«كوفيد ـ 19» يزيد التنافس على الحد من «المعلومات المضللة»

دور أكبر للمواقع الإلكترونية التابعة للصحف

غوغل نيوز
غوغل نيوز
TT

«كوفيد ـ 19» يزيد التنافس على الحد من «المعلومات المضللة»

غوغل نيوز
غوغل نيوز

وسط استمرار أزمة جائحة «كوفيد - 19»، بل تفاقمها مع ظهور المتحورات الجديدة، لا سيما «دلتا»، بات الجميع يبحث عن وسيلة موثوقة للبحث عن الأخبار.
ومع الظهور الأول للفيروس، كانت وسائل التواصل الاجتماعي المقصد الأول للتعرف على الأخبار، إلا أن رواج «المعلومات المضللة» على بعض هذه الوسائل هدد مكانتها بصفتها وسيلة لنقل الأخبار. وحسب مراقبين، كان لشركات التكنولوجيا العملاقة، مثل «آبل» و«غوغل»، نظرة ثاقبة حول مستقبل علاقة القارئ بالخبر، إذ رأت أن وسائل التواصل لن تدوم بصفتها وسيلة لنقل الأخبار، ولذا حجزت مقعدها مبكراً من خلال منصات عالمية تقدم خدمة مطالعة أخبار من مصادر متنوعة.
كذلك الصحف العربية البارزة بات لها شأن في هذا التطور، فبادرت إلى المنافسة بمنصات تُقدم الخبر المهني من خلال ضغطة زر على الهواتف الذكية. كذلك حرصت الكيانات الصحافية البارزة على أن تصبح أقرب إلى القارئ من خلال حسابات رسمية على منصات التواصل. ومع أن منصات التواصل نجحت، بلا شك، في استقطاب القارئ، وتحقيق مكاسب من الصحافة المهنية -وأحياناً هددت الكيانات الصحافية الراسخة في مهمة نقل الأخبار- فإن شدة الجائحة غيرت شكل المنافسة بين منصات التواصل ومنصات مطالعة الأخبار، سواء المجمعة على شاكلة «آبل نيوز» و«غوغل نيوز» أو الفردية المستقلة من خلال تطبيقات ومواقع الصحف.
ومن ناحية ثانية، يرى خبراء أن الجائحة وتداعياتها رجحت كفة الصحافة، وأعادت القارئ إلى المنصات التابعة للصحف الموثوق فيها، وعدوا أن الصدقية والمهنية كانا الرهان الذي فازت بهما الصحف، وسقطت بسببهما بعض منصات التواصل الاجتماعي، لافتين إلى أن جميع الصحف العربية البارزة تخوض اليوم سباقاً محموماً لمواكبة التطورات بات ينعكس على المحتوى.

