كيف نعلّم أطفالنا الفلسفة؟

الاكتشاف المبكر عن قدرة غريزية لمساءلة العناصر الأساسية في الحياة والمجتمع

الاستاذة الجامعية جان مور لون
الاستاذة الجامعية جان مور لون
TT

كيف نعلّم أطفالنا الفلسفة؟

الاستاذة الجامعية جان مور لون
الاستاذة الجامعية جان مور لون

قد يبدو عنوان هذه المقالة غريباً، بل وفنتازياً إلى حدود غير معقولة، وبخاصة في بيئتنا العربية. بل كيف تتفق الطفولة – المقترنة بالبراءة المطلقة - مع الفلسفة في المقام الأول؟ هنا يكمن الخلط المفاهيمي: البراءة المطلقة ليست قرينة الخواء الفكري؛ بل إن هذه البراءة ذاتها تمثل دافعاً لطرح أسئلة تكشف عن معضلات فلسفية وجودية قد يخافها الكثير من الكبار أو يتناسونها في أقلّ تقدير.
إذا غادرنا منطقة الكلام العمومي نحو الفعل الإجرائي، فثمّة نشاط أكاديمي وثقافي عام بشأن «الفلسفة للأطفال» و«الطفل الفلسفي». ربما تكون الفيلسوفة والأستاذة الجامعية جانا مور لون Jana Mohr Lone المثال الأبرز في هذا الميدان. تعمل مور لون مديرة مركز «الفلسفة للأطفالPhilosophy for Children » بجامعة واشنطن، وفي الوقت ذاته هي أستاذة مشاركة في قسم الفلسفة في الجامعة ذاتها. ألّفت لون (أو ساهمت في تأليف وتحرير) الكتب التالية: «الطفل الفلسفي» 2012، و«الفلسفة والتربية» 2012، و«الفلسفة في التربية» 2016 و«يُرى ولا يُسمَع».
كيف يمكن للأطفال أن يتعاملوا مع الفلسفة؟ أليس الأمر شاقاً للغاية عليهم؟ وما الذي نبتغي فعله: تعليم (أفلاطون وكانْط،،، إلخ) لأطفال في سنّ الحضانة؟ هذه بعض الأسئلة الطبيعية التي سيسألها كثيرون عندما يسمعون عبارة «الفلسفة للأطفال»؛ بل وقد يتخذ السؤال منحى مُغالياً في الشك بعض الأحيان عندما يتساءل أصحابه: ما نوعُ الفلسفة التي تصلح لكي يتعامل معها الأطفال؟
ترى لون في كتبها المنشورة بشأن الأطفال والفلسفة أنّ ردّات الفعل هذه مفهومة؛ لأنها تنشأ من مفترضات شائعة بشأن كلّ من الأطفال والفلسفة، وتعقّب قائلة، إنّ الدافع الرئيسي الذي يوجّه عمل مجموعتها البحثية في مركز «الفلسفة للأطفال» بجامعة واشنطن هو القناعة بضرورة تحدّي المعتقدات الخاصة بشأن القدرات الفلسفية المحدودة للأطفال، وفي الوقت ذاته توسيع تخوم فهمنا لطبيعة الفلسفة وللقادرين على التعامل الخلاق معها. الأمر هو بالضبط كما عبّر عنه طفل في السابعة حينما قال «نستطيع عبر التعامل مع الفلسفة تنمية عقولنا».
تعتقد لون أنّ أهدافنا بشأن الأطفال والفلسفة يجب أن تكون واضحة معلنة: معرفة أي الموضوعات يميل الأطفال للتفكير حولها فلسفياً، وتعزيز المناقشات والتأمّلات حول هذه الموضوعات. الموضوعة الأساسية في الأمر كله ليست تعليم الأطفال تأريخ الفلسفة، كما لا ينبغي إيلاء الكثير من الاهتمام لكيفية تعليمهم طريقة صياغة الحجج الفلسفية التي يجترحها الفلاسفة المتمرّسون.
يمكن لمساءلة الأطفال أن تكون الوسيلة الأولى الأكثر فاعلية في الممارسات الفلسفية معهم: التأمّل في معنى التجارب والمفاهيم العادية بغية تطوير فهمٍ للعالم والآخرين وللأطفال أنفسهم. عندما يُسألُ الأطفال أي الأسئلة تثير دهشتهم أكثر من سواها فإنّ إجاباتهم الأكثر شيوعاً تنطوي على أسئلة من هذا النوع:
- لِمَ أنا هنا؟
- من أنا؟
- لِمَ توجد كراهية في العالم؟
- ما الذي يحدث عندما نموت؟
- كيف أعرفُ الطريقة الصحيحة في العيش؟
بل حتى أنّ إحدى الأمّهات صرّحت بأنّ طفلتها البالغة ثلاث سنوات لا تنقطعُ عن سؤالها بطريقة لحوحة: «ماما، لماذا تستمرُ الأيامُ في القدوم يوماً بعد آخر؟».
مع أنّنا نحن - البالغين - نعرفُ بأنّ الأطفال الصغار يميلون لطرح الكثير من الأسئلة فإننا مسكونون بقناعة مفادها أنّ هؤلاء الأطفال ليسوا على قدر من النضج والتعقيد الفكري بالكيفية التي تؤهّلهم للتفكّر الدقيق في موضوعات فلسفية معقّدة. نحنُ نصِفُ الأطفال في العادة بأنّهم ذوو فضول معرفي هائل، وتحرّكهم دهشة خارقة تملأ جوانحهم؛ لكننا مع هذا نفترضُ أنهم لا يفهمون بطريقة حقيقية الأبعاد الفلسفية للأسئلة التي لا ينفكّون يطرحونها.
لكن لو فكّرنا بطريقة استرجاعية لوجدنا أنّ العديد من البالغين سيعترفون بأنّ بواكير دهشتهم الفلسفية إنما بدأت مع الطفولة. تعدُّ الطفولة لكثيرين منّا هي الطور الحياتي الذي نُمضي معظم وقتنا فيه متفكّرين ومندهشين، والحقُّ أنّ الولع الفلسفي للعديد من الفلاسفة المتمرسين في حقل فلسفي محدّد انبثق مدفوعاً من حماسة مبكّرة للتساؤل. يصفُ البعضُ من هؤلاء الفلاسفة - في أعمال منشورة لهم - تجربة انخراطهم في صف فلسفي أو قراءة نص فلسفي، والكيفية التي أدركوا بها طبيعة الأسئلة الفلسفية المطروحة في تلك الصفوف أو النصوص والتي هي في عمومها أسئلة أطالوا النظر فيها والتفكّر العميق بشأنها مُذ كانوا أطفالاً.
