شعراء التسعينات بين حدّي الحداثة وما بعد الحداثة

كتاب نقدي يرى أن ثقافتهم اقتصرت على التراثية التقليدية أساساً

شعراء التسعينات بين حدّي الحداثة وما بعد الحداثة
TT

شعراء التسعينات بين حدّي الحداثة وما بعد الحداثة

شعراء التسعينات بين حدّي الحداثة وما بعد الحداثة

تثير الناقدة الدكتورة بشرى موسى صالح، أستاذة النقد الأدبي الحديث في الجامعة المستنصرية ببغداد، في كتابها النقدي الجديد «عمود ما بعد الحداثة... النص الكاشف عن شعر التسعينات العراقي» الصادر عام 2021، مجموعة من الإشكالات النقدية والاصطلاحية الخلافية المتعلقة بتوصيف موجات حركات الحداثة الشعرية منذ الخمسينات عموماً، وشعر تسعينات القرن الماضي بشكل خاص.
وبوصفها ناقدة جادة، ومجتهدة، فهي ترفض الركون إلى بعض المصطلحات الشائعة في النقد الأدبي، ومنها مصطلح الجيل الأدبي، وتطرح بديلاً نقدياً عنه يتمثل فيما تسميه بــ«العمود» وتعني به عمود الشعر الذي هو إعادة تدوير للمصطلح التراثي الكلاسيكي الذي اكتشفه النقاد العرب القدامى واجترح اسمه لاحقاً المرزوقي. ومن جهة أخرى، فهي ترى أن حركات الحداثة في الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات تنتمي بشكل أساسي إلى مفهوم «الحداثة»، بينما ينفرد شعر التسعينات بالانتماء إلى مفهوم «ما بعد الحداثة» على الرغم من إدراكها أن شعر التسعينات يضم 3 تنويعات أساسية هي قصيدة العمود، وربما العمود المحدث الذي يطلق عليه مصطلح قصيدة الشعر، وقصيدة التفعيلة (الشعر الحر)، وقصيدة النثر، وهو تعميم لا يمكن القبول به.
ففي معرض رفضها لمصطلح الأجيال، تذهب إلى أن فكرة الأجيال تضع حداً فاصلاً بين جيل وآخر، حداً يقوم على موت الجيل السابق فنياً أو نقدياً، ليحيا على أنقاضه جيلٌ آخر، كما أنها ترى أن المعيار الزمني هو خارج عن الكينونة الفنية، وهو يذهب بدلالته إلى ما لا علاقة له بمفهوم الامتداد الفني الرافض لفكرة الموت، والانتفاء، والمؤمن بفكرة التحول.(ص7)
وأرى أن الناقدة الكريمة حاولت أن تختزل فكرة «الجيل» بهذه الحدود، متجاهلة التبريرات التي قدمها النقد العراقي للدفاع عن فكرة الأجيال الأدبية. فلقد سبق لي «بوصفي أحد المدافعين عن فكرة الأجيال» أن أشرت في أكثر من دراسة أن التحولات والانكسارات والانحناءات في تجربة الحداثة الشعرية ألزمت الناقد اللجوء إلى التحقيب والتأطير والتقنين، وأحياناً التجييل للإمساك بالظلال الرجراجة الهاربة لفضاء الحراك الشعري في مختلف مراحله وتقلباته، وأن الركون إلى فرضية التجييل التي أثبتت فاعليتها قد استطاعت أن تحل بعض الإشكالات التقييمية الدقيقة التي واجهت النقد في مراحل الحداثة الشعرية المبكرة. كما سبق لي أن ألمحت بوضوح إلى أن مصطلح الجيل لا ينصرف إلى جميع المظاهر والاتجاهات الأدبية خلال العقد المحدد، وإنما ينصرف إلى اتجاه مذهبي أو فني ومهيمن، مثل جيل الستينات الشعري الذي يشير إلى تجارب تجديدية محددة في الشعر العربي تختلف عن تجارب شعراء الخمسينات مثلاً. ولذا فقد عمد النقاد إلى عدم إدراج الكتابات الشعرية التقليدية تحت شعرية الستينات، على الرغم من أنها من الناحية