسوي يؤكد الاعتبار لنضال المرأة اللبنانية

خطاب نسوي يؤكد الاعتبار لنضال المرأة اللبنانية

يعد كتاب الباحثة عزة شرارة بيضون «بعيون النساء... شؤون اللبنانيات وقضاياهن» الصادر أخيراً عن «دار الجديد»، بمثابة تأكيد اعتبار للصوت النسوي في المجتمع اللبناني، في مواجهة حالة من التجاوز وردود الفعل التي تتشكل حياله انطلاقاً من كونه صوتاً نسوياً.
يتعمق الكتاب في أطروحاته، وهو جمعٌ لمقالات تعاين العلة وتقترح علاجها. كما يصطدم التحليل بنقص في الموارد وصعوبة بلوغ عينات وافية، فكل مقال قضية، هي ليست بالضرورة «أولوية» الحركة النسائية، كـ«عيش الأمومة على صفحات الفيسبوك»، وتحول مفهوم الصحة النفسية للبنانيات إلى نضال يومي مرير ومسار من الإصرار تنتهجه نساء لبنان برغم الظروف العصيبة. لذلك يرفض الكتاب سلب المرأة امتيازاتها على امتداد الجمهورية.
تحضر شؤون النساء في الخطاب العام وفي الثورات وقبضات الشارع، ويهدف الخط النضالي لبيضون، الأستاذة السابقة في الجامعة اللبنانية، إلى المزاوجة العادلة بين مطالب الشعب وما يحق للمرأة رفع الصوت من أجله، دون عدائية للرجل ولا تعقبه في الزاوية، فالهتاف واحد من النساء والرجال في سبيل العدالة والحقوق، حين اكتظت الشوارع بأحلام التغيير في «17 أكتوبر (تشرين الأول)»، وما قبلها من حركات ممهدة.
الكتاب استكمال لسلسلة كتب منذ عام 1998 حتى اليوم، وهو مقاربة بحثية جدية، تقدمها صاحبة الدراسات الميدانية في شؤون المرأة والجندر. تُحمل القارئ مسؤولية بناء نظرة مغايرة لقضايا النساء، بعد نفض نظرة فظة يكرسها المجتمع والتربية. ومن ثم تأخذ الهموم النسوية الباحثة وتشكل دائرة انشغالاتها، وهي هموم قد تلقى «تعتيماً» إعلامياً، ولا يقابلها النضال النسائي الغارق في الإشكاليات الجوهرية باهتمام بالغ. هنا، مثلاً، تطرح مسألة عمل المرأة في منزلها، باعتباره عملاً إنتاجياً يستحق بدلاً مادياً، وتكمن أهمية الطرح في خصوصيته.
تنشغل المنظمات النسائية بـ«القضايا الكبرى»، كقانون حماية المرأة من العنف الأسري، وقانون الأحوال الشخصية المدني، وهموم «الكوتا» ومنح المرأة اللبنانية جنسيتها لأولادها. منذ «الجندر... ماذا تقولين: الشائع والواقع في أحوال النساء» («دار الساقي»، 2012)، و«مواطنة لا أنثى» («دار الساقي»، 2014)، وبيضون تكتب للإحاطة بالشاردة والواردة. تواجه البحوث نقصاناً بحجم المادة التوثيقية وافتقاراً إلى ثقافة وضع الأمور في نصابها. فإن كان عنوان البحث: عدد النساء اللواتي قتلن بذريعة غسل الشرف مثلاً، واشترط رقماً إحصائياً دقيقاً يُبين الفظاعة، فسيعترض الباحث رفضُ الجهات الأمنية تسهيل المهمة، وغياب التوثيق الدقيق لسبب الوفاة. بتدخل الحراك النضالي بات يُدرج في اللوائح أن سبب الموت هو ارتكاب جريمة، بعدما لم يكن الفارق مهماً بين أن تموت المرأة بضربة سيارة أو مقتولة.
ملفات المحاكمات أيضاً، لا تُفلش تلقائياً على طاولة الباحث. تنتقد بيضون هذه الاستنسابية في تبيان الأرقام والمعطيات الحاسمة، فتحد إمكانية الوصول إلى معدل كثافة سكانية شاملة للحالات قيد الدراسة واستخلاص عينة عشوائية منها. ثم إن الباحثة، بكتبها ومقالاتها، تتفادى التناول العام للقضايا. فدراسات عنوانها العريض «العالم العربي»، هي من اختصاص المنظمات الدولية لا الباحث الفرد. من هنا، يتخذ الكتاب خطاً بحثياً يتعلق بالقضايا «الصغيرة». فإشكالية مُلحة كـ«العنف ضد النساء»، تُفرعها إلى جوانب متصلة بالأسرة أمام القضاء وقضايا العنف الجنسي من منظور قاضيات وقضاة. الأمر نفسه حيال منهجية الوصول إلى دراسات نسوية هادفة. فالبحث الشخصي هو غير الجماعي، في اعتبار أن شخصاً بذاته جدير بالتحديد، فيما المجموعة تصلح لتناول قضية واحدة من زوايا متفرعة، كما تفعل بيضون، في نشاطها النسوي مع مركز «باحثات».
يتيح تعميم ثقافة البحث رفع الحيثيات في وجه المشرع وإرغامه على سن قوانين وفق الوقائع المُثبتة. «Lobbying» من نوع آخر، يستند إلى دراسات تتعلق بالمعنيين بالقانون والبيئة المحيطة بهم. فالقتل الأسري مثلاً نتيجة واقعية للعنف المتراكم؛ ولمنعه، لا بد من قانون رادع، يستند إلى عينات وشهادات ناجيات يضعن المشرع أمام المسؤولية. بيضون بالتوثيق والكتابة، تدرب المشرعين على طلب البحث كخطوة ضرورية للتدابير والسياسات وفق الحاجة المبنية على الواقع.
لا ينفع تكدس الغبار على البحث وزجه في المكتبات. أهميته في وصوله إلى المعنيين ونشره بشكل ناشط. تُكمل بيضون درباً باتت شبه مرسومة، خطتها الحركة النسائية، وهي اليوم تحقق إنجازات. المكتسبات النضالية ليست مولودة من الصفر، برغم آلام المخاض ومس العملية بالمنظومة الثقافية الذكورية الطائفية والسياسية. النسويات مواجَهات بالعوائق، والمفارقة أنهن في الكتاب، مقموعات بالنظام الأبوي نفسه القامع للرجال أيضاً.
لم تعانِ الكاتبة شخصياً من لقب «كارهة الرجل»، رغم غضبها حيال التمييز ضد المرأة. تعطي الباحثة الحاصلة على جائزة «التميز في البحث العلمي» عن مجمل أعمالها البحثية في المرأة والجندر للسنوات 2001 - 2011، أسباباً «تخفيفية» للرجل، برغم أن الرجال «يتركوننا نصارع بمفردنا القوى المناهضة للمرأة». هي من الداعيات لـ«الرفق» بالرجل العربي وتفهم «الأزمة الوجودية» التي يمر بها، والأسباب خلف العنف الممارس على المرأة. ليس من منطلق قبوله، بل لمناهضته بشكل أكثر فاعلية.



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.