تعلّق مون حول الشغف الفلسفي لدى الأطفال فتكتب «عندما كنتُ طالبة متخرّجة من قسم الفلسفة لطالما أدهشتني الأسئلة التي كان أطفالي يلحّون في سؤالها، وهي في عمومها أسئلة دفعتني للتفكير بطفولتي الشخصية، فضلاً عن استذكار الأفكار التي كانت تراودني حينذاك حول الحياة والموت، ومعنى الحياة، والصداقة، والسعادة، والعائلة. لم أزلْ حتى اليوم، وعلى سبيل المثال، أذكرُ - وأنا بعمر السادسة أو السابعة - كيف كنتُ في فراشي قبل النوم أفكّرُ بالموت وإمكانية أنني في يوم ما لن أكون موجودة بأي شكل من الأشكال في هذا العالم. إنه العدم أو الخواء Nothingness. تساءلتُ حينها: كيف يمكن للأمر أن يكون على هذا النحو حيث إنا موجودة هنا الآن، ثم في يومٍ ما سأختفي إلى الأبد؟ كانت حقيقة أنني سأموتُ يوماً ما مرعبة لي، ولطالما دفعتني هذه الفكرة المرعبة للتساؤل عن معنى التفكير بالكيفية الواجبة التي ينبغي لي أن أعيش حياتي مسترشدة بها».
تؤكّد مون أنّ نقاشاتها المستفيضة مع الأطفال والآباء على مدار سنوات عديدة أكّدت لها أنها لم تكن وحيدة في تفكّرها المستفيض بمثل هذه الأفكار في طفولتها؛ إذ لطالما اعتاد أرسطو على ترديد عبارته ذائعة الشهرة «كلّ البشر يسعون - بالطبيعة - لبلوغ فهم أفضل لكلّ شيء». يشرع الأطفال في وقت مبكّر من حياتهم في محاولة إضفاء معنى على العالم، وكذلك لفهم الطريقة التي تعمل بها الأشياء، ومتى ما صار الأطفال قادرين على صياغة الأسئلة المناسبة فإنهم لا يتردّدون في طرح الأسئلة الخاصة بالمفاهيم التي يسمعونها والعالم الذي يختبرونه.
يُبدي الأطفال نوعاً من الشغف المدهش حول كثير من جوانب العالم التي يتعامل معها معظم البالغين وكأنها معطيات جاهزة مسلّم بها، والأطفال إذ يفعلون هذا فإنهم يكشفون عن قدرة غريزية لمساءلة العناصر الأكثر أساسية في الحياة والمجتمع؛ لكن برغم إدراكنا بأنّ الأطفال مسكونون بالدهشة التي تدفعهم لطرح أسئلة كبرى فإنّ المعنى الأعمق الكامن وراء تساؤلاتهم يجري تجاهله على نحوٍ روتيني من قبل البالغين. نحنُ - البالغين - في العادة نميل لإبداء ردّات فعلٍ متباينة تجاه الأسئلة الكبرى للأطفال أو تعبيراتهم التي تتضمّنُ أفكاراً فلسفية، والغالب هو أنّ البالغين لا يتعاملون مع تساؤلات الأطفال وأفكارهم الفلسفية بالحد الأدنى من الجدية اللازمة.
أن يكون الكائن البشري طفلاً لا يعني معاملته كمفكّر بالمقاييس العادية السائدة؛ لكنّ فكرة كون الأطفال قادرين على التفكير الدقيق حول العديد من الموضوعات المجرّدة هي فكرة يجد العديد من البالغين مشقة واستعصاءً في قبولها، وبسبب هذا الأمر فإنّ فكرة تعامل الأطفال مع الفلسفة تفرضُ تحدياتها الخاصة ذات الطبيعة المتفرّدة.
بدلاً من تعليم الفلسفة للأطفال بالطريقة الأكاديمية السائدة يمكننا ممارسة الفلسفة معهم عبر خلق فضاءات حوارية تتيحُ لهم استكشاف ومساءلة الموضوعات الفلسفية التي يجدون فيها مواطن للشغف والولع. يمكن – مثلاً – البدء مع الأطفال باقتراح مفردة أو عبارة فلسفية يمكن أن تكونا مدار بحث ومساءلة مستفيضة، مثل: معنى السعادة، والعدالة، والكياسة، والعلاقة بين الحرية والجماعة البشرية، وطبيعة الجمال،،، والعديد من موضوعات شبيهة أخرى لا تنبثق من أعمال الفلاسفة الكلاسيكيين والمعاصرين، بل أيضاً من معاينة الكتب المصوّرة المخصصة للأطفال، بالإضافة إلى الكتب الخاصة بأدبهم، وفنونهم، وموسيقاهم، وأفلامهم، وألعابهم، وفعالياتهم، ومن أنشطة عادية كثيرة أخرى يمارسها البالغون في الحياة اليومية.
الاعتراف بكون الأطفال مفكّرين فلسفيين بطريقتهم الخاصة يمنحهم الفرصة، وبطريقة واقعية للغاية، للنظر في أنفسهم بطريقة مختلفة باعتبارهم مفكّرين مستقلين ذوي قيمة معتبرة. يمتلك الأطفال الكثير مما يمكن أن يعلّموه للبالغين، ولو أمكننا الاستجابة لهم من غير التفكير بأنهم «مجرّدُ أطفال» نستطيعُ حينها تعزيز التبادلات الفلسفية بصورة انعكاسية بين الأطفال والبالغين، وهذا أمرٌ ستكون له مفاعيله الطيبة في توسيع منظوراتنا وتعميق علاقاتنا مع الأطفال.