تصديق الأخبار الكاذبة
تقرير لمعهد «رويترز» لدراسة الصحافة بجامعة أكسفورد البريطانية الشهيرة أشار في يونيو (حزيران) 2020 إلى وضع الأخبار الرقمية حول العالم، فذكر أن «مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي هم أكثر عرضة لتصديق الأخبار الكاذبة».
وهنا يقول مصطفى الريالات، رئيس تحرير صحيفة «الدستور» الأردنية، لـ«الشرق الأوسط» موافقاً إن أزمة «كوفيد - 19» دفعت إلى حقيقة تؤكد أن «منصات التواصل إحدى أهم أذرع الأخبار الكاذبة»، ويضيف: «لم تنجح هذه المنصات في تقديم ما يتوق له القارئ وسط أزمة عالمية لا مجال فيها للتأويل أو التهويل». وحسب الريالات، فإن «الجائحة أعادت القارئ نحو المنصات التابعة لصحف موثوق فيها، ولها تاريخ من المواقف مع القارئ. وعام 2020، كان العام الذهبي لصُناع الأخبار، سواء المرئية أو المكتوبة، بعدما تضاعفت المشاهدات».
وأرجع الإعلامي الأردني هذا التحول إلى أن «الصدقية والمهنية كانا الرهان الذي فازت به الصحف، وسقطت بسببه بعض منصات التواصل الاجتماعي».
أيضاً يؤمن الريالات بأن «الجائحة خدمت وسائل الإعلام التقليدية بشكل عام، والصحف بصفة خاصة، وعكست ثقة القارئ في صُحفه التقليدية، وحاجته إلى خبر قائم على المعلومة الموثقة. وبالتالي، اتضح الفارق الضخم بين مستخدم حساب على منصات التواصل يروج لأخبار مجهولة المصدر وصحافي ينشر خبراً من خلال عملية مهنية دقيقة».
وحقاً، يرجح الخبراء والمراقبون أن يكون المستقبل لصالح منصات مطالعة الأخبار، حيث يتوق القارئ لمعلومة مهنية موثقة، حتى إن كانت منصات التواصل ما زالت منافساً في نقل الأخبار. ومن جهة أخرى، يتساءل بعضهم عن سبب مطالعة قارئ ما موقعاً إلكترونياً واحداً بعينه، طالما أتيحت أمامه فرصة تصفح منصة حافلة بأخبار من مصادر متنوعة تغطي كل مناحي الحياة. وعندها، ما على المستخدم إلا تحديد اهتماماته، ومن ثم الدخول بسهولة على المنصة ليجد ما يبحث عنه. وهذه، تحديداً، هي الآلية التي اعتمدت عليها منصات جمع الأخبار، مثل «غوغل نيوز» و«آبل نيوز» و«فليب بورد» (Flipboard) وغيرها من المنصات العالمية.
جدير بالذكر أن منصة «غوغل نيوز» للأخبار ظهرت في يناير (كانون الثاني) 2006، وتصاعدت شعبيتها تدريجياً بالتوازي مع الاعتماد التدريجي على الإنترنت بصفتها مصدراً للمعلومات. ثم ظهرت منصة «فليب بورد» في يوليو (تموز) 2010. وفي هذه الأثناء، كانت شركة «آبل» تراقب الوضع تأهباً لاقتحام سوق المحتوى الصحافي في الوقت المناسب. وبالفعل، في سبتمبر (أيلول) 2015، خرجت منصة «آبل نيوز» التي أصبحت الأبرز عالمياً، حسب تيم كوك، الرئيس التنفيذي لشركة «آبل»، الذي ذكر في أغسطس (آب) 2020 أن «المنصة تضم 85 مليون مستخدم نشط شهرياً، مع قراءة أكثر من 5 مليارات مقال شهرياً أيضاً».

