كيف نعلّم أطفالنا الفلسفة؟

الاكتشاف المبكر عن قدرة غريزية لمساءلة العناصر الأساسية في الحياة والمجتمع

الاستاذة الجامعية جان مور لون
الاستاذة الجامعية جان مور لون
TT

كيف نعلّم أطفالنا الفلسفة؟

الاستاذة الجامعية جان مور لون
الاستاذة الجامعية جان مور لون

قد يبدو عنوان هذه المقالة غريباً، بل وفنتازياً إلى حدود غير معقولة، وبخاصة في بيئتنا العربية. بل كيف تتفق الطفولة – المقترنة بالبراءة المطلقة - مع الفلسفة في المقام الأول؟ هنا يكمن الخلط المفاهيمي: البراءة المطلقة ليست قرينة الخواء الفكري؛ بل إن هذه البراءة ذاتها تمثل دافعاً لطرح أسئلة تكشف عن معضلات فلسفية وجودية قد يخافها الكثير من الكبار أو يتناسونها في أقلّ تقدير.
إذا غادرنا منطقة الكلام العمومي نحو الفعل الإجرائي، فثمّة نشاط أكاديمي وثقافي عام بشأن «الفلسفة للأطفال» و«الطفل الفلسفي». ربما تكون الفيلسوفة والأستاذة الجامعية جانا مور لون Jana Mohr Lone المثال الأبرز في هذا الميدان. تعمل مور لون مديرة مركز «الفلسفة للأطفالPhilosophy for Children » بجامعة واشنطن، وفي الوقت ذاته هي أستاذة مشاركة في قسم الفلسفة في الجامعة ذاتها. ألّفت لون (أو ساهمت في تأليف وتحرير) الكتب التالية: «الطفل الفلسفي» 2012، و«الفلسفة والتربية» 2012، و«الفلسفة في التربية» 2016 و«يُرى ولا يُسمَع».
كيف يمكن للأطفال أن يتعاملوا مع الفلسفة؟ أليس الأمر شاقاً للغاية عليهم؟ وما الذي نبتغي فعله: تعليم (أفلاطون وكانْط،،، إلخ) لأطفال في سنّ الحضانة؟ هذه بعض الأسئلة الطبيعية التي سيسألها كثيرون عندما يسمعون عبارة «الفلسفة للأطفال»؛ بل وقد يتخذ السؤال منحى مُغالياً في الشك بعض الأحيان عندما يتساءل أصحابه: ما نوعُ الفلسفة التي تصلح لكي يتعامل معها الأطفال؟
ترى لون في كتبها المنشورة بشأن الأطفال والفلسفة أنّ ردّات الفعل هذه مفهومة؛ لأنها تنشأ من مفترضات شائعة بشأن كلّ من الأطفال والفلسفة، وتعقّب قائلة، إنّ الدافع الرئيسي الذي يوجّه عمل مجموعتها البحثية في مركز «الفلسفة للأطفال» بجامعة واشنطن هو القناعة بضرورة تحدّي المعتقدات الخاصة بشأن القدرات الفلسفية المحدودة للأطفال، وفي الوقت ذاته توسيع تخوم فهمنا لطبيعة الفلسفة وللقادرين على التعامل الخلاق معها. الأمر هو بالضبط كما عبّر عنه طفل في السابعة حينما قال «نستطيع عبر التعامل مع الفلسفة تنمية عقولنا».
تعتقد لون أنّ أهدافنا بشأن الأطفال والفلسفة يجب أن تكون واضحة معلنة: معرفة أي الموضوعات يميل الأطفال للتفكير حولها فلسفياً، وتعزيز المناقشات والتأمّلات حول هذه الموضوعات. الموضوعة الأساسية في الأمر كله ليست تعليم الأطفال تأريخ الفلسفة، كما لا ينبغي إيلاء الكثير من الاهتمام لكيفية تعليمهم طريقة صياغة الحجج الفلسفية التي يجترحها الفلاسفة المتمرّسون.
يمكن لمساءلة الأطفال أن تكون الوسيلة الأولى الأكثر فاعلية في الممارسات الفلسفية معهم: التأمّل في معنى التجارب والمفاهيم العادية بغية تطوير فهمٍ للعالم والآخرين وللأطفال أنفسهم. عندما يُسألُ الأطفال أي الأسئلة تثير دهشتهم أكثر من سواها فإنّ إجاباتهم الأكثر شيوعاً تنطوي على أسئلة من هذا النوع:
- لِمَ أنا هنا؟
- من أنا؟
- لِمَ توجد كراهية في العالم؟
- ما الذي يحدث عندما نموت؟
- كيف أعرفُ الطريقة الصحيحة في العيش؟