مقالات ذات صلة

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط
كتب «أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

«أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت رواية «أبريل الساحر» للكاتبة البريطانية إليزابيث فون أرنيم، التي وُصفت من جانب كبريات الصحف العالمية بأنها نص مخادع وذكي وكوميدي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ

د. ربيعة جلطي (الجزائر)
ثقافة وفنون قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

عن دار «طيوف» بالقاهرة صدر كتاب «مرايا الفضاء السردي» للناقدة المصرية دكتورة ناهد الطحان، ويتضمن دراسات ومقالات نقدية تبحث في تجليات السرد العربي المعاصر

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق الكاتب السعودي فيصل عباس مع السفير البريطاني نيل كرومبتون خلال الأمسية الثقافية

أمسية ثقافية بمنزل السفير البريطاني في الرياض للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني»

أقام السفير البريطاني في الرياض أمسية ثقافية في منزله بالحي الدبلوماسي للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني» للكاتب السعودي ورئيس تحرير صحيفة «عرب نيوز».

«الشرق الأوسط» (الرياض)

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
TT

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وما لهما وما عليهما... في زمن الروبوتات المؤنسنة والعقول الذكية الاصطناعية وما لها وما عليها، تحدُث من حين لآخر هزات عنيفة تحلج بعض العقول الهانئة، ذات القناعات القانعة، فتستيقظ بغتة على أسئلة طارئة. مدوِّخة بلْ مكهرِبة.