تنافس المنصات الإخبارية
ومن جانبها، لم توضح «غوغل» العدد الفعلي للمستخدمين، إلا أن خدمتها الإخبارية -وفق الخبراء- تعد المنافس الأول لخدمة «آبل» الإخبارية. وحسب هؤلاء، قدمت منصات الأخبار في البداية مجاناً، معتمدة على الإعلانات التي تستفيد منها المنصة والموقع أو الصحيفة. ولكن تدريجياً، أعلنت شركة «آبل» أن جزءاً من خدماتها الإخبارية سيُحجب في حال الامتناع عن الاشتراك مقابل نحو 10 دولارات شهرياً، بينما لا يزال تطبيقا «غوغل نيوز» و«فليب بورد» يقدمان خدماتهما مجاناً معتمدين على الإعلانات فقط.
وحول أسباب شعبية هذه المنصات، أوضح محمد جلال الريسي، مدير عام وكالة أنباء الإمارات (وام)، لـ«الشرق الأوسط»، شارحاً أن «منصات مطالعة الأخبار، على شاكلة (غوغل نيوز) و(آبل نيوز) لا تقدم خدمة إخبارية فحسب، بل تقدم خدمة تكنولوجية متكاملة، وهي بالفعل قدمت الأخبار بصفتها جزءاً من الرفاهية للمستخدم».
ويضيف أن «ثمة ملايين يستخدمون أجهزة آبل، وكذلك آندرويد المدعم بـ(غوغل)، ويحظون بخدمة تكنولوجية متكاملة. وجاءت الأخبار لمزيد من الاستقطاب، وربما الرفاهية»، مستدركاً أن «هذه المنصات لا تصنع الخبر، بل تعتمد على نقل الأخبار من مصادرها، كأنها مجرد لوحة عرض».
الريسي يؤكد أيضاً أن «هذه الشركات العملاقة لم -ولن- تدخل شريكاً في صناعة الأخبار، بل فقط تكتفي بالعرض والمطالعة، وتجمع الأخبار من خلال كلمات مفتاحية محددة، وربما لاحقاً تتزود ببعض المراسلين، لكن حتى الآن لم يحدث ذلك، ولا نعدها شريكاً».
غير أن الريالات كان له رأي مغاير، إذ قال: «صحيح منصات مطالعة الأخبار العالمية صعدت إلى الواجهة بسبب أزمة الجائحة، لكن ما زال أمامها الكثير حتى تتغلغل في الروتين اليومي للقارئ، بشرط خرق تعود القارئ على هذه المنصات التي تتيح له التفاعل والتعليق على الأحداث. ومن ثم، فإن منصات الأخبار، سواء المستقلة أو المجمعة، بحاجة إلى تطوير أدواتها من أجل خلق مساحة شخصية مع القارئ، وجعله جزءاً فعالاً في الأحدث، لا سيما أن عقلية المجتمعات العربية تميل إلى التفاعل».
وأردف أن «منصات مطالعة الأخبار، سواء من (آبل) أو من (غوغل) لها أهمية بارزة، لكن لا يمكن القول إن تلك المنصات باتت جزءاً من ثقافة القارئ العربي، في حين هي عنوان للمستقبل، وستصل إلى مرحلة أفضل فيما يتعلق بثقة القارئ».
ومن جهتها، ترى شيماء البرديني، رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة «الوطن» اليومية في مصر، في لقاء مع «الشرق الأوسط»، أن «صعود المنصات، لا سيما بعد الجائحة، يعود إلى بعض العوامل، منها أن هذه المنصات راسخة إلكترونياً، كونها بالأساس إصدار تقني. ثم إنها تقدم خدمات ومميزات تحقق الرفاهية والتنوع أكثر، مقارنة بالمواقع الإلكترونية القائمة بذاتها، كذلك تنوع المحتوى جزء من تميزها». وتابعت البرديني أن «منصات مطالعة الأخبار ليست واجهة لآيديولوجيات واضحة، ما يمنحها نوعاً من الاستقلالية، ومن ثم تفوز بثقة القارئ».
وعن احتمال عزوف القارئ العربي عن صحفه لصالح منصات الأخبار العالمية، يرى الريسي أن «الإعلام مر بأزمات أرست تحولات جذرية، ودفعت نحو التطور، ومن ثم التحول نحو الرقمنة». ويضيف: «طبيعي أن كل متغير يُعد تحدياً لصناع الإعلام، وعلينا التكيف حتى نتطور ذاتياً. ووجود منصات عالمية تسمح بجمع ومطالعة الأخبار لا يشكل ضغطاً على الصحافة العربية، بينما الأزمة الحقيقية هي حاجة الصحافي العربي إلى التطور وتحديث أدواته».
ثم يتابع الريسي، فيقول إن «الشكل النمطي للخبر ما عاد يناسب جيل الألفية وتطلعاته، ولذا فإن السباق ما عاد في اللحاق بمنصات الأخبار المجمعة، بل في تطوير المحتوى أولاً، من خلال مزيد من الاعتماد على الأدوات المرئية، على شاكلة الصور والفيديو، ثم تأتي خطوة الوجود والمنافسة».
أما البرديني، فتؤكد أن «منصات مطالعة الأخبار تسارع في إتاحة حلول للأزمة المالية التي تواجهها الصحافة منذ بدء التحول نحو الرقمنة، واختلاف سياسة الإعلان بين المطبوع والرقمي. ولذلك شاهدنا بعض المنصات تتجه نحو الخدمات المدفوعة، ولو بشكل جزئي، ربما تمهيداً للتحول الكامل؛ لكن الحضور على منصات الأخبار لن يكون الحل السحري لأزمة الصحافة، حتى إن أصبح سبيلاً لجني أموال أتصور أنها محدودة، لأن التكلفة التي تتحملها الصحف لإنتاج مطبوعات ورقية أو حتى مواقع إلكترونية تتخطى هذا العائد المحدود. ومن ثم، لا أتصور أنها منقذ واقعي».