الزمنية ظهرت في الستينات وعاصرت تجارب الستينيين. وهذا تأكيد على أن مصطلح الجيل في عرف النقاد العراقيين لم يشمل كل النتاجات الشعرية التي تظهر خلال عقد ما، أو جيل معين، ضمن مواصفات شعرية ذلك الجيل، وإنما اشترط توافر الجذر الفني المحرك أساساً، كما اقترح بعض النقاد إدراج الشعراء الذين لم يدرجوا تحت باب الشعر الستيني تحت مصطلح جديد هو شعراء الجيل الضائع، وهو ما لم تفعله الناقدة عندما عمّمت توصيفاً غريباً يدرج جميع أنماط الكتابة الشعرية التسعينية، وأعني بها قصيدة العمود التقليدي المحدث، وقصيدة الشعر الحر، وقصيدة النثر، تحت باب مصطلح شعر ما بعد الحداثة.
وفي دفاعها عن اعتماد مصطلح «العمود» بديلاً عن «الجيل»، تذهب إلى أن العمود في امتداده النقدي الاصطلاحي التراثي يلخص القوانين العامة لشكل الصياغة ومحتواها التعبيري في الثلاثية البنائية (الصوت، التركيب، الدلالة)، وتراه أنموذجاً يختزل دلالته الشعرية ويدلّ عليها، ولا يعتمد البعد الزمني فيه إلا إطاراً خارجياً، غالباً ما تتجاوزه اللوحة التعبيرية، وتغادر حدوده الفنية. (ص8) فالناقدة تعتقد أن شعر الروّاد أو شعر التفعيلة وما تلته من موجات حداثية يمثل «عمود الحداثة» في امتداد الماهية الشعرية الحداثية التي دشنها الرواد، وفتحوا بها أبواب الحداثة. وجرياً على ذلك واستقراء لعنوان الكتاب فهي توحي بأن النص الكاشف عن شعر التسعينات العراقي يتمثل فيما تسميه «عمود ما بعد الحداثة» وتعترف الناقدة بأن استعارة مصطلح العمود هو محاكاة الرؤيا النقدية التراثية، كما أنها ترى أن هذا المصطلح يجسد الرغبة في تعميق روح الامتداد عبر التحول، واستقراء الدلالة النقدية التي يحملها مصطلح العمود. ومن جهة أخرى، فهي تعيد توصيف مشروع ما بعد الحداثة القائم على التشتت والتقويض واللامعيارية، وحمولات الفلسفة والفكر المتحكم في الرؤية الثقافية، وتسقطه قسراً على تجربة الشعر التسعيني بأجنحته الثلاثة؛ العمودي، والحر، وقصيدة النثر.
وفي تقديري أن شعر التسعينات بشكل خاص من خلال هيمنة شكله العمودي المسمى بقصيدة الشعر يمثل انتكاسة وارتداداً عن مشروع الحداثة، أو لا يقترب من شواطئ ما بعد الحداثة مطلقاً، وربما يمكن أن نستثني تجارب شعرية محدودة مثل شعر عارف الساعدي الذي يقترب، بصعوبة، من فكرة الحداثة، لكنه يظل بعيداً عمّا بعد الحداثة، إلى درجة كبيرة، لكننا من جهة أخرى نتفق مع الناقدة في أن بعض تجارب قصيدة النثر التسعينية، ومنها تجربة الشاعر عبد الأمير جرجس تقترب إلى حد كبير من ضفاف مشروع ما بعد الحداثة. كما يمكن لنا إدراج تجارب قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر التي تمثلها في الكتاب بشعر الشاعر مشتاق عباس ضمن مشروع قصيدة الحداثة.