- ما هذا الذي يحدث؟

تماماً كما حدث في المعرض الدولي للكتاب في الجزائر، حدث ذلك منذ طبعتين في الصالون الدولي للكتاب في باريس، إذ حضر كتاب كبار ذوو شهرة عالمية، كل واحد منهم يركب أعلى ما في خيله، وحطّت رحالَها دورُ نشرٍ لا يشقّ لها غبار. لكن المنظمين والمشاركين والملاحظين والمراقبين والذين يعجبهم العجب، والذين لا يعجبهم العجب، على حين غرة وفي غفلة من أمرهم، فوجئوا بآلاف القادمين من الزوار شباباً وبالغين، كلهم يتجهون صوب طاولة، تجلس خلفها كاتبة في العشرينات، لا تعرفها السجلات العتيقة للجوائز، ولا مصاطب نقاش المؤلفين في الجامعات، أو في القنوات الشهيرة المرئية منها والمسموعة. الكاتبة تلك شابة جزائرية تفضّل أن تظلَّ حياتها الخاصة في الظِّل، اسمها سارة ريفنس، وتُعد مبيعات نسخ رواياتها بعشرات الملايين، أما عدد قرائها فبعدد كتّاب العالم أجمعين.

وكالعادة، وكما حدث منذ سنوات مع الروائية الجزائرية الشابة سارة ريفنس، أثار القدوم الضاج للكاتب السعودي أسامة مسلم ذهول جل المهتمين بالشأن الثقافي والأدبي، حين حضر إلى المعرض الدولي للكتاب في الجزائر 2024. وقبله معرض الكتاب بالمغرب ومعارض كتب عربية أخرى، وفاجأ المنظمين والزوار والكتاب فيضانُ نهر هادر من الجموع الغفيرة الشابة من «قرائه وقارئاته». اكتظ بهم المكان. جاءوا من العاصمة ومن مدن أخرى أبعد. أتوا خصيصاً للقائه هو... هو وحده من بين الكتاب الآخرين الكثر المدعوين للمعرض، الذين يجلسون خلف طاولاتهم أمام مؤلفاتهم، في انتظار أصدقاء ومعارف وربما قراء، للتوقيع لهم بقلم سائل براق حبرُه، بسعادة وتأنٍّ وتؤدة. بخط جميل مستقيم، وجمل مجنّحة منتقاة من تلافيف الذاكرة، ومما تحفظه من شذرات ذهبية لجبران خليل جبران، أو المنفلوطي أو بودلير، أو كلمة مستقاة من بيت جميل من المعلقات السبع، ظلّ عالقاً تحت اللسان منذ قرون.

لا لا... إنهم جاءوا من أجله هو... لم تأتِ تلك الجموع الغفيرة من أجل أحد منهم، بل ربما لم ترَ أحداً منهم، وأكاد أجزم أنها لم تتعرف على أحد منهم... تلك الجموع الشابة التي ملأت على حين غرة أجنحة المعرض، ومسالكَه، وسلالمَه، وبواباتِه، ومدارجَه، واكتظت بهم مساحاته الخارجية، وامتدت حتى مداخله البعيدة الشاسعة. يتدافعون ويهتفون باسم كاتبهم ومعشوقهم، هتافات مضفورة بصرخات الفرح:

- أووو... أووو... أووو أسامة...!!

يحلمون بالظفر برؤيته أخيراً عن قرب، وبلقائه هذه المرة بلحمه وعظمه، وليس شبحاً وصورة وصوتاً وإشارات خلف الشاشات الباردة لأجهزتهم الإلكترونية. يأملون بتوقيعه على الصفحة الأولى من إحدى رواياته، ولتكن روايته «خوف» مثلاً.

هكذا إذن... الأدبُ بدوْره، أضحى يرفض بيت الطاعة، بل يهدمه ويِؤسس قلعته الخاصة، التي تتماهى مع هندسة ذائقة العصر الجديدة، القابلة للنقاش. إنها الإشارة مرة أخرى ومنذ ظهور الكائن البشري من نحو ثلاثة مليارات سنة، على أن الزمن يعدو بالبشر بسرعة مدوخة، بينما هم يشاهدون - بأسف غالباً - حتف الأشياء التي تعوّدوا عليها، وهي تتلاشى نحو الخلف.

من البديهي أن الكتابة على الصخور لم تعد تستهوي أحداً منذ أمد بعيد، سوى علماء الأركيولوجيا الذين لهم الصبر والأناة، وقدرة السِّحر على إنطاقها، وقد أثبتوا ذلك بمنحنا نص جلجامش، أول نص بشري كتب على الأرض، وأما نظام الكتابة فقد تجاوز معطى الشفهية إلى الطباعة، ثم إلى الرقمية، وتكنولوجيا المعلومات، والذكاء الاصطناعي و...!

على ذِكر الذكاء، فليس من الذكاء ولا الفطنة التغاضي عن الواقع المستجد، أو التعنت أمام فكرة أن العالم في تغير مدوّ وسريع، وقد مسّ سحره كل جوانبه ومنها سوق الأدب، ولا بد من الاعتراف أن المنتِج للأدب كما المستهلك له، لم يعودا خاضعين في العرض والطلب لشروط أسواقه القديمة، وإن لم تنقرض جميعها، في ظل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وتوفر الـ«بلاتفورم» و«يوتيوب» و«إنستغرام» و«تيك توك» و«فيسبوك» وهاشتاغ وما جاورها.

لكن الأمر الذي لا بد من توضيحه والتأكيد عليه، أن دمغة الأدب الجيد وسمة خلود الإبداع، لا تكْمنا دوماً وبالضرورة في انتشاره السريع، مثل النار في الهشيم، وقت صدوره مباشرة، وإلا لما امتد شغف القراء عبر العالم، بالبحث عن روايات وملاحم وقصص عبرت الأزمنة، بينما لم تحظَ في وقتها باهتمام كبير، والأمثلة على ذلك عديدة ومثيرة للتساؤل. أسامة مسلم، وسارة ريفنس وآخرون، كتّاب بوهج ونفَس جديدين، على علاقة دائمة ووطيدة وحميمية ومباشرة مع قرائهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي، فلا يحتاجون إلى وسيط. مؤلفون وأدباء شباب كثر عبر العالم، من فرنسا وأميركا وإنجلترا وكندا وغيرها مثل Mélissa Da Costa - Guillaume Musso - Laura Swan - Morgane Moncomble - Collen Hoover - Ana Huang وآخرين وأخريات ينتمون إلى عالم رقمي، تسيطر فيه عناصر جديدة تشكل صلصال الكتابة وجسر الشهرة... لم يمروا كما مر الذين من قبلهم على معابر الأدب، وتراتبية مدارسه المختلفة التي وسمت مراحل أدبية متوهجة سابقة لهم، ولم يهتموا كثيراً بالنّسَب الجيني لأجدادهم من الروائيين من القارات الخمس بمختلف لغاتهم، ولم يتخذوا منهم ملهمين، ولا مِن مقامهم هوى. كتابٌ شباب، أضحت مبيعات رواياتهم تتصدر أرقام السوق، فتسجل عشرات الملايين من النسخ، وتجتاح الترجمات عشرات اللغات العالمية، ودون سعي منهم ترصد ذلك متابعات صحافية وإعلامية جادة، وتدبج عنهم مقالات على صفحات أكبر الجرائد والمجلات العالمية، وتوجه لهم دعوات إلى معارض الكتب الدولية. كتاب لم يلجئوا في بداية طريقهم ومغامرتهم الإبداعية إلى دور النشر، كما فعلت الأجيال السابقة من الأدباء، بل إن دور النشر الكبيرة الشهيرة لجأت بنفسها إليهم، طالبة منهم نشر أعمالهم في طباعة ورقية، بعد أن تحقق نجاحهم من خلال منصات النشر العالمية وانجذب إليهم ملايين القراء. فرص سانحة في سياق طبيعي يتماهى مع أدوات العصر مثل: Wattpad - After Dark - nouvelle app - Creative Commons وغيرها.

ولأن التفاؤل الفكري يرى فرصة في كل عقبة، وليس في كل فرصة عقبة كما جاء على لسان وينستون تشرشل، ولأن الوعي بالحداثة يأتي متأخراً زمنياً، فإن ما يحدثه الكتّاب الروائيون الشباب Bests eller البستسيللر في العالم، من هزات مؤْذنة بالتغيير، ومن توهج استثنائي في عالم الكتابة، ومن حضور مُربك في معارض الكتاب، تجعلنا نطرح السؤال الوجودي التالي: هل ستتغير شروط الكتابة وتتبدل مقاييسها التقليدية، وهل ستنتفي معارض الكتاب أم تتغير. وكيف ستكون عليه إذن في الأزمنة المقبلة؟