الحضور والمحتوى الخبري
وفي المقابل، بحسب الريسي، فإن «ثمة ضرورة لخروج منصات متخصصة في مطالعة الأخبار العربية على قدر من التطور يضعها في صفوف المنافسين، بصفتها نافذة للمحتوى العربي وشرطاً لاستمراره». قبل أن يضيف: «نحن بصدد خروج كيانات كهذه، لكن علينا الاعتراف أولاً أن ثمة كيانات تكنولوجية عملاقة سبقت بالفعل، وهذا ما يعد تحدياً، ومنافسته تحتاج إلى جهد مضاعف. وعليه، أتوقع أن نرى المؤسسات العربية البارزة ضمن هذه المنصات الفترة المقبلة».
والريالات يوافق الريسي رأيه، فيقول إن «الحضور على جميع المنصات المحلية والعالمية بات ضرورة، ولا يمكن غض الطرف عنه، في سبيل نشر اهتمامات وقضايا العالم العربي». ثم يشدد على أنه «حتى إن وفرت منصات مطالعة الأخبار مصدر دخل مالي للصحف، فهذا لا يعني الكثير، عندما يكون الحضور المهني والوظيفي هو الهدف الأصيل. والحاصل الآن أن الصحف العربية حققت حضوراً بارزاً في مجال الرقمنة، وغدا لها شأنها في الفضاء الإلكتروني، بل اتجهت بعض الصحف نحو الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى»، قبل أن ينهي تعليقه بالقول إن «جميع الصحف العربية البارزة تخوض سباقاً في مواكبة التطورات، ما ينعكس على المحتوى الذي بالفعل يتطور يوم بعد الآخر، وتحقق نجاحات ضخمة».


مقالات ذات صلة

السعودية: تطوير حوكمة الإعلام بدليل شامل للمهن

إعلام الدليل يحدد متطلبات ومسؤوليات ومهام جميع المهن الإعلامية (واس)

السعودية: تطوير حوكمة الإعلام بدليل شامل للمهن

أطلقت «هيئة تنظيم الإعلام» السعودية «دليل المهن الإعلامية» الذي تهدف من خلاله إلى تطوير حوكمة القطاع، والارتقاء به لمستويات جديدة من الجودة والمهنية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق مبنى التلفزيون المصري «ماسبيرو» (تصوير: عبد الفتاح فرج)

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

أثار إعلان «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي تساؤلات بشأن دوافع هذا القرار.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
شمال افريقيا الكاتب أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام (موقع الهيئة)

مصر: «الوطنية للإعلام» تحظر استضافة «العرّافين»

بعد تكرار ظهور بعض «العرّافين» على شاشات مصرية خلال الآونة الأخيرة، حظرت «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر استضافتهم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» أثارت جدلاً (تصوير: عبد الفتاح فرج)

​مصر: ضوابط جديدة للبرامج الدينية تثير جدلاً

أثارت قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بمصر المتعلقة بالبرامج الدينية جدلاً في الأوساط الإعلامية

محمد الكفراوي (القاهرة )
الولايات المتحدة​ ديبورا والدة تايس وبجانبها صورة لابنها الصحافي المختفي في سوريا منذ عام 2012 (رويترز)

فقد أثره في سوريا عام 2012... تقارير تفيد بأن الصحافي أوستن تايس «على قيد الحياة»

قالت منظمة «هوستيدج إيد وورلدوايد» الأميركية غير الحكومية إنها على ثقة بأن الصحافي أوستن تايس الذي فقد أثره في سوريا العام 2012 ما زال على قيد الحياة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.