بل حتى أنّ إحدى الأمّهات صرّحت بأنّ طفلتها البالغة ثلاث سنوات لا تنقطعُ عن سؤالها بطريقة لحوحة: «ماما، لماذا تستمرُ الأيامُ في القدوم يوماً بعد آخر؟».
مع أنّنا نحن - البالغين - نعرفُ بأنّ الأطفال الصغار يميلون لطرح الكثير من الأسئلة فإننا مسكونون بقناعة مفادها أنّ هؤلاء الأطفال ليسوا على قدر من النضج والتعقيد الفكري بالكيفية التي تؤهّلهم للتفكّر الدقيق في موضوعات فلسفية معقّدة. نحنُ نصِفُ الأطفال في العادة بأنّهم ذوو فضول معرفي هائل، وتحرّكهم دهشة خارقة تملأ جوانحهم؛ لكننا مع هذا نفترضُ أنهم لا يفهمون بطريقة حقيقية الأبعاد الفلسفية للأسئلة التي لا ينفكّون يطرحونها.
لكن لو فكّرنا بطريقة استرجاعية لوجدنا أنّ العديد من البالغين سيعترفون بأنّ بواكير دهشتهم الفلسفية إنما بدأت مع الطفولة. تعدُّ الطفولة لكثيرين منّا هي الطور الحياتي الذي نُمضي معظم وقتنا فيه متفكّرين ومندهشين، والحقُّ أنّ الولع الفلسفي للعديد من الفلاسفة المتمرسين في حقل فلسفي محدّد انبثق مدفوعاً من حماسة مبكّرة للتساؤل. يصفُ البعضُ من هؤلاء الفلاسفة - في أعمال منشورة لهم - تجربة انخراطهم في صف فلسفي أو قراءة نص فلسفي، والكيفية التي أدركوا بها طبيعة الأسئلة الفلسفية المطروحة في تلك الصفوف أو النصوص والتي هي في عمومها أسئلة أطالوا النظر فيها والتفكّر العميق بشأنها مُذ كانوا أطفالاً.
تعلّق مون حول الشغف الفلسفي لدى الأطفال فتكتب «عندما كنتُ طالبة متخرّجة من قسم الفلسفة لطالما أدهشتني الأسئلة التي كان أطفالي يلحّون في سؤالها، وهي في عمومها أسئلة دفعتني للتفكير بطفولتي الشخصية، فضلاً عن استذكار الأفكار التي كانت تراودني حينذاك حول الحياة والموت، ومعنى الحياة، والصداقة، والسعادة، والعائلة. لم أزلْ حتى اليوم، وعلى سبيل المثال، أذكرُ - وأنا بعمر السادسة أو السابعة - كيف كنتُ في فراشي قبل النوم أفكّرُ بالموت وإمكانية أنني في يوم ما لن أكون موجودة بأي شكل من الأشكال في هذا العالم. إنه العدم أو الخواء Nothingness. تساءلتُ حينها: كيف يمكن للأمر أن يكون على هذا النحو حيث إنا موجودة هنا الآن، ثم في يومٍ ما سأختفي إلى الأبد؟ كانت حقيقة أنني سأموتُ يوماً ما مرعبة لي، ولطالما دفعتني هذه الفكرة المرعبة للتساؤل عن معنى التفكير بالكيفية الواجبة التي ينبغي لي أن أعيش حياتي مسترشدة بها».
تؤكّد مون أنّ نقاشاتها المستفيضة مع الأطفال والآباء على مدار سنوات عديدة أكّدت لها أنها لم تكن وحيدة في تفكّرها المستفيض بمثل هذه الأفكار في طفولتها؛ إذ لطالما اعتاد أرسطو على ترديد عبارته ذائعة الشهرة «كلّ البشر يسعون - بالطبيعة - لبلوغ فهم أفضل لكلّ شيء». يشرع الأطفال في وقت مبكّر من حياتهم في محاولة إضفاء معنى على العالم، وكذلك لفهم الطريقة التي تعمل بها الأشياء، ومتى ما صار الأطفال قادرين على صياغة الأسئلة المناسبة فإنهم لا يتردّدون في طرح الأسئلة الخاصة بالمفاهيم التي يسمعونها والعالم الذي يختبرونه.
يُبدي الأطفال نوعاً من الشغف المدهش حول كثير من جوانب العالم التي يتعامل معها معظم البالغين وكأنها معطيات جاهزة مسلّم بها، والأطفال إذ يفعلون هذا فإنهم يكشفون عن قدرة غريزية لمساءلة العناصر الأكثر أساسية في الحياة والمجتمع؛ لكن برغم إدراكنا بأنّ الأطفال مسكونون بالدهشة التي تدفعهم لطرح أسئلة كبرى فإنّ المعنى الأعمق الكامن وراء تساؤلاتهم يجري تجاهله على نحوٍ روتيني من قبل البالغين. نحنُ - البالغين - في العادة نميل لإبداء ردّات فعلٍ متباينة تجاه الأسئلة الكبرى للأطفال أو تعبيراتهم التي تتضمّنُ أفكاراً فلسفية، والغالب هو أنّ البالغين لا يتعاملون مع تساؤلات الأطفال وأفكارهم الفلسفية بالحد الأدنى من الجدية اللازمة.