وفي كتابي النقدي «رهانات شعراء الحداثة» (2019) وجدت صعوبة في تقييم وتقويم وتوصيف التجربة الشعرية التسعينية. وقد أشرت في حينها إلى أن قصيدة الشعر تلك ظلت متسمة بالاستسلام للموقف الغنائي الرومانسي والذاتي إلى درجة كبيرة، وهو موقف يذكرنا بكثير من تجارب الرومانسيين العرب من مهجريين وشاميين، بينما قصيدة الحداثة لم تعد - هذا إذا أردنا إدراج قصيدة الشعر إلى فضائها - تحتمل مثل هذا الغناء الرومانسي الحالم، وهذه النزعة النرجسية الشديدة والاقتناء بالذات، إذْ راحت قصيدة الحداثة تكشف عن رؤيا فلسفية، وربما متفلسفة للعالم والإنسان، ما جعلها تكتسب هدوءاً وعمقاً وتأملاً، وأكثر ميلاً للشعر المهموس الذي لا يطمح إلى ارتقاء منبر الخطابة المباشرة، فالملامح الحداثية التي أخذت بها قصيدة الشعر التسعينية لا تكفي، لأنها تضيع، في الغالب، داخل رؤيا عمودية. وألمحت إلى أن نخبة شعراء التسعينات تكمن في اقتصار ثقافتهم على الثقافة التراثية التقليدية أساساً، ولم يحاولوا الاطلاع على تجارب الشعر العالمي الحداثية عن طريق أصولها اللغوية أو مترجمة، كما أن مرجعياتهم الثقافية ظلت محدودة، وكانوا ينهلون من منابع محدودة، ويتعلمون بعضهم من بعض، وأحياناً يكررون نماذج معروفة مكررة. ويمكن القول إن ثقافتهم أقل بكثير من ثقافة شعراء الخمسينات.
ولذا، فإن التجربة الشعرية التسعينية العراقية بحاجة إلى إعادة قراءة وتأمل، وشخصياً لا أخفي إعجابي باجتهادات الناقد علي سعدون في كتابه «جدل النص التسعيني» (الصادر عام 2010) ففيه كثير من المعالجات التي اشتبكت مع طبيعة هذه التجربة الخلافية.
ومن ذلك نرى أن مصطلح العمود، الذي اجترحته الناقدة لا يفي بالغرض ليكون نصاً كاشفاً لتحديد خصائص أي تجريبية شعرية، ومنها شعر التسعينات العراقي، وإذا كنا بحاجة إلى معيار نحتكم إليه لمثل هذا التقييم يمكننا العودة إلى مفهوم الأدبية الذي سبق للناقد رومان جاكوبسن أن اقترحه، والذي أصبح فيما بعد مقابلاً ونظيراً لمفهوم الشعرية، إذ يرى جاكوبسن أن مفهوم الأدبية يذهب إلى الكشف عن المقومات التي تجعل من نص ما حاملاً لمقومات الأدبية، وكان جاكوبسن أحد أبرز ممثلي الشكلانية الروسية قد قال عام 1919 إن هدف علم الأدب ليس أدبياً. وبدلاً من البحث عن الخصائص المجردة مثل الخيال بوصفه أساس الأدبية، ركز الشكلانيون الروس على المحسنات البلاغية البارزة للعمل الأدبي، وخاصة الشعري، وهم يؤسسون للغتهم بمصطلحات عن الوزن والقافية وبقية الأنماط الصوتية والتكرار. وكانت «الأدبية» تفهم بوصفها نزعاً للمألوفية عن طريق سلسلة من الانزياحات عن اللغة «المعيارية» «أو الاعتيادية»، ولذا تبدو مثل علاقة بين التوظيفات المختلفة للغة، والتي تكون فيها التوظيفات المتناقضة عرضة للانتقال على وفق السياقات المتحولة.
ومن هنا نخلص إلى القول إن شعر التسعينات يستحق منا نحن النقاد جهداً استثنائياً لفحص مفاصله المختلفة، وحسناً فعلت الناقدة أ. د. بشرى موسى صالح بوقفتها النقدية الجادة واجتهادها النقدي الاصطلاحي لإعادة قراءة وفحص وتقويم شعر التسعينات العراقي. وهذا الأمر لا يمنع الدخول معها في سجال نقدي جاد حول بعض المفاهيم والمصطلحات والإجرائية التي اجترحتها أو أعادت تدويرها مثل مصطلح «العمود» وأحكامها الخاصة بمفهومي الحداثة وما بعد الحداثة، وارتباطها بحركات الحداثة الشعرية، وبشكل خاص شعر التسعينات العراقي الذي ألصقت به قسراً سمة ما بعد الحداثة وهو منها براء.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.