أن يكون الكائن البشري طفلاً لا يعني معاملته كمفكّر بالمقاييس العادية السائدة؛ لكنّ فكرة كون الأطفال قادرين على التفكير الدقيق حول العديد من الموضوعات المجرّدة هي فكرة يجد العديد من البالغين مشقة واستعصاءً في قبولها، وبسبب هذا الأمر فإنّ فكرة تعامل الأطفال مع الفلسفة تفرضُ تحدياتها الخاصة ذات الطبيعة المتفرّدة.
بدلاً من تعليم الفلسفة للأطفال بالطريقة الأكاديمية السائدة يمكننا ممارسة الفلسفة معهم عبر خلق فضاءات حوارية تتيحُ لهم استكشاف ومساءلة الموضوعات الفلسفية التي يجدون فيها مواطن للشغف والولع. يمكن – مثلاً – البدء مع الأطفال باقتراح مفردة أو عبارة فلسفية يمكن أن تكونا مدار بحث ومساءلة مستفيضة، مثل: معنى السعادة، والعدالة، والكياسة، والعلاقة بين الحرية والجماعة البشرية، وطبيعة الجمال،،، والعديد من موضوعات شبيهة أخرى لا تنبثق من أعمال الفلاسفة الكلاسيكيين والمعاصرين، بل أيضاً من معاينة الكتب المصوّرة المخصصة للأطفال، بالإضافة إلى الكتب الخاصة بأدبهم، وفنونهم، وموسيقاهم، وأفلامهم، وألعابهم، وفعالياتهم، ومن أنشطة عادية كثيرة أخرى يمارسها البالغون في الحياة اليومية.
الاعتراف بكون الأطفال مفكّرين فلسفيين بطريقتهم الخاصة يمنحهم الفرصة، وبطريقة واقعية للغاية، للنظر في أنفسهم بطريقة مختلفة باعتبارهم مفكّرين مستقلين ذوي قيمة معتبرة. يمتلك الأطفال الكثير مما يمكن أن يعلّموه للبالغين، ولو أمكننا الاستجابة لهم من غير التفكير بأنهم «مجرّدُ أطفال» نستطيعُ حينها تعزيز التبادلات الفلسفية بصورة انعكاسية بين الأطفال والبالغين، وهذا أمرٌ ستكون له مفاعيله الطيبة في توسيع منظوراتنا وتعميق علاقاتنا مع الأطفال.


مقالات ذات صلة

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط
كتب «أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

«أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت رواية «أبريل الساحر» للكاتبة البريطانية إليزابيث فون أرنيم، التي وُصفت من جانب كبريات الصحف العالمية بأنها نص مخادع وذكي وكوميدي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ

د. ربيعة جلطي (الجزائر)
ثقافة وفنون قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

عن دار «طيوف» بالقاهرة صدر كتاب «مرايا الفضاء السردي» للناقدة المصرية دكتورة ناهد الطحان، ويتضمن دراسات ومقالات نقدية تبحث في تجليات السرد العربي المعاصر

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق الكاتب السعودي فيصل عباس مع السفير البريطاني نيل كرومبتون خلال الأمسية الثقافية

أمسية ثقافية بمنزل السفير البريطاني في الرياض للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني»

أقام السفير البريطاني في الرياض أمسية ثقافية في منزله بالحي الدبلوماسي للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني» للكاتب السعودي ورئيس تحرير صحيفة «عرب نيوز».

«الشرق الأوسط» (الرياض